22 ديسمبر، 2024 8:48 م

كان الشارع المصري أحد أعمدة بناء الإنسان وشخصيته،حدث ذلك عبر عصور طويلة حيث لم يكن مجرد مكان يتجمع فيه الناس بل مدرسة بكل ما تعنيه الكلمة من معاني،وهو متنفس للجميع ودار نشر وقناة إخبارية تعرف من خلالها أخبار الأصدقاء والجيران وأخبار الدولة والوزارات.
لذلك إهتمت كتابات كبار الأدباء بنقل صورة متكاملة عن شارعنا المصري واستطاعت كاميرات السينما نقل هذه الصورة بشكل واقعي وحقيقي.

وكان الشارع المصري يمتلأ بأصحاب القامات من أولاد البلد من ذوي الشهامة والرجولة ممن يحمون الأطفال من أي دخيل علي الشارع وممن يدافعون عن فتيات المنطقة ضد أي معترض لهن.

كان الدفء يملأ جنباته،والألفة والإنسجام عنوانا جليا لطبيعة تعاملات أهل الشارع،فالكل مهموم بهموم غيره ولا يمكن أن تشاهد أي مظاهر فرح أو سعادة إذا ما كان هناك مريض أو متوفي.

كان الرجال يلتقون علي أحد المقاهي الشعبية ليتحدثوا في همومهم اليومية،وكانت النساء تتبادلن أطراف الحديث عبر شرفات المنازل،وكان الجميع يسعد لسعادة أحد أفراد الشارع بل وتمتد هذه السعادة لتتحول الي مشاركة هذا الإحساس بين كل قاطني الشارع.

كان باستطاعة اهل الشارع الخروج من البيت في أي وقت من أوقات الليل فالأمن مصدره أهل الشارع أنفسهم ولا يجرؤ أي دخيل علي التفكير في التلصص علي الشارع أو أهله لأنه يعلم مسبقا أن قانون شارعنا المصري أقوي من أي قانون آخر.

البقال والعجلاتي والمنجد والترزي وبائع الفول وصاحب المكتبة والميكانيكي والنجار والكهربائي وعامل النظافة والقهوجي واللبان والمكوجي والفطاطري والسمكري وبائع الجرائد وجامع الروبابكيا والعربجي وبائع الأقمشة والجزمجي..كلها مهن وحرف لم يخلو منها شارعنا المصري وكأنك في مدينة صناعية صغيرة.

تسمع أصوات القرآن تأسر القلوب مع هبوب نسيم الصباح فكل سكان الشارع مؤمنون ببركة القرآن في بداية اليوم،ثم تنظر فتجد كل صاحب حرفة منهمك في عمله، ينظف الشارع امامه ويقوم برش المياه والاستعداد ليوم جديد.وقد تصادف صبي المعلم وهو يحمل الفول والطعمية عائدا من المطعم في طريقه لتناول الإفطار قبل أن يبدأ عمله اليومي الشاق،وتشاهد تلاميذ المدارس وهم متوجهون إلي مدارسهم في حيوية ونشاط والأمهات ينظرن من النوافذ في لحظة توديع الأبناء.

شارعنا المصري كان مليئا بالحنان والمودة،كل رجل في الشارع هو بمثابة أب حقيقي لنا وكل أم هي أمنا.

ولا تجرؤ علي فعل شيء ممنوع أو غير مستحب أمام أحد قاطني الشارع لأن الكل يعي أن كل طفل أو صبي هو إبنه ولن يتهاون في معاقبته أو توبيخه.

كانت النويا حسنة والمودة تجمع بين القلوب وسباق التفاني والإخلاص في إظهار الود لا ينتهي.

الزيارات المتبادلة لا تنقطع مطلقا فهناك دوما سبب للقيام بزيارة الجيران الذين تحولوا الي أهل، فالمناسبات تتوالي طوال أيام السنة وخاصة في فصل الشتاء الذي تزداد فيه برودة الطقس.

الشباب الذين وصلوا الي مرحلة الجامعة هم خيرة شباب المنطقة وهم الذين سيحملون عبء المسؤولية قريبا،لا يمر يوم دون أن يجتمعوا علي ناصية الشارع للحديث عن كرة القدم أو أحد المسلسلات التلفزيونية،كانت مسلسلات حسن عابدين وعبدالمنعم مدبولي تناقش مشكلات المجتمع والاسرة.

يتابع أبناء الشارع ما يدور في العالم عن طريق قراءة الصحف اليومية ولم يكن هناك أكثر من ٣ جرائد رسمية (الاهرام،الاخبار،الجمهورية) إضافة الي بعض المجلات الشهرية وكان قصر الثقافة الذي يفتح أبوابه لعاشقي القراءة بمثابة بيت كبير لكل عشاق الأدب والإطلاع.

معظم سكان شارعنا من متوسطي الدخل ومن موظفي الحكومة ولذا تسعي كل زوجة الي البحث عن سبل مبتكرة لتوفير الحماية المادية للأسرة،فكانت فكرة الجمعيات التي يتشارك فيها أبناء المنطقة والتي تحولت الي خير معين في قضاء حوائج الناس.
وكانت ساعة العصاري هي اكثر ساعات اليوم نشاطا فالأطفال يلعبون الكرة وأصحاب الحرف يسرعون في إنجاز الأعمال والموظفون بدأوا يتوافدون علي الشارع عائدين من وظائفهم والحركة تدب في كل مكان فاليوم أوشك علي الانتهاء.

مشاعر وشجون وذكريات وآمال وأحلام وطرائف وقصص إنسانية حدثت بين جنبات الشارع ومازلنا نأمل أن يعود لما كان عليه.
حفظ الله مصر جيشا وشعبا.