23 ديسمبر، 2024 1:36 م

الشاطر الذي يعبأ السلة بالرقي

الشاطر الذي يعبأ السلة بالرقي

الحكومة العراقية منشغلة منذ سنوات بصرف المستحقات التقاعدية ومزيدا من المنح المالية للبعثيين وضباط الجيش السابق وكلهم بعثيون كبار ولكن وتيرة هذا الاهتمام تصاعدت في الايام الاخيرة حيث عُقدت لقاءات عديدة في الاردن واليمن بين الحكومة والبعثيين الفارين وسالت الكثير من الاموال الى جيوب هؤلاء ، ويتلقى اليوم عشرات الآلاف من البعثيين وضباط الجيش العراقي المقيمين في الادرن وعمان وبلدان اخرى رواتب تقاعدية مجزية من الحكومة فضلا عن حصولهم على مايسمونه المستحقات المالية وبأثر رجعي.

الحكومة تتعامل مع البعثيين بصفتهم مفصولين سياسيين، لذلك تحتسب لهم فترة أنقطاعهم عن العمل خدمة مجزية لاغراض التقاعد وتقدم الحكومة بكل وقاحة للبعثيين العائدين التعويضات والمنح المالية ، ولا يتواني مستشار رئيس الوزراء لشؤون المصالحة الوطنية عن توزيع التطمينات والتأكيدات للبعثيين في الاردن واليمن وبلدان اخرى حول امكانية عودتهم الى الخدمة العامة وتقلدهم المناصب الحكومية المرموقة.

يحدث هذا في الوقت الذي تمتنع فيه الحكومة عن مجرد البحث في مصير المتضررين من النظام البعثي، من الذين لم يحصلوا على وظيفة في الدولة وبالتالي فلا تقاعد ولا تعويض ولا منح ولا عودة كريمة للفارين منهم من جحيم البعث المنتشرين في أصقاع لاتغيب عنها الشمس، البعثي كان مدللا في عهد النظام السابق ومازال مدللا اليوم ، وغير البعثي كان متضررا وهو اليوم مازال متضررا، غير البعثي لايمثل رقما صعبا ولاينتمي الى ميليشيات تمارس أرهابا ولذلك لاتهتم به الحكومة ، الحكومة تهتم فقط بالاقوياء والبرلمان يشرع لهم قانونا للعفو العام ، أقتلوا وأذهبوا.

عندما كان زملاء لنا في الدراسة والعمل يتبارون في تسلق سلالم حزب البعث بحماس جامح، البعض كان يقفز بسرعة من نصير الى عضو ثم عضو فرقة والبعض الآخر تطوع بارادته الحرة ودون اجبار على الانخراط في فدائيي صدام وصاروا يحصلون على الامتيازات والاموال والبعثات الدراسية والوظائف الحكومية المرموقة، كنا والبعض من أمثالي، نحاول ان ننأى بأنفسنا عن هذا السباق غير الشريف، عندما لاتستطيع ان تقف بوجه هذا التيار الجارف، فلا تملك الا الصمت، الصمت هو سلاحك الوحيد في مواجهة هذا الانهيار في القيم وفي الاخلاق، ولكن حتى الصمت احيانا كان يتحول الى تهمة خطيرة قد تصل بك الى الاعدام ، ففي يوم تم أستدعائي من قبل ضابط أمن الكلية والتهمة كانت (الصمت) قال لي وهو يقرأ في تقرير مرفوع اليه عني (شنو فلمك أنت ) وبعد ان توسط لي الدكتور عبدالمرسل الزيدي عميد كلية الفنون الجميلة حينذاك (الله يذكره بالخير ) وبعض المتعاطفين معي من صغار البعثيين في الكلية، واوضحوا له اني منشغل بهمومي الفنية والثقافية وليس لدي شيء ضد الحزب والثورة، لما كنت نجوت من هذا الموقف، أستاذي ومعلمي الكبير ثامر مهدي (أطال الله في عمره) حاول ايضا التوسط لي رغم انه لم يكن مرغوبا به من قبل بعثيي الكلية وكان مجرد توسطه لي تهمة جديدة ضدي، لكنه قال لي عبارة لازالت ترن في ذاكرتي، قال هل تعرف يامحمد ماهي مشكلتك مع هؤلاء، قلت لا، قال (أنت متذمر) ولذلك هم يعتقدون انك تحمل في قلبك موقفا ضدهم وضد الحزب والثورة.

أمضيت شطرا من عمري داخل العراق اعمل صحفيا وكاتبا على نظام المكافأة الثابتة في هذه المؤسسة الاعلامية او تلك، تارة يجرفني تيار التفييض وتارة أخرى أضطر للعمل على نظام المكافأة غير الثابتة ولم أحصل على ظيفة ثابتة لدى الحكومة، بدأت حياتي المهنية محررا صحفيا على نظام المكافأة الشهرية الثابتة عام 1981 ولم أزل طالبا، وعندما تخرجت في كلية الفنون الجميلة كنت أشهر سينمائي شاب في العراق كما وصفني العديد من النقاد والكتاب حينها، كنت اخرجت ثلاثة أفلام ونشرت الكثير من النقد والدراسات وكتبت عن نشاطاتي العديد من الصحف والمجلات، ولم تكن يومها لا فضائيات ولاأنترنيت ولافيسبوك.

عندما وضعت الحرب اوزارها ذهبت الى يوسف الصائغ مدير عام دائرة السينما والمسرح لمقابلته وكان يعرفني جيدا من خلال كتاباتي ونشاطاتي الكثيرة وتواجدي الدائم في دائرة السينما والمسرح ووجدت هناك الناقد الراحل سامي محمد ضيفا على الصائغ وللأمانة قام سامي محمد بتزكيتي لدى الصائغ وقدمت للصائغ طلبا للتعيين مع المرفقات، الغريب ان الصائغ رفض طلب تعييني، كنت واثقا من نفسي معتدا بكفاءتي، لهذا قلت (لماذا أستاذ يوسف) قال بخشونه وجلف (مامحتاجينك) فلم أعلق بشيء قلت فقط ( طيب شكرا ) وأنسحبت من الغرفة، في كافتريا المؤسسة قابلت بعض الاصدقاء وتحدثت لهم حول موقف يوسف الصائغ مني، فنصحوني بمقابلة الوزير، قالوا انه متفهم وسوف يهمش على طلبك بالموافقة ويتم تعيينك رغم أنف الصائغ، ذهبت الى مقابلة الوزير وشرحت له وضعي، كنت متزوجا حديثا واسكن مشتملا مؤجرا في حي العامل الثالثة ولا دخل ثابت لدي، عرضت عليه شهادتي وكفاءتي وشهادات التقدير التي حصلت عليها من جهات حكومية وغير حكومية عن أعمالي وكتاباتي، استمع الرجل لي جيدا ثم كتب على طلب التعيين الذي قدمته له (السيد يوسف الصائغ لاجراء اللازم) فعدت مبتهجا ولم أكن اعرف ان الوزير خدعني فهناك فرق بين (لاجراء اللازم) وبين (موافق) وهو ماتحجج به يوسف الصائغ حيث قال ان الوزير لم يأمر بتعيينك وانما ترك الموضوع لنا لنرى ونقرر ونحن ـ الصائغ ـ سبق ان قررنا عدم حاجتنا لخدماتك (أنتهت المقابلة) ، لم أستسلم عدت الى الوزارة لمقابلة الوزير ثانية فلم يسمحوا لي وتذرعوا بان الوزير احال طلبي الى الدائرة المعنية وعلى الاخيرة تنفيذ أمر الوزير ، أوضحت لهم ان الوزير لم يكتب (موافق) ، هو كتب (لاجراء اللازم) وهناك فرق كبير، اقترحوا عليُ كبديل لمقابلة الوزير ان أكتب عريضة شكوى أشرح بها مشكلتي فوافقوا على ذلك، وبعد اسبوع تقريبا علمت ان الوزير احال عريضة الشكوى الى الوكيل الاقدم الراحل نوري نجم المرسومي والأخير أستقبلني في مكتبه وبدى لي للوهلة الاولى لطيفا جدا، أستقبلني بحرارة وحفاوة كانت مفاجأة بالنسبة لي وشعرت لحظتها ان المشكلة قد أنتهت، قال لي بالنص ( تعال محمد وينك صار أسبوع أدور عليك ، لاتدير بال والله الا أطيح حظ يوسف الصائغ) وبعد ذلك اللقاء زرت الوزارة مرات كثيرة للحصول على النتيجة بلا فائدة، لم يسمح لي بعدها لا بمقابلة الوكيل ولا الوزير.

تقدمت بطلبات للتعيين في العديد من المؤسسات الاعلامية وفي مقدمتها دائرة الاذاعة والتلفزيون بلا فائدة ، كان الحديث عن مشكلتي هذه يعطي صورة سلبية عني، لذا توقفت عن تقديم مثل هذه الطلبات وواصلت عملي على نظام المكافأة لعدة سنوات حتى صارت الوظيفة لايطمع بها احد وصار الراتب لايكفي لشراء طبقة بيض واحدة، وأضطررت لبيع الكثير من مقتنياتي وآثاثي قبل ان أغادر البلاد منتصف التسعينات في اعوام الهجرة الجماعية الواسعة للعراقيين الى الخارج.

غادرت العراق وصفحتي بيضاء ناصعة، لم أكتب حرفا واحدا في تمجيد النظام السابق، لم أتعاطى الكتابة السياسية الا بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990 مضطرا وعلى مضض عندما تحولت الصحف العراقية بالكامل الى التركيز على تطورات الازمة والشأن السياسي، حتى الصحف الرياضية تحولت الى السياسة، كنت أعمل حينها في جريدة العراق على المكافأة وطلب مني الأستاذ أكرم علي (الله يذكره بالخير) مدير التحرير (ان أداري خبزتي قليلا دون أندفاع) وكان يقرأ أفكاري ولهذا قال بالنص (أكتب في المنطقة الرمادية)، وكان أخا مشفقا وأنسانا رائعا، ويعني لا مديح ولا تطبيل و لهذا السبب لم احظى يوما بتكريم من صدام او من وزيره للاعلام برغم كثرة المكارم التي كانت توزع على الصحفيين والكتاب والادباء يمينا وشمالا، في وقت سابق كان الفقر قد أنهكني فشكوت حالي مرة الى الصديق الناقد صفاء صنكور وكان يترأس القسم الثقافي في جريدة القادسية، لعله يزيد من نشر مقالاتي في الصفحة الثقافية قليلا فيرتفع رصيدي من المكافئات القليلة التي أتلقاها من الجريدة، فأعتذر بضيق مساحة النشر وكان محقا لكنه أقترح عليُ النشر في ملحق للجريدة كان أسمه قادسية صدام، ان كنت راغبا في الحصول على الكثير من المكافئات، قلت له سأفكر في الامر، وقلبت الامر كثيرا، الغريب انه رغم الفقر المدقع الذي كنت أكابده وانا رب أسرة واب لأطفال وأقيم في بيت مستأجر، وجدت نفسي أرفض هذا العرض ولم أقبل تلويث ضميري وشرفي من اجل ان أعيش وعائلتي، والاستاذ صفاء صنكور شاهد حي يرزق اليوم.

اليوم أسترجع صورة زميل قديم كان على حد قوله يجيد تعبئة الرقي في السلة، كان طموحه الحصول على العضوية في حزب البعث وكان يحظى ببعض الفرص والامتيازات التي لاتتوفر لنا، وعندما سقط النظام عام 2003 كان قد نال (شرف العضوية!) في حزب البعث، الى هنا والمسألة ربما تبدو عادية لكن الغريب ان صاحبنا الحرباوي هذا حصل على وظيفة حكومية مرموقة بدرجة وكيل وزير بعد عام 2003 وصار محسوبا على وربما منتميا الى حزب ديني كبير ومتنفذ في الحكومة، ذلك لانه مرشح ومدعوم من قبل هذا الحزب لتلك الوظيفة، وعندما عبرت عن دهشتي، قيل لي، هذا ليس الوحيد، هناك الكثير ممن كانوا أعضاءا وأعضاء فرق وربما اعلى في حزب البعث يحتلون اليوم مناصب رفيعة في الحكومة والبرلمان والقضاء ويحظون بدعم كامل من أحزاب وكتل سياسية.

أكتشفت بعد فوات الآوان اني لست شاطرا في تعبئة السلة بالرقي كما يقول المثل الشعب الشعبي ويردده العراقيون كثيرا، كنت مواطنا من الدرجة الثانية او الثالثة في عهد البعث ولم أنل شيئا من حقوق المواطنة، واليوم لعلي مواطنا من الدرجة العاشرة أو ربما تم سحب المواطنة مني أصلا، فلا وظيفة ولا تعويض ولا حقوق ولا شبر في الوطن.

تطلعت الى سلتي فوجدتها حزينة خاوية او عاوية (مصطلح عراقي حديث) لارقي ولا حتى بطيخ.
[email protected]