لمناسبة الذكرى العاشرة لرحيله
تبقى الذكريات بعد رحيل الأحباب وخاصة الأدباء , احيانآ , مؤجلة وإن هي بحكم التأريخ لا تتعدل ولا من حيث جوهر احداثها تتعدل , لكن يتعدل بها تغيير زاوية النظر الى إرثهم , لأنه يظل مصدرآ يبوح عنهم كبشر ما استنهض واستعصم من قيم واخلاق في سلوك تفاوضهم الإنساني مع الحياة منذ الصبا وريعان الشباب الى الرحيل نحو المقابر ,
فمنهم من استبشع ظالمآ وانقاد الى قصيدة يهجوه , ومنهم الى رسم لوحة تشكيلية يهجوه , وآخر الى كتابة قصة او رواية , اي انهم اختاروا هجاء مايعيبهم من هذا وذاك , وبذلك قد شقّوا عصا الطاعة بينهم وبينه وانتهى منهم من انتهى الى الظلمة , ومنهم الى الحقد والضغن او الإقصاء والتهميش ,
وفي ذكرى رحيل الشاعر البصري – العراقي حسين عبد اللطيف , نجد انه هجا الحياة من اساسها الى اعلاها بقلم الشعر حتى عندما عبست عليه بموت ابنه , ولكن لم تلقِ به الى تلك الظلمة , فظل الى الموت يهجو بالصراخ والوعد والتلميح والهمس , اولئك الذين صنعوا له تلك الحياة :
لم يكن ثمة بد
فنحن اسرى عاداتنا
قطيع من الحمر الوحشية
يرعى
طليقآ
في البراري
ولكن
ابدآ
بثياب السجن ( الزيبرا – ص 110 )
الى ان اسفع قلبه بهذا الإصرار ليحفظ انسانيته من ظلمة السفهاء , لأنه وجد الهجاء بالشعر يبقيه منتصبآ لتعلم البريّة من بعد انه كان بوداعة الأطفال يتأوه من وحشيتهم التي القوها على عاتق الحياة :
ماكان له
هذا الجسد – القارب
ان يحملني
لتخوم اجهلها ( لم يعد يجدي النظر – اوقات ص 19 )
لذلك نال اعجاب الأدباء , بل وصفقوا لإنسانيته كثيرآ من خلال منجزه الأدبي , الذي إرتكز على كتابة القصائد النثرية وقصائد التفعيلة , وصفق له من زامله بالدراسة والمحلة , سواء كان قاصآ او روائيآ أو شاعرآ أو ناقدآ أو تشكيليآ , وهؤلاء كانوا من نخبة التيارات الأدبية الثائرة والمؤيدة والمجددة للتيارات الأدبية الكلاسيكية في العراق , فقد كتبوا عنه وهو حيُّ يرزق ,
ورفعوه على الأكتاف كأنهم رفعوا انسانيته الراحلة , واعلنوا عما استوجب من رثاء له في صحف كثيرة وفي اعناقهم غُصص الآلام والأحزان والخسارة , حرصآ منهم على الوفاء لشاعر دوّى إسمه وشعره في مسامعهم , نظرآ لقربه منهم ورحيله العَجِل عنهم , فقد كان الراحل يقصد البعيد السمين والمتوازن بالشعر وبغيره من صنوف الأدب والفن ,
ويزور القريب الرشيق والشقي بالشعر وبغيره , وبالحماسة نفسها يقصد مجالسهم وافراحهم مستصحبآ معه مايعرفه الأدباء عنه من هجاء ساخر ينفلق لتفوز به مغامز الخاصة جدا من أصدقائه , لتزيد من طراوة الوجوه عند الجلوس بالضحك الآسر بدلآ من العُبوس ,
وكان يقرأ لهم نصوصهم ويفككها كما يفكك عفاف التيزاب خفايا الذهب , وله في ذلك مقالات تثير لهم الآن الكثير من الذكريات , وربما تستنزف دمع المحبين له حينما تُقرأ , فضلآ عن كونها نماذجآ , لاشك , تصلح لمناهج تعليم النقد بشكل عام .
فمثلما كانت تلك النخب بأصنافها الأدبية والفنية تكتب عن الشاعر حسين عبد اللطيف , كان هو نفسه يكتب قبل الرحيل عن قبح الحياة واللاجدوى منها برؤية وفكر إنساني تزين يستقبح دون الجميل ودون الهزيل من ناحية :
بيتي هنا , بيتي
صحت .. واومأت
لكنما السابلة
مروا على بيتي
ولم يروا بابه (ادراج الرياح – ص 10)
ويستقبح لها اختيارها سبل الخوف والفقر والحزن والقلق والكآبة وغلبة الخيبة والعزلة :
قلبي الذي ارتجيه
هو الذي خان بي
فلم يعد صاحبي
….
….
وها انا
ها انا
لاحنطة في يدي
ولا على
شكواي
عندي شهود ( عندليب الأسى – ص 16)
كأنها تختار الإسلحة التي تجابه بها الإنسان ليحير بها ويشتكي آلامها بدلآ من سبل السُّلوَّة من ناحية اخرى ,
لكنه بالشعر السمين بالواقعية والتراث والأشكال والأرناق (= الألوان ) , قاد عيون الناس الى تقلّبها وبشاعتها , منتصبآ غير منهزم بعاهة العقاقير الطبية , وبلا رغبة منه ان يتميّز بهذه الكتابة عن غيره بصيغ فرعونية , بل اراد ان يتميز بها بصيغ نقدية إنسانية تعزّ الإنسان وتدافع عن قدراته الجسمية عند تفشي تلك الأسلحة بين طبقات المجتمع , لكي لا يُساء اليه أو يُعال عليه , بل ليكون معوّلآ عليه في كل الأحوال ,
فكانت قصائده بمثابة اغاني لتجارب وجدانية تتناسب كثيرآ بمزاياها مع مكونات وشي الشعر الرومانتيكي وهوس الحنين الى الإلفة المحسوسة من براءة الأطفال , وتحيل الى تذكر أغاني البراءة والتجربة التي كتبها وزيّنها بالرسوم الشاعر الأنكليزي وليم بليك قبل بزوغ الرومانسية بوقت قصير ,
وأغاني الغجر للشاعر الأسباني لوركا الكثيرة بالشبه بخصائصه الشعرية التي درج على ملئها بالواقعية والتراث اللغوي البصري- العراقي التي الِفها مقنعة في إيصال كونه ليس مارقآ أو منحرفآ او مفسدآ لكي تعامله الحياة هكذا بوسائل تصدّع وتدمّر توازنه الإنساني ,
ولكن بتلقائية من يقع عليه الكرب من شحة المعادل الموضوعي لهذا الصنف من الحياة , وليس عن عمد ليصطاد بها عطف القاريء كما يصطاد الشحاذ الفكة من ايدي السابلة , وغايته كانت ان يعالج ويقاوم الشّح الذي تفاقم جراء تفشي تلك الأسلحة , بوظيفة النقد ومهمة القواعد الشعرية الأخلاقية دفاعآ عن روحه وجسده وليس بغير حدود الشعر كما تفعل قواعد الفساد لمقاومته ,
حتى غدت قصائده المصفوفة بتغاير الأسى والإحباط اللذان اوقعا في قلبه الهمَّ والقهر , وثائق ادانة واعتداءات وتظلّم , مستلّة من يومياته بسِمات النضج العقلي , فتارة يعنّف بها الحياة وتارة يوبّخها بوقفة مجابهة معها وهي تسرق منه ولده البكر حازم :
يامرة الطعوم
والمشارب
تفرقين صاحبا
عن صاحب
إليك عني..
مرة أخرى
كفاك صفعا..
أيتها الحياة
وتطعنين ! ( قصيدة ليس أن يحملك فجأة هذا القارب(
, وتارة يلومها على مافعلت به واختارت لروحه وجسده الحر المستقل , السبل الخاطئة لهما , ليبدأ رحلة الصراع مع نوائبها التي تأتي اليه بالهموم والعزلة مرة , ومرة لاتلبث في ابتعادها عنه حتى تعود اليه ثانية :
راقبت على الطرقات المارة
يغدون، يروحون
لم يعبأ بي أحد منهم
يغدون، يروحون
لم يعبأ بي أحد
يغدون، يروحون
لم يعبأ لي أحد منهم
أرأيت؟
سأنام اللية، إذ إني متعب
وغداً مع (لعبة صبر) أخرى.
هذا التوظيف بالشعر في مايراه كان بمثابة العزاء على فضائع جورها واعتداءاتها على روحه في حكمها القاسي ليبقى جسده مغردآ بأساه :
لي من اساي انا
في منزلي : عندليب
يسمعني
عند الصباح : النحيب
وفي المساء : النحيب ( عندليب الأسى – ص 15)
الذي لم يجد منه بُدآ من ناحية , فكان سبيلآ حتميآ وليس تقليدآ للسير والدخول في ذلك الوشي الرومانسي الذي ساح من قبلُ في العالم كنوع من الأدب الوجداني ,
بهذا الأسى الذي افرده من بين الشعراء, ظل به حسين عبد اللطيف شاعرآ غرِّيدآ مشغولآ وقضيضآ منذ القصائد الأولى , كطحان بغبار ما يدق من قمح ويجرش , وعاش إنسانآ ناقدآ ورافضآ لكل تأثيرات المعايير والمعتقدات السياسية التي جاءت بها الحياة بحِصرِمها وزبيبها , عدا معايير الأدب , الذي استهواه كعلاج طبيعي لما تسبب به التفكير في شدة النظر الى سوء فِعالها ورديء نشيدها اليومي , وتقمّط فيه حتى النهاية من ناحية اخرى .