الشعر العربي التقليدي ، بأسلوب نظمه المقفى المعروف،وتعبيراته الرشيقة، وجرسه المتناغم، ووجدانيته الساحرة، سواء ذلك الذي ابدعه الصعاليك، أو أصحاب المعلقات، او من تلاهم من الشعراء الفطاحل، هو ذلك النمط الشعري الذي ظل حاضراً في التداول باقتدار على مر العصور، وتمكن من أسر وجدان المتلقين، ونال إعجابهم، رغم اختلاف الظروف، وتغير الأحوال، ناهيك عما لحق بالحس، وبالذائقة، المبدعة منها، والمتلقية، على حد سواء، من عجمة مقيتة، ورطانة مقرفة .
وقد ظلت القصائد المطولة، وفي المقدمة منها المعلقات، النموذج المعياري للشعر الرصين، مبنى ومعنى، شكلاً ومضمونا، حيث لا زالت في سياقاتها البنائية، هي مرجعية الإشارة، والاستدلال، على جودة النصوص، التي قيلت، والتي لا تزال تقال،وذلك إضافة إلى نصوص القرآن الكريم، نظرا لفصاحتها، وبلاغتها، وسمو بيانها.
ولقد تفاعل الحس العربي المتلقي، والمبدع، مع هذا النمط من الشعر الأصيل، بسليقة عربية خالصة، وبحس وجداني مرهف ،منذ ذلك الحين الذي قيلت فيه تلك القصائد، مروراً بعصرنا الراهن، والى أمد قد لا ينفصم، وذلك بسبب تناغم المعيارية الفطرية للذات الشعرية العربية ، مع المخرجات الإبداعية، حتى قبل ان تعرف المنهجيات المهنية للمعياريات المعتمدة اليوم.
ومع ان ايقاع حركة الزمن المتسارعة ، وما ترتب عليها من تطور هائل في كل مجالات المعرفة، ومنها بالطبع، ما طال اللغات، واللسانيات، ولاسيما ما افرزته الحداثة، وما بعد الحداثة، وما ستأتينا به قادمات الأيام، من أساليب جديدة، لا عهد لنا بها، من منهجيات تفكيكية جديدة، قد تعبث باصالة هوية الشعر العربي، تحت ذريعة التجديد، ومواكبة الحداثة. إلا أن الشعر العربي ظل صامدا بأرومته، محتفظا بهويته، متمسكا بأصالته، فظل نقياً بجينات ضاده، كما ولدته بيئته في نشأته الأولى، فظل انتماؤه شرعياً للشنفري، والحطيئة، والسياب، وشوقي، والجواهري…..
وإذا كان تسارع ايقاع العصرنة، رغم كل ما افرزه من إيجابيات في المنهجيات، قد فرض الكثير من التداعيات على الحياة الإنسانية المعاصرة ، بما فيها التطور الذي طال الكثير من اللغات، سواء منها ما يتعلق باستيلاد مفردات لا معجم لها، وبدلالات إصطلاحية، للتعبير عن محدثات جديدة، أو ما يتعلق منها بمجال دارج التعبير اللغوي اليومي، فإن هذا الأمر قد أخذ طريقه بسلاسة، إلى ما بات يعرف اليوم، بشعر الهايكو.
ولعل هذا النمط من الشعر جاء متوافقا في بنية نظمه، وفي تقزم استرساله، مع حقيقة ظاهرة التمركز، والاختزال التي فرضها ذلك التسارع الهائل فنياً في حركة التطور، والحداثة، على مجمل الأنشطة، والفعاليات الإنسانية الراهنة ، حتى كاد انسان اليوم، يصبح اشبه ببرغي متهالك ، في ماكنة التقنيات المعقدة .
ومع كل ذلك، فلا يزال الشعر العربي التقليدي ، بما هو إنجاب لأصالة ضاربة الجذور، مكانا، وزمانا، وإنساناً، وبيئة، عصيا على التشوهات، ويأبى المسخ، حيث ما فتئت الساحة الأدبية العربية ولودا، ومن ثم فهي ما برحت تنجب أجيالا جديدة، من فطاحل الشعراء الافذاذ، والأدباء المبدعين، الذين ما انفكوا يتواصلون في جودة نتاجاتهم، بآصرة من الأصالة الخالصة،متعشقة بقوة مع ما ابدعه الصعاليك، وأصحاب المعلقات، وعلى نحو يأبى الضياع، ويتمرد على الاستلاب.