19 ديسمبر، 2024 12:15 م

السَّبيل لإمتلاك الواقع الباطني بواسطة الكلمات

السَّبيل لإمتلاك الواقع الباطني بواسطة الكلمات

في بريد القارات يخلق سامي مهدي مزاجاً شعرياً متماسكاً يتصل بتجريب تتابعي لموجوداته وهي موجودات أغلبها ليست عينية وتشتمل على العديد من المؤثرات التي تهيئ فرصا أفضل للتعبير عن أبعاد قصدٍ ما لإنتاج الجانب المهم من الإطار النظري للنص ثم الهيكل البنائي وتقنيته غير التقليدية وإدراك الإشكاليات التي تتعلق بمفهوم رؤيا المكان حين يكون المضمون متعلقاً بمحاولات تتصل بالكشف عن موقع الإنسان في الكونية وموقعه ضمن حريته المفترضة تجاوبا مع حالة ضياعه في محاولات الذات للتقرب من وجودها ضمن تجاربه وتجاوبه مع سلسلة طويلة من أفكاره التي شكلت نمطه الخاص ،وضمن هذا الشكل كان لابد أن تكون للأشياء فرضيات للبدء بتحطيم أشياء ما تتصل بالذهنية وتتصل بالجانب الريؤي وفي صياغات الوعي بل وفي خصائص إختزال العقل وطبيعة تحسسه للنفاذ الى إللاواعية المتعددة الأبعاد وعبر حركاتها المتشعبة عبر تاريخها الكوني الذي يظهر صلابة قوامها وشفافية فاعلياتها في المساحة المكانية الأكبر حجما

لمعرفة قدراتها الإنتقائية بعد تجريدها من مُعرفاتها لكل الأشياء المتداولة في الوجود :

سُلمٌ من غُبار

وخيوطُ دَمٍ تتقدَّمنا كالدليلِ

وأسئلةٌ

وظهورٌ مُحدبةٌ

وجدار

أو هذا المُرتقى ؟

أم سواه ؟

أم الأرضُ مرهقةٌ من دوار

لا شك أن وسائل تجاوز الواقع لدى سامي مهدي وسائل وافية ويمكن الوثوق بها كون تلك الوسائل تبتكر ظواهر منتخبة لعمل الخيال لذلك يضع الشاعر أمامنا أشياء تمدنا بطرق متعددة للتفكير كونها تارةً طرقا محيرةً وتارة أخرى كونها ضمن ذلك الإضطراب الذي يتواصل للإقتراب من الشعور العام لكافة المخلوقات البشرية وغير البشرية بل والتسامي وموجودات الطبيعة لرؤيا الفراغ العائم في الضحك والبكاء والخوف والحزن والترقب لسماع صوت المجهول وهو السبيل لإمتلاك الواقع الباطني بواسطة الكلمات ، وهنا أن النشاط التوليدي للغة يحفز نشاط المخيلة ويتوازن مع مايريده الشاعر من مضامين أثناء عملية الخلق

لذلك فأن هذا التماسك جعل نصوص (بريد القارات ) غير قابلة للخرق لأن هناك دالات بنيت عليها الجمل الشعرية كفيلة بالإيحاء الإيحاء من أن هناك أشياء كثيرة تقبع خلفَ ( حاشية الأرض – نزيف الشجر – مكان في الظل – هل عشت ابدا – أشلاء هاربة … ) وتلك ضمن الأجزاء اليسيرة لإكتتاب القلق وهو الإيعاز المشروع للإكتتاب المضاد لهذا القلق في الطمأنينة والأمل ووسيلة لربط المعنى الإدراكي بالمعنى المجهول ضمن النسيج المعقد والنسيج الشفاف ليكون الكون مفهوما بالشكل الذي يمثل الإتجاه التكويني للمتلقي وتلك ليست وسيلة مقرره أو إختبارية وإنما هي إشعارٌ للإشتراك الجمعي للوصول الى النمط الصارم من الأحاسيس عبر يوميات مريرة يشكل الغياب بشتى أنواعه إحدى مرتكزات الخطاب الدلالي عبر بريد يدور بحيزٍ من الأرض المعلومة بين القارات فاللغة فيها شئ من الكبرياء وتكمن كبرياءها كونها تريد أن لاتكون معلقة في ملصق أو كتابة جاهزة وحتى ان ساعي بريدها لن يكون إلا الصوت الذي ينطق به الخيال ولذلك فأن في هذا التصور يحتفظ بعناصر التركيز المقننة لتجاوز نطاق قدرة الإدراك الحسي من أن الحقائق مكشوفة لكنها غير مفهومة لذلك كانت إنتقالات الصور الشعرية يتم خلقها من أعلى شكل للوجود الى أدنى مستويات الحدث اليومي وهذا البعد العيني يجسم مرأى الصورة الشعرية حينها يكون فهم النص ميسرا من أحد أبعاده الثلاث :

أمن همدانَ بدأت طريقكَ ، أم إصفهان ؟

وكيف عبرتَ الهضابَ القواحلَ ،

كيفَ بلغتَ المكان ؟

ألم ترَ شيئا يعوقكَ ،

شيئاً يروقكَ ،ورداً

ندىً، طفلةً، غيمةً،صخرةً،أيَّ شيءٍ

ألم ترَ شيئاً

فترتدَ قبل فوات الأوان ،

إن فهم الواقع النفسي وإظهار الروح البشرية في تداعياتها كوحدة متكاملة تعني ان اللغة اكملت انطباعاتها عن اللحظات الآنية واللحظات السالفة وتمكنت من صياغة رموزها الجديدة وكذا الولوج عبر حاجاتها المعقدة كي تصل الى وظيفتها السحرية في حين أن التقاطعات الذهنية والبصرية تبرز كيانات الأحداث بالشكل الذي يليق بها مما أعطى النصوص مصداقيتها كونها قد خرجت من معمل المخيلة بعد جهد كبيرٍ استكملت فيه خواصها الأصلية والخواص الإضافية مع الأخذ بنظر الإعتبار مخرجات الشيئية(العلاقات بين الأشياء) لتلك العبارات التي كونت تلك الخواص مما أكسب الفعل التلقائي للأنا مستويات نهائية لإستكمال بُنى النصوص فكأن كل شئ قد قراءه سامي مهدي في الغيّبِ سلفا وماعليه سوى أن يشارك مخيلته في صحة ماأوحي اليه من عدمه :

كنتُ أقرأُ تاريخَ آدمَ

فانفجرت في الفضاء

شُهبٌ، ورأيتَ النساء

ينحدرنَ الى النهرِ

يبحثن عن صبيةٍ ضائعينَ

ويحثثنَ أزواجهنَ على أ، يعودوا بما رزقوا

وينمن على فُرشٍ من بكاء.

كنتُ أقرأُ تاريخَ آدمَ..

كان الهواءُ

دكةً وسلالمَ تصعدُ نحو السماء

لقد أنتج الشاعر شعراً عبر عنه برؤيا جديدة كي لا يطمأن الآخر ومن خلال بريد القارات لايطمأنَ لهذا العالم إلاعبر الذات اللامنتمية إلا لذاتها.

هامش /
بريد القارات /سامي مهدي / دائرة الشؤون الثقافية /1989

*[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات