17 نوفمبر، 2024 2:25 م
Search
Close this search box.

الشاعرة واجدة العلي .. قلق وانفعال وسخرية هادئة

الشاعرة واجدة العلي .. قلق وانفعال وسخرية هادئة

يبقى النقد يلاحق المعاني الكامنة في خبايا النصوص، كأسرار عصية على الادراك الرؤيوي، لولا سلاح القراءة بانواعها المختلفة، والتي تُظهر بان النصوص ولاسيما الحديثة منها لاتخضع لمنهج محدد، انما لكل حالة مقام من النقدية التي تصاحب تلك النصوص، وهكذا قد تتعدد تلك المقامات وتتلاحم، لاجل استرداد المعاني المتخفية في نصوص الابداع، سواء كان الابداع شعريا او سرديا متخذا هذا الابداع اللغة مطية له في مغايراتها المتعددة، وتبقى اللغة المجازية في هذا المثام ناقلة بصور افتراضية لخلجات الانسان المبدع واحساساته تجاه الحياة والكون .. يقول ديمقرطس : (ان الاحساس هو المصدر الوحيد لمعرفة الاشياء في العالم)، ولهذا فان الشعر معرفة انسانية تحمل معطيات الاحساس والرؤية معبرا عنها من خلال تلك اللغة المجازية.. وبما ان (القصيدة الجديدة لم تعد شكلا جاهزا يستقبل كل انواع التجارب باختلاف نماذجها وحساسيتها وعمقها ونضجها، بل هي “عالم ذو ابعاد .. عالم متموج متداخل، كثيف بشفافية، عميق بتلألؤ، تعيش فيها وتعجز عن القبض عليها، تقودك في سديم من المشاعر

والاحاسيس، سديم يستقل بنظامه الخاص” بعيدا عن أي خارج على النحو الذي يجب معاينته هو بكل ما ينطوي عليه من خصوصية وتفرد، وعبر قراءة حرة لا تذعن لأي مؤثر خارجي)ص33، من هنا نجد الرؤى كائنات حية تتحرك في اشكال مختلفة، وتحتاج لفراسة في تحديد تلك الاشكال ومعنى الوجود، وهذا يحيلنا الى ان الشعر عبارة عن اسئلة متوالدة والوجود والكون، فـ(الشعر والوجود، يشكلان بؤرة رؤيوية تأويلية تعددية تدرك الكينونة بوصفها انفتاحا للموجود، ولذا فما فتئ هيدغر باعتباره باحثا أصيلا في العلاقة التواشجية بين الشعر والوجود، يؤكد “على أن الإنسان لا يستطيع معرفة ما لا يمكن حسابه، أي أن يصونه في حقيقته، إلا انطلاقا من مساءلة خلاقة وقوية تستمد من فضيلة تأمل أصيل، فهذا الأخير يحمل إنسان المستقبل إلى مكانه بين الإثنين: الوجود والموجود، حيث يكون من طبيعة الوجود، والحالة هذه، أن يظل غريبا في قلب الموجود، وهذا المكان هو الكينونة هنا أو الوجود في العالم باعتباره مجالا لدنيا انفتاح الوجود وانسجامه واحتجابه في آن معا”.)، من هنا اجد الشاعرة واجدة العلي، تعيش اجواء الجدل وطرح الاسئلة عبر كلماتها الشعرية، حيث تقول :

(يستطيل السؤال

في رئة المعنى

مثخنا بالمرارة

طاعنا بالعطش

إذ ﻻ إجابة شفيفة

تستكين على أعتابها الروح

حين تختبيء

نواياك الحسنة خلف سواتر مقتك المستحدث

وفي الصمت

ياصديقي تتداعى الملغزات

أي فجاجة هذه التي

ربضت على مشارف الوعي

حين ﻻ أفهمك ؟

ثمة تساؤل جش

تفاصيل حسن الظن بفداحة مايحدث ؛

ويالهشاشة التوق

حين تمرغ وداعتك بفضاضة ناصعة !

ضحاك صار العمر علينا ياصديقي

ونحن نركل براءتنا بمقت ﻻذع

مكشوفة للملأ جذوره ؛

ويالصنيعتك التي

كورتني في قبضة الذهول

فاغرة أفواه تساؤﻻتي !

لكنني الآن يابعضي

سأندلق في قبضة الصمت من جديد

كي أدحض شراهة التأويل

من سجل صباحاتي !)

هذا الجدل المستمر بين اللفظ والمعنى وبين الشاعرة العلي نفسها وبين الشعر، كونه التعبير عن خلجاتها تجاه الواقع المحيط الذي تتنفسه بصمت وبوحدة تجترح لها الاخر المفترض، وهنا تتخذ طريق السخرية بينها وبين الاخر الغائب فاغرة أفواه تساؤﻻتها !

المتوالدة دوما، بيد انها تقول : (سأندلق في قبضة الصمت من جديد

كي أدحض شراهة التأويل/ من سجل صباحاتي !)، والصمت دلالة واضحة على حضورها وحيدة دون ذلك الاخر المفترض.. وهكذا فان الشاعرة في جدل مستمر داخل القصيدة، محاولة منها البحث عن الذات، فـ(الذات معناها نشاط موحد مركب للإحساس والتذكر والتصور والشعور والتفكير، وتعتبر نواة الشخصية. وتقسم الذات إلى ذات واقعية وذات مثالية. فالذات الواقعية هي ذات حقيقية أو فعلية تمثل مستوى الاقتدار، في حين أن الذات المثالية هي ذات تطلعية يؤمل منها أن تكون -أي تمثل- ما يطمح الفرد أن يكون أو يصبح. إن الذات بناء معرفي يتكون من أفكار الإنسان عن مختلف نواحي شخصيته، فمفهومه عن جسده يمثل الذات البدنية ومفهومه عن بنائه العقلي يمثل مفهوم الذات المعرفية أو العقلية ومفهومه عن سلوكه الاجتماعي مثال للذات الاجتماعية. ويركز علماء النفس الإنساني على بناء الذات عن طريق الخبرات التي تنمو من خلال تفاعل الإنسان مع المحيط الاجتماعي، ويطلقون على العملية الإدراكية في شخصية الإنسان (الذات المدركة) والتي من خلالها تتراكم تلك الخبرات، فيتم بناء الذات ويكُون الفرد مفهوماً ًعن ذاته.

ولما كانت الذات هي شعور الفرد بكيانه المستمر وهي كما يدركها وهي الهوية الخاصة به وشخصيته، فإن فهم الذات يكون عبارة عن تقييم الفرد لنفسه، أو بتعبير آخر هو مجموعة مدركات ومشاعر لدى كل فرد عن نفسه.)، لهذا تسخر واجدة العلي كثيرا بقولها :

(كي أربي

بلاهتي

وسذاجتي اللذيذتين ..

علي أن أنتعل الفراغ !

صوب ﻻشيء مزمع

وأقحم الذات بهلوسة شاسعة

إذ لاحلحلة ، لما ترنو لها الروح،

من ﻻمبالاة خاشعة

سوى بانفاق قهقهاتي بالتهكم

على كل ماﻻيروق لي !

والتبضع من سخرية مشفوعة

بسرب من ال ههههههههههههههاااااااااااااااااااااااااااااااااااا ي

ﻷكون : أفقر امرأة بالضجر !)

وسخريتها تكمن في جدل اخر بين الوجود الحسي والروح، باعتبار اقحام الذات في هلوسة لاحدود لها لما ترنو لها الروح، كمثالية تبقى بعيدة المنال في مساحات الشعر المكتنزة بالمثالية والخيالات الجامحة، يقول هيدغر: “الوجود سؤال، لكنه ليس من الموجود في

شيء”، إذن فالشعر يبقى تحفيز دائم على المشاكسة المؤزمة لنسق العقل [الأداتي ]، وهي مشاكسة ومكاشفة في آن واحد، فالمكاشفة تجل للمفارقة الحيوية، والمشاكسة تجل آخر للاختراق والخلخلة وتأزيمها للعقل يتم باغتصاب قانون اللغة وتدمير قواعد التواصل اللساني، ومن ثم لا تصبح الكلمات دالة على العالم الوضعي، ولكنها تغدو دالة على الأشياء ذاتها، وهي في كامل عريها ووحشيتها، وهو عري إغراء ولذة، وانكشاف وافتضاض، كما في قولها الاخر :

(تهمس الضفيرة

لسحابتها

أتشبث بالتجلي كلما شكوت

لم أذق أنامل الريح مطلقاً

قبالي تلعن

الوردة نداها

ولم يرتاد السنونو ضفافه

حتى تشظت حسراتي

والريح كتاب مفتوح

تتهجاه الطيور

على مقربة

من درس معتوه

فر منه الوعي

ليكون

غلافا ﻻ أكثر

يوهم

الطير بوكر من خيوط العناكب)

فالجدل الحاصل بين (أتشبث بالتجلي كلما شكوت)، و(قبالي تلعن

الوردة نداها )، و(والريح كتاب مفتوح /تتهجاه الطيور على مقربة

من درس معتوه/ فر منه الوعي)، كانت نتيجته، صيرورة الوعي كغلاف (يوهم الطير بوكر من خيوط العناكب)، وهنا عاشت الشاعرة خلجات نفسية في انفعالات شعرية لاتخلو من وعي اللحظة الشعرية التي عاشتها العلي في تجليات الشعر وهو بمثابة تيه .. لكن كما اسلفنا ان القصيدة الحديثة باتت وعاءا يستوعب الخلجات والاحساسات الانسانية بتبدلاتها ولا تخلو من وعي يحضر واللحظة الشعرية الابداعية، وبما أن الشعرية هي نداء التجدد، فإنها من جهة أخرى تمارس فعل سلب الواقع، وتتجاوز مماثلته، بتفعيلها لحركية الانزياح، تقول العلي:

(الرقصة المطعونة :

كيف لها أن تلمس الشمس ؟

والخصر رماد ، صيره الأوغاد

سيرك أهوج هذا الكون ..

يصفعني الجنون

وأنا أمضي مغرورقة بالوداعة ..

أفتح باعي للرصاص ..

والظن قناص

تتلقفني المقل بشراهة التأويل

وأنيي رجس من عمل الشيطان ؛

يااااااااا أيها الرحيم :

سجل : على قفا غيابي القادم ؛

ذنبا أغر ! إذ ﻻ مفر ؛

من قبري المزمع ،

سوى ؛ وقفة في حضرة

العشق بخشوع

ورقصة على هذا السلك

بفتون

لينفلت مني

ظلان أنا وأنا ،

فيشربا الردم

على ريق الرقصات الخائبات !

ولن أكترث للتجني الفاغر فاه

ولينتهي السيرك بتصفيق

أنيق اسمه موت مسافر

يشجبنا ذات روزنامة خاوية

من أرقامنا المحشوة خطوات !

لم يكن بيني وبينهم

سوى خرقة تعصب ضفيرتي ،

أولئك المتهافتون على قرقعة

الإلتماع ،

لم يكن بيني وبينهم ،

سوى تلك الخرقة المنهمكة

بلملمة شهقات ضفيرتي ..

ثمة غصة تملأ الروح بغزارة ..)

هذا صراع الواقع بتمظهراته، تقابله صراع الذات التي تحاول اثبات وجودها، غير ان شاعرتنا تتخذ طريق الشعرية للتعبير عن هذا الصراع، وان طريق الشعرية، لهو طريق تيه ليس له حدود، بل هو تحليق باجنحة الوهم حول الحقيقة التي ترتدي الزئبقية والمرونة في توالد الاسئلة حولها .. فقولها : (لم يكن بيني وبينهم/ سوى خرقة تعصب ضفيرتي ،/أولئك المتهافتون على قرقعة الإلتماع ،) وهذه مقارنة بين التوهج الظاهري الذي يحمله المتهافتون وبين التوهج الروحي الذي تحمله الشاعرة الباحثة عن حقيقة ذاتها وسط هذا التهافت بتصرحها (ولن أكترث للتجني

الفاغر فاه)، وهكذا تبقى الشاعرة واجدة العلي منفعلة وقلقة تارة وساخرة هادئة احيانا من خلال مقاطعها الشعرية ..

أحدث المقالات