لم تُثنهِ جراحاتُ كربلاء.. وآلام فقد الأحبة الأطهار.. ولا أوجاع المرض وغلظة الأعداء.. ولا قيود الأسر المُثقل بها جسده الشريف.. ولا الإقامة الجبرية.. ولا خذلان الأمة.. و لا بطش حكم أولاد الطلقاء.. ولا …غيرها من المعاناة والبأساء.. عن القيام بمسؤوليته الرسالية في إصلاح وبناء المجتمع.. وتهذيب الأخلاق.. ونشر الرسالة السمحاء.. والتصدي بالحكمة والموعظة الحسنة والأثر والدليل العلمي لتيارات الانحراف الفكري والسلوكي… ليُكمل مسيرة كربلاء الاصلاح والتضحية والعطاء: علم.. تقوى.. وسطية.. أخلاق.
مسيرةٌ عظيمة .. قُدِّرَ لها أنْ تعيش أعقد الظروف و أحلكها.. حيث الانهيار الفكري والعقائدي والأخلاقي.. فكان السَّجادُ المُصلح الإلهي.. قائد الركب المفجوع.. الذي ألقيت على عاتقه مهمة تكملة مسيرة الإصلاح والبناء الرسالي الذي كتبها أبيه الحسين بدمه الطاهر..
فقدَّم المفجوع العابد الثائر منظومةً شاملةً متكاملةً لمعالجة مختلف الانحرافات السائدة.. ليُعيد الحياة إلى جَسد الأمة النائمة.. الذي دبَّ فيه الموت بفعل سياسات الأنظمة الحاكمة.. وأئمة الضلال ووعاظ السلاطين.. والجهل المُسيطر على العقول المُغيَّبة.
زينُ العابدين.. سّيِّدُ الساجدين.. ذو الثفنات.. جعل محرابه منبرًا تتناثر منه مُختلف المَعارف والمبادئ والقيم.. أدعيةٌ ومناجاةٌ كانت رشحةٌ من رشحات نفسه القدسية.. أثرت الفكر البشري بمختلف أنواع العلوم والحكمة والحلول الناجعة الجذرية.. أدعيةٌ ومناجاةٌ.. كانت صرخاتُ رفضٍ للظلم والظالمين وثورات..
فلم تكن للرهبانية والتصوف والعزلة عن واقع الناس السقيم.. بل كانت كنوز من المعارف والنظريات والبرامج ترسم للأمة خارطة الطريق السليم والعيش الكريم.. فمحرابه كان محرابُ العابد العالم الثائر الذي يتحسس آلام الأمة، ويعيش محنتها، ويعمل على إنقاذها والعودة بها الى الطريق القويم.
سيدُ الساجدين قدَّم وجسَّد البرنامج العملي في البر والإحسان لمختلف شرائح المجتمع.. حتى لمناوئيه.. أربعة مائة عائلة أموية مروانية تكفَّل السجادُ برعايتها.. بما فيها عوائل قتلة أبيه!!!
لقد كانت ظاهرةَ عتق العبيد صورةً مشرقةً في مسيرته الوضَّاءة.. حيث كان يشتري العبيد، ويُحرِّرهم من الرِّق والعبودية.. ويحتضنهم ويربيهم ويغذيهم ماديًا ومعنويًا، ويصنع منهم دعاةً صالحين.. ويُطلقهم في أصقاع الأرض لينشروا راية الإسلام والفكر والأخلاق والإنسانية.
كان كأبيه وأجداده إمام المنهج الوسطي المعتدل.. إمام المنهجُ العلمي في الدعوة إلى الحقيقة، والحوار والمجادلة بالحكمة والموعظة الحسنة.. إمام المنهج الإلهي في عصرٍ بلغ فيه الجهلُ والتعصبُ و التطرفُ والتكفيرُ والولاء للسلاطين الذروة القصوى..
عليٌ بن الحسين كان إمتدادًا حقيقيًا لنبي الفكر والاعتدال والأخلاق والرحمة والإنسانية والسلام.. في زمن سيطر فيه الجهل والتطرف والتكفير والعنف والرذيلة والوحشية.. والفرقة والخصام.
قدَّم رسالةُ الحقوق التي فيها بيانٌ مُفصَّلٌ لكل المجالات الحقوقية التي تُنظم حياة البشرية.. فكان في صدارة المُصلحين الإلهيين في مجال حقوق الإنسان، و إحياء العدل والإنسانية.
بَعد واقعة الطف كان الإمامُ السجاد صوتَ الحُسين الصادق الذي نقلَ الحقيقةَ وفضحَ الطاغية في معاقله وحصونه، ورائد الشعائر الحسينية الرسالية التي جمعت بين العِبرة والعَبرة بأسمى مصاديقها، فهو أحد البكّائين الخمسة، وهو أعلمُ زمانه والمُجسِّد الحقيقي لقيم السماء ومبادىْ الأخلاق والمُثل الانسانية، والمُكمل لمسيرة الاصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي انطلق فيها وضحى من اجلها أبيه الحسن، ورائدُ النهضة العلمية والفكرية والمتصدي العملاق لحركات الانحراف الفكري والسلوكي، وهو الحاضر والمتفاعل مع واقع الجماهير والمدافع عن حقوقهم، وهذا هو التطبيق الحقيقي للشعائر الحسينية الرسالية وأهدافها الالهية التي هي أهداف الحسين، فإحياء الشعائر الحسينية بصورتها الرسالية هي من أعظم مصاديق الوفاء والانتصار للحسين، وهذا ما أكد عليه الاستاذ الصرخي في بيان-69- محطات في مسير كربلاء حيث قال:
« لنجعل الشعائر الحسينية شعائر إلهية رسالية نُثبت فيها ومنها وعليها صدقًا وعدلًا الحبّ والولاء والطاعة والامتثال والانقياد للحسين- عليه السلام- ورسالته ورسالة جدّه الصادق الأمين- عليه وعلى آله الصلاة والسلام- في تحقيق السير السليم الصحيح الصالح في إيجاد الصلاح والإصلاح ونزول رحمة الله ونعمه على العباد ما داموا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فينالهم رضا الله وخيره في الدنيا ودار القرار».
السَّجادُ ثورةُ البُكاء والعِبادة والفٍكر والأخلاق.