23 ديسمبر، 2024 11:36 ص

الشاطىء الأسترالــي .. سفينة لــجوء لم تصل… مستوحاة من قصص حقيقية

الشاطىء الأسترالــي .. سفينة لــجوء لم تصل… مستوحاة من قصص حقيقية

إنـــســل اللاجئــيــن تحت جنح الليل تباعا بمنتهى الهدوء والخلسة. صعدوا الى السفينة المتهالكة على عجل حاملين أسمالهم برغم زعيق المهرب المحتال…يلّة بسرعة ماعدنـــــة وكت…. هسة تكمشــــنة الشرطة الأندونيسية ويخرب كلشي… خففوا من أحمالكم وأسمالكم..!! صعد الشباب بلمح البصر وقفز عراق بكل خفة ونشاط بفضل بنيته الرياضية وشدة الفرح التي تملكته وهو يضع أول خطوة على عتبة تحقيق أحلامه وأمه الأرملة وأخوته الأيتام الثلاثة الذين تركهم خلفه…أما صبرية فقد تلعثمت وهي تحمل أسمالا وتسارع الخطى بتعثر مع أطفالها الثلاثة عباس ست سنوان وسعد سنتين ونصف وشيروان سنة ونصف..أربكها أكثر صراخ المهرب المرتبك على عجل : يلّة متكليلي شسوين بكل هاي الخرك والجنط كلهة..؟؟!! أي مو رايحين لأستراليا…!! أتعرفين شنو أستراليا..؟؟!!كلشي راح ينطوكم..!! يلّة رحمة للكعبة..!! أي فديوة خلّصتْ…!!أجابته وهي تخف بشيروان حاملة أياه على صدرها وحمل المهرب معها سعد بخفة أما عباس فقد سبقهم فوق سطح المركب وقد كان طفل فطن ونشيط جدا لايكف عن طرح الأسلحة على أمه.أستوى الجميع على المركب.كان جلّهم من العراق وبالأخص من وسط وجنوب العراق غادروا بعد الأحداث الطائفية. أومأ بعدها المهرب الى أحد رجاله أن يرفع الرسن .أنطلق القارب يمخض العباب الهادىء في تلك الليلة من حزيران 2007.كانت السماء صافـــية جدا وتبدوا النجوم قريبة تكاد تغطس في البحر عند مد النظر نحو أفق قريب.أما البحر فقد سكن الى هدوء غير طبيعي…حتى المهرب نفسه أستغرب هدوء البحر.!! فقد كانت مويجاته تقبل خشب المركب المتهالك مثل عروس تغازل زوجها المتردد. أتخذ عراق مكانا في مقدمة السفينة وأخذ يعبئْ منخاره بشمات عميقة لنسيم البحر المشبع جدا برائحة اليود وهو يصم على قبضته لقربه من تحقيق حلمه في الوصول الى أستراليا.نظر الى النجوم بتفحص وتأمل فرأى نجمة كبيرة تحيط بها ثلاثة نجوم صغار. لايدري لماذا ذرفت عينه دمعة ساخنة..؟؟!! ربما لأنها ذكرته بأمه وأخوته الثلاثة…وهو يمعن النظر محملقا في النجوم الثلاثة خرّت واحدة منها وذوت الى الكون السحيق فأنقبض صدره..!!! كربة حزن خيمت عليه لكنه سرعان ماأعاد النظر الى أفق البحر وهو يشم رائحته المعبأة باليود وترك منظر النجوم الذاويات.أتخذت صبرية زاوية في القارب وتوسطت أطفالها وأنشغلت تطعمهم وتلاطفهم وتجيب على أسئلتهم البريئة أحيانا والذكية أحيانا أخرى وخصوصا عباس. أذ أن بعض الأسئلة كانت من الصعوبة بمكان لاتستطيع معها الا أن تجيبهم…ألله كريم يــــمّة…ألله أرحم الراحـــمين…الفرج قريب: يـــمة استراليا حلوة؟؟!! ماما أسترالية بعيدة؟؟!! نرجع لو راح نبقة هناك؟؟!! أما عباس فقد كان يطرح الأسئلة بشكل يختلف عن أخويه : يـــمة ليش بابا أنكتل..؟؟!! زين ومنو اللي كتلة؟؟!! بابا جان طيب ماعنده أعداء؟؟!! يــــمة ليش أحنا صار بينه هيجي..؟؟!! لم يكن يؤلمها شيء أكثر من اسئلة عباس وكان يتعذر عليها أجابته سوى بدمع غزير يخرج من أم فؤادها وحرقة تكاد تقتلع القلب نفسه: والله يـــــمة ماأعرف..؟؟!! اللي صار أكبر من مستوى فهمي وأدراكي!! أهلنة بالعراق طيبين بس ليش صاروا هيجي ..؟؟!! وألله ماأدري يـــمة؟؟!! ضمت صبريــــة أطفالها الثلاثة الى صدرها بألم وقد ألحوا عليها جدا بالأسئلة المؤلمة. ماعساها تقول لهم….؟؟!! وقد شخص الى بصرها منظر زوجها محمد وهو يعاد لها جثة هامـــدة أقتلعت عينيها بلا أي ذنب أقترفه. كان محاسبا في الثالثة والثلاثين من عمره يمتلئ نشاطا وحيوية وطموح…بعثته الدائرة التي كان يعمل بها الى وزارة المالية في بغداد قبل عام ليراجع الحسابات…أستوقفه أرهابيين قبيل بوابة بغداد الجنوبية فقتلوه بدم بارد لمجرد أنه ينتمي لطائفة غير طائفتهم..!!ولم يكتفوا بذلك بل، أقتلعوا عينيه بشفرة حلاقة حين تعذر عليهم قلعهما بأيديهم….فضاعة الذكرى أبكتها بحرقة كادت أن تخنق أولادها… أحس عباس بقلب أمــــه فكف عن طرح الأسئلة…. قبّلها وعانقها بعنف، أما سعــد وسيروان فانشغلوا بالأنصات الى بعض الشباب وهم يغنون ويرقصون فرحين بالشاطىء الأسترالي: منصـــــورة يابغداد…..منصــــــــورة يابغداد…!!حين أعتلى القارب منتصف البحر أخذ الطقس يتغير وبدأت الأمواج تتعالى وتصبح أكثر عنفا وأرتفاعا بحيث أصبح القارب المتهالك يتهلهل أزاء ضرباتها. جشع المهرب دفعه لشراء هذا القارب بثمن بخس لأن خطته تقتضي بأن يـتـركه مع لاجــئــيــه عند وصوله الى أقرب نقطة من الشاطىء الأسترالي ويقفز الى قارب حديث وقوي يأتي به أحد رجاله من الضفة الأسترالية بوقت متفق عليه مسبقا…وجشعه أكبر حين حشـــره باكثر من مئة وخمسين لاجيء في الوقت الذي لم يكم يتسع سوى لخمسين منهم….فكان ينوء تحت ضربات الموج بصرير مثل باب خشبية عتيقة نخرتها دودة الأرض…حين أشتدت الأمواج كف الشباب عن الرقص والغناء…صمت الجميع..وبدأوا يتلون سورا من القرآن…مازال عراق في مقدمة القارب وكان يتقي رذاذ الأمواج بلا أكتراث من ثقته بقدرته على السباحة اذا ماحصل طارىء لكنه دائما كان يفكر بمنظر الأطفال…؟؟!! حين تخر النجوم الذاويات الى كونها السحيق يغضب البحر فيزمجر….وحين تنوء المراكب الباليات تحت هيجان الأمواج ترتسم المآسي على بني الأنسان…هكذا أخذ المركب البالي يتلقى الصفعات من أمواج البحر المتصاعدة بغضب…فكان يطلع الى عنان السماء وتقذفه الموجة الأخرى الى الماء مثل قارب من الورق تقذفه الأمواج الى هوة سحيقة…عندها بدأ الصراخ بالتعالي وبدأت الأدعية والبسملات تتعالى معها أيضا…رجع عراق الى وسط القارب فطمأن صبرية وطمأن أطفالها.تهادت الى أنظارهم من الضفة الاسترالية خويطات ضوء أحمر خافت خجلى مع خويط الفجر الذي أخذ يبزغ بتباطئ أكثر خجلا.أسرت فيهم دفقة معنويات وأمل أغتالته موجة قذفت بهم كلهم الى آخر القارب فتراكموا فوق بعضم البعض عندها صرخت صبريـــــة: يارب…؟! أولادي…؟؟!! أجابوها: يوم أحنة هنا..!! ضمتهم ثانية الى صدرها وبدأ الخوف ينتابها جديا هذه المرة: أو يفعلها القدر ثانية..؟؟!! هكذا حدثت نفسها بأنشداه لم تصدقه..!! أي وصلنــــة صرخ عراق عاليا بفرح شديد..!! لطمته الموجة في جدار القارب… كأنما حتى البحر يحاربهم بعنف..!! عندما لاحت الضفة الأسترالية باكثر وضوحا زمجر البحر باكثر عنفا…ناخ القارب عند عنف الموجة مثلما تنوخ الجمال في صحراءها. بدأ القارب ينغرز في الماء كلما علا أستجابة للموجة وأنخفض خوفا من غضبها وهيجانها فبدأ يتجلجل ويتكسر عند عنفها وبدأ الصراخ يتعالى شديدا…صفير الرياح كان مخيفا وعصف الموجة كان أكثر رعبا…تلاطم الموج خلخل بسامير وبراغي القارب فتهلهل أكثر الى أن عاجلته أم الموج فأتت عليه…تسرب الماء من كل جانب وبدأ يغرق شيئا فشيئا…..بدأ اللاجئون برمي أنفسهم في البحر تباعا….ماأقسى ماشعرته صبريـــة ليس على نفسها، بل على أطفالها…لاتجــــيد السباحة..حتى السبّاح الماهر لايستطيع مجاراة عنف الأمواج وصراخاتها التي أختلطت ببكاء وصراخ اللاجئين الى أن وصلها الماء المالح بعد أن غرقت مقدمـــة المركب.تعلق بها الأطفال….. حاول عراق أن ينقذ واحدا من أطفالها لكن الموج جرفــــه بعيدا عن القارب…..صرخ تأنيبا لأنه عجز عن ان ينقذ واحدا من أطفالها فبكى بحرقة لأنه تذكر أخوتـــه الصغار..حين بدأت صبـــرية بتلمس قاع القارب برجليها لم تتلمس الا صدى الماء…بدأت تصرخ وتستغيث بحرقة كبيرة….عانقت أولادها الثلاثة وبدأت تقبلهم وتحدق فيهم مليا….ربما تراهم لآخر مرة وسط هذا الخضم الذي لايرحم واليأس الذي تسلل اليها…ساعدوني يااهل الرحم….أنقذوهم هم فقط…انقذوا أثنين منهم …..أنقذوا ولو واحــــد منهم…أنـــقذوا واحـــــــدا على الأقل …..ليس ثمة أي صدى قد أجابها….صراخـــــهم فطّر نياط قلبها فأختلط ملح دموعــــها بلمح ماء البحر ثم فرقتهم موجــــة لعينة والى الأبــــــــد….وصل عراق الى الشاطئ الأسترالي مثخنا بالجراح من بعض عضات القرش…وحين هم برفع بنطاله تلونت يده بالدم…تلمس جـــســده فلم يجد أعضاءه الذكريــــــة . لقد نهشها القرش. نظر الى جهة البحر وهو منـــهك…خائر القوى فرأى اشلاء اللاجئين والقرش ينهش بها….عنّف نفسه لأنه لم يستطع مساعدة صبريـــــة ولم يقو على أنقاذ حتى واحدا من أطفالها…..سقط على رمل الشاطئ باكيا بحرقــــــــــــة على صبريــــــة ومأساتها وأمـــــــــــه وأخوانــــــــــــه…..سال لعابه على رمل الشاطئ الاسترالي فأغمي عليــــــه………. *[email protected]