6 أبريل، 2024 11:49 م
Search
Close this search box.

الشاعرة : أمل الجبوري … لعب الشعر على الجسد

Facebook
Twitter
LinkedIn

يطرح الفضاء الإشكالي لعنوان مجموعة الشاعرة أمل الجبوري (لك هذا الجسد – لا خوف عليّ) خلطاً لدلالة الجسد والاشتغال الشعري المتضامن معه سعياً في أن تجد غايتها الشعرية فيه، الأمر الذي يسمح بتداخل كلام الجسد مع الذات المتكلمة وهو لعب غير اتفاقي يعبر عن الاختلاف الذي يشكل أحد عناصر المغامرة الشعرية، غير أن الأمر يترك حيرة وتساؤل: هل أن الجسد مكاناً حصيناً أم أنه ملجأ لفرار الآخر من شدة الاهتمام به؟!
ففي الوقت الذي يبدو فيه الجسد حصيناً متجبراً في بعض نصوص المجموعة، يكون في البعض الآخر امتداداً للغة الشعر باعتباره مصدراً – للمعنى والعاطفة والمال – ثم إذا كانت الحركة الجسمانية في شعر (أمل الجبوري) متجاوزة لمديات اللغة، فأن تدمير مفهوم الجسد عبر بنية العنوان يمثل إشكالية لابد أن تكون صادرة من رغبات الشاعرة المحالة إلى الشك، لاسيما وأن اشتغالات الشاعرة (أمل الجبوري) تقوم على كتابة الشعر من أجل إثارة الشك، وعلى وفق هذا التصور يتحول العنوان إلى امتداح للجسد بما يضيفه من معنى آخر ومختلف، عندئذ يمكن للشاعرة أن تتجاوز مخاطر هذه الإشكالية ذلك أن الشعر وبجانب كبير منه يسمح لكل ما يجعل المغالطات أمراً ممكناً ولا تعد ارتكاباً لخطأ، خاصة إذا لم يأت الشك من دوافع الريبة أو سوء الظن، اللذان يولدان الخيبة والندم، وإنما هو متأت من رماد الاحتراق في باطنية الأنوثة، ولهذا السبب فأن الشك ينتج سيلاً من الاحتجاجات في نصوص المجموعة، بل أن الشك في اشتغالات الشاعرة (أمل) شيء متفرع من الجسد يتمركز بحضوره الدائم ويطلق نداءات متواصلة:
أصدقائي
الذين توهمتهم طوق نجاة
كنت البحر أنا .. كنت الغريق
كنت نبض المسافة
التي طلقتها الوداعات الكبيرة
وخانها كذب الطريق
أصدقائي
الذين رحلوا في الشتات
لم يتركوا لي الوقت
لا خطط للعناق الطويل
والقبلة الأكثر طولاً
والموت النبيل
تتخذ فكرة شعرية الجسد عند الشاعرة (أمل الجبوري) أنماطاً متعددة للحضور الجسدي استناداً إلى حضور الجسد بصفة كتاب بسطور مفتوحة، وما يتطلبه هذا الكتاب من قراءات مختلفة، أما الجسد الحامل للحياة فيقابله الجسد الحامل للموت، وبين هذا وذاك يتواصل الشعر حيثما أتيح للجسد أن يكتب. إن بعض نصوص المجموعة تتجاوز السياج البدني للوصول إلى التعبيرات الجسدية العميقة، في حين تنشغل بعض القصائد بما يقف عند حدود الجسد الموصوف وهو اشتغال لا يأخذ بالتفريق بين الموصوف والملموس، لكنه جزء من اشتغالات الشعر على مفهومات الجسد، حيث تشتغل بعض القصائد بأقرب ما يمكن من اعتبارات (السلطة الأنثوية) في الجسد ولا تخلو نصوص المجموعة من اشتغالات مجردة من أية علاقة جسدية، ولنا أن نتوقف أيضاً عند طبيعة اشتغالات النصوص على توجيه الأفعال الجسدية شعرياً. إن قصيدة (على حافة الفراق) مثلاً تمثل حضوراً مليئاً بوظائف الجسد!
هكذا دون اعتراف (الجسد)
أنه فجيعة الألم
الجسد مسجى علة وجد دون حدود
غير خديعة الشرق
والرمال المتشابهة بوعود الرجال
ثمة تبايناً في اشتغالات الشاعرة (أمل) يتضح بين الأهواء التي تقع في برانية الجسد وبين محادثة الشعر للجسد بمعنى أن الجسد المتعلق بالأبصار يدفع بعيداً بعائدية بعض النصوص لمعاني الجسد معمقاً الفارق بين الإذن الملتفتة والإذن المستمعة، حيث لا يحضر الجسد أمام أنظارنا فتسقط الألفاظ الشعرية في برانية الاشتغال على الجسد، أن لعبة الاشتغال الشعري القائمة على التعبير بالجسد تدعونا إلى المشاهدة من دون اختلاس نظرة واحدة، وبالتالي ابتعاد الكتابة الشعرية عن الكثير من الأجساد التي تتصرف بتعبير كلامي.
إن اشتغالات الشاعرة تمثل مجموعة اختلافات تدور حول إمكانات الجسد في الإبلاغ الشعري، وهي بذلك تأخذ اتجاهين يعاكس كل منهما الآخر، أحدهما يرصد الحركة الجسمانية في الشعر، في حين ينشغل الاتجاه الثاني بملامسة الفعل التخييلي في الحركة الجسمانية، أي ان الاتجاه الأول يتوق إلى إنتاج شعراً جسدياً خالصاً، بينما يبقى الاتجاه الثاني معنياً بإنتاج شعر يتطلب حركة جسدية، فكل منهما يقيم في مستوى آخر من الفعل الشعري، لكن كلاهما حاضر بصفته الجسدية، وتبعاً لذلك تصبح استجابة الاشتغالات الشعرية للجسد استجابة لا مفر منها بسبب أن الجسد يمتلك حضوراً دائماً في إبعاد المكان، زد على تأصله في الزمان، وأياً كانت المعاني التي يثيرها فهي تمثل أغناء لدلالات المنظور الشعري وتوسيعاً لآفاقه التي تسمح بانتقال الشعر من الذات إلى الآخر وما يحيط به من ظواهر تعج بشعرية الجسد المتحرك في محيط بعينه، وهو المحيط المفتوح الرافض للذات الشعرية المغلقة، إنه ضرب من تحرير النص من تبعيته لشاعرة، حينما يشتغل في مجهولية فضاء ما يجاوره، ولذلك فأن نصوص أمل الجبوري تحتمل القراءة المتباينة بين نص وآخر، فعلى سبيل المثال وفي قصيدة (أنا امرأة أرضية – لا يليق بي غير الله) يختزل الجسد صورته المعتادة متحولاً إلى صورة سمعية لبكاء الأشجار، يجري ذلك عندما تنتصب كلمة (لإحضن) جسراً يؤدي بنا إلى الصورة الأخرى للجسد:
أدخل معي حيرة الإشارات
سيطوف بنا القداس
لإحضن فيك بكاء الأشجار
حينما تصفعها العاصفة
إن عملية استبدال الجسد ببكاء الأشجار لا تقل ندرة وغرابة عن العلاقة التي تبتكرها الشاعرة بين دلالتيّ السرير والجسد، إذ تجري أغرب التحولات وأكثرها معاندة للتصديق، ذلك إن السياق الشعري يوحي أن ثمة جسد مستبدل بسرير فارغ (لم يبق عندي غير هذا السرير) إلا أن السرير الفارغ لا يدل أبداً على جسد غائب، وأن الحقيقة التي نصل إليها في النهاية هي أن السرير هو الجسد نفسه، إثر اكتشافنا تحوله إلى جثة:
لم يبق عندي غير هذا السرير
تئن الوحشة فيه
ويغفو فوق جثته الشتات
إن وظيفة الاستبدال لجسد بآخر تشهد تغيراً في قصيدة (غياب) حيث يغيب جسد الصوت الأنثوي المتكلم في القصيدة ويحل محله جسد آخر على وفق مستويين من مستويات الغياب، فالشاعرة تنطق بضمير (الأنا) محذرة من غيابها حال رؤيتها، لكن جسدها لا يغيب إثر انتقاله إلى مكان آخر أو تلاشيه، وإنما يغيب في داخل نقيضه، أن الغياب يحدث في صميم الرؤية تماماً، لتتحول دلالة الرؤية من دلالة النظر إلى الجسد إلى دلالة السقوط في الهاوية:
قلت لك من قبل حاذر
أن تراني
ففعلت
ثم غبت أنا في الرؤية
وبقيت أنت
وبعكس ما يحصل من غياب مشروط ودراماتيكي لجسد المرأة في قصيدة (غياب) تلعب الشاعرة في قصيدة (سطوة) لعبة استدعاء الجسد غير المرئي لتشكل تمظهراته حضوراً سافراً على الرغم من كونه جسداً محسوساً، أو كياناً لا تنال الرؤية منه ولا تطاله سوى الحواس في شدة استشعاراتها:

أغمض عينيَّ
فيموت النهار
وحين أشم حضورك
يذوي الليل
أفتح أجفاني
وأطلق سراح الشمس
لعل طبيعة الاشتغال الشعري في مجموعة (لك هذا الجسد – لا خوف عليّ) تقف وراء هذه السلسلة من التمظهرات الجسدية التي تستجيب لأكثر من انزياح بلاغي لصورة الجسد ولكن ضمن أبدالات معرفية لمعاني الجسد الذي لا يصل إلى معنى محدد، لارتباطه بمتغيرات تعرب عن إثارة انتباهنا حول الكيفية التي تتجاوز من خلالها الشاعرة جسد ما لتجد بديلاً عنه، فمثلاً أن دلالة انحناءة السهم في قصيدة (ننشوبار) توجه فهمنا إلى أن الجسد هنا يعطي شكلاً آخر لنفسه (انحني سهماً على شهواتك) فيما يتمادى التخييل الشعري بدرجة أكبر في أحد مقاطع قصيدة (تقاسيم على وتر الوحشة) معادلاً (قيامة الجسد) باللحظة المهشمة، وفي الآن نفسه تلجأ الشاعرة في قصيدة (أناجيل الطغاة) إلى نوع من الإتيان بجسد آخر يتمثل في السواد الذي ينقل الخطى في أرض التنهدات:
حان الوقت
أيتها الأبراج لتتركي جسد السواد
أرض التنهدات
يكفي ما حرثت من الأموات
إن اشتغالات الشاعرة أمل الجبوري، تمنحنا يقيناً بتحول الجسد إلى فكرة تجهد الشاعرة نفسها في استثمار دلالاتها لتوليد جسد عن جسد أخر مختلف ومتحول إلى خواص غيره، وحسب هذا الاعتبار فأن اشتغالاتها تستهلك الجسد وتديمه في آن.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب