من المستغرب أن يصف بعض المتمدنون أو ممن يحسب على ثقافة التمدن ! أن سياسة ” الأسلام ” بعيدة عن ” الديمقراطيَّة ” أو أن الديمقراطية لاتنسجم مع متطلبات الإسلام الحنيف ومبادئه ومفاهيمه … والعكس صحيح ، نحن نظن أن رؤية المتمدن أذا كانت بهذه الصورة هي نظرة قاصرة تفتقر الى الوعي بمباديء الأسلام ومشروعه الإنساني وتفتقر ولو على نحو الشمول الأحاطة بمفاهيم الأسلام وخطته العملية تجاه جميع المخلوقات ! وليس في تعامله مع البشرية وحدها فحسب ، وربما تأتت هذه النظرة أو هذه الرؤية بسبب الترجمة المغلوطة والخاطئة في تطبيقات مباديء الأسلام وسياسته في المجتمعات المسلمة ! من قبل بناة الفكر الديني المتشدد أو المتطرف أو من قبل متبني نظرية الأسلام السياسي التي ثبت فشلها في المجتمعات الأسلامية ، مما أوحى للآخرين أن الأسلام لا يحمل أي معنى من معاني الديمقراطية … وإلا فإن موروث الأسلام الحنيف غني بالمناهج والبرامج التي رسمها الشارع المقدس لتسير البشرية وكل البشرية دون مائز لفئة دون أخرى أو قومية دون غيرها ، وليس في الأسلام مايدعو الى الشعوبية والتفريق بين موالي ومخالف ، وبين مسلم وكافر ، بل يدعو جميع الأطراف الى السلمية والتعايش في المجتمع .
كما أن هناك أفكار وتوجهات أخرى منها ما تعتبر فاسدة ومنها تعتبر صالحة ولو في حدود معينة كسياسة للمجتمعات ! مثل فكرة ” الدولة المدنية ” التي وإن كانت فكرة جديدة على المجتمعات العربية والأسلامية ! إلا أنها فكرة أثبتت نجاحها على المجمل في المجتمعات الغربية ، ويرى البعض من دعات هذه الفكرة أو الثقافة في إمكانية أستيراد هذه الفكرة وتطبيقها على المجتمع العربي أو العراقي بشكل خاص !! خاصة بعد ثبوت فشل حكم نظرية ” الإسلام السياسي ” في العراق وباقي المجتمعات العربية … وسبق وقلنا وأشرنا في أكثر من محفل : الى أن الظروف الموضوعية – الدينية – العرفية – الأجتماعية – الحالية في المجتمعات العربية تحول دون أمكانية تطبيق هذه الثقافة في مجتمعاتنا المسلمة لوجود تعارضات وتنافرات كبيرة لايمكن تغاضيها في مباديء هذه الثقافة مع مباني ومفاهيم ومعالم الأسلام الحنيف فضلاً عما سبق ونوهنا عنه في الظروف الموضوعية ، كما سبق وقلنا بنفس المحافل الى أنه قد وضعت بعض البحوث والدراسات لم تتعدى حدود التنظير دون التطبيق في محاولة لمزاوجة ثقافة الدولة المدنية وأدلجتها أو تذويبها مع مفاهيم الأسلام الحنيف (1) وهذه الخطوة وحدها ! تحتاج الى كم هائل من الأدوات السياسية والأجتماعية والثقافية وعمل تثقيفي توعي دؤوب لترسيخه في مجتمعاتنا المسلمة .
نظن أن هناك فكرة دسيسة ودخيلة على المجتمع تتهم الأسلام الحنيف في تساؤل مفترض ( هل أن يتبنى الأسلام نظرية سياسية ؟ ) مع فرض السؤال حول تبني الأسلام الحنيف لنظرية سياسية بحته !! فهذا الأمر بهذه الهيئة وبهذا الفهم وبهذه النظرة وبهذه الصيغة غير موجود في الأسلام إطلاقاً ، بل ليس من مباديء الأسلام وليس من موضوعاته ونعتبره فلسفة من محضيات أوهام السائل ! فالأسلام ليس أيديولوجية وضعية قائمة على الهيمنة السلطوية لعلم او فكرة او نظرية معينة متأسسة على مباديء وقوانين محددة تنحصر بمجتمع معين دون غيره من المجتمعات الأخرى … بل الأسلام رسالة سماوية سامية عظيمة كبيرة شاملة إستوعبت بقوانينها ومبادئها وقيمها ومعاملاتها عموم المخلوقات وليس الأنسانية وحدها فحسب ! وَوُضِعَ القرآن الكريم دستوراً يرسم الحياة ويمنهجها بمافيه الخير والصلاح والسعادة الأبدية لكل للإنسانية ، غير قائمة على النظريات المحدودة كالسياسة والأفكار الأقتصادية والأجتماعية وغيرها كما هو في النظريات والتوجهات والأفكار الوضعية ، هذا يسمى بالدولة الدينية أو الدولة الأسلامية ، الدولة التي تستوحي قوانينها ” دستورها ” لأدارة شؤونها من القرآن الكريم والنصوص المعصومة .
وليست حسب ماتوصف من حقيقة وتشويب متداخل : ( أما الدولة الدينية الثيوقراطية حكم رجال الدين ( أو الأكليروس ) فهي الدولة التي تمارس الحكم الإلهي وفيها يحكم الحاكم باسم الله ويكون نائباً عن الله في حكم المجتمع، ويكتسب الحاكم وقوانينه وممارساته قداسة مطلقة هي من قداسة الله تعالى ذاته، وهذا النوع من الدولة الدينية هو الذي كان سائداً في أوربا في العصور الوسطى وأدى إلى فكرة الثورة على اللاهوت والحكم الديني، بينما الدولة الدينية بهذه الصورة لم توجد في التاريخ العربي الإسلامي قديمه وحديثه ومعاصره، وتشكل دولة ولاية الفقيه عند الشيعة الإثنى عشرية نموذج آخر من نماذج الدولة يختلف عن دولة الأكليروس في عصور أوربا الوسطى، فحسب النموذج الإيراني الشيعي الاثنى عشري تقوم الدولة على مؤسسات منها رئيس الجمهورية والحكومة والبرلمان مع وجود سلطة روحية عليا هي سلطة الفقيه الذي يحمي التوجهات العليا للدولة، وهذا النموذج رغم اختلافه الكلي عن النموذج المرعب للدولة الدينية في أوربا، واقترابه بمؤسسات الدولة المستقلة من نموذج الدولة المدنية المعاصرة في جوانب كثيرة – وحديثنا هنا عن النظرية بعيداً عن الممارسات التطبيقية – فهو نموذج يقتصر على الفقه الشيعي ولا يوجد نظير له في الفقه السني، وعلى هذا يمكن اعتبار الدولة المدنية هي دولة القانون والمؤسسات في مقابل أي شكل من أشكال الدولة العسكرية والثيوقراطية ) (2) .
وعلى هذا الأساس تحدث القرآن الكريم عن سياسة المجتمعات بأحلى وأجمل صُوَرْ المدنية ، وبنفس الوقت هي إثبات دامغ لكل أشكال رفض سياسة الأسلام الأصيلة تجاه الشعوب ودليل ينسف كل شعور وفكرة وظن وترويج بلاسياسة في الأسلام .
السِياسَةْ والمَدَنِيَّة في الإسْلامْ : من فقه المدرسة :
لقد تحدث القرآن الكريم عن السياسة والحكومة في موارد كثيرة من آياته الشريفة ، تحت عنوان الإمامة والخلافة والولاية والحكم فجعلها أمانة بيد الحاكم ، وضرورة عقائدية لهداية الإنسان ، واصلاح الحياة البشرية ، لتحقيق العدل ، وتطبيق القانون والنظام اللذين يحفظان ارادة الحق والعدل والخير في هذا الوجود ، إرادة الله سبحانه .. وفيما يلي نقرأ مجموعة من الآيات الكريمة التي تعطينا صورة واضحة لمفهوم السياسة في الإسلام . قال تعالى مخاطباً النبي داود (عليه السلام ) : (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) . (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) (3) . (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) (4) . (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) (5) . ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (6) . ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (7).(الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ) (8) . ( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ) (9) . ( وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ) (10) . ( وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (11) . وكما ثّبت القرآن تلك الأسس الفكرية للحكم والسياسة . ثّبت كذلك مبدأ الشورى والتشاور كأساس من أسس النظام السياسي في الإسلام . فقال تعالى مخاطباً نبيّه الكريم : ( فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) (12) . وقال تعالى : واصفاً المؤمنين في حياتهم السياسية والإجتماعية: (.. وأمرهم شورى بينهم وممّا رزقناهم ينفقون ) وفي موضع آخر تحدث عن البيعة والطاعة لولاة الأمور الذين يقيمون الإسلام وينفّذون سياسة الحقّ والعدل ، واعتبرها واجبة على الأمّة فقال تعالى : ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ… ) (13) . وهكذا يثبت القرآن المبادئ الأساسية للسياسة ، ويوضح مرتكزاتها في العديد من آياته اخترنا منها ما أوردنا اَنفاً للإيضاح والتعريف .
مفهوم السياسة في السنة المطهرةوتتحدث النصوص الواردة عن رسول الله (صلى الله تعالى عليه وآله وسلم) والأئمة الهداة (عليهم الصلاة والسلام) والصحابة (رض) عن مفهوم السياسة والحكم والمسؤولية السياسية والعمل السياسي في الإسلام . كما توضح السيرة العملية للرسول الكريم محّمد ( صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ) مفهوم السياسة والحكم أفضل ايضاح ، فقد أقام الرسول ( صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ) دولته المقدّسة في المدينة المنوّرة ، وطبق المفاهيم الإسلامية / لتكون نهجاً ودستوراً للحياة . ونختار من الأحاديث الشريفة ، لنوضّح مفهوم السياسة في الإسلام وشموله ما يأتي : روي عن رسول الله (صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ) قوله : ” فالأمير الذي هو على الناس راع ومسؤول عن رعيّته ” . وقوله (صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ) : “كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته …” . وروي عنه (صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ) قوله : ” ومَن لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم “. وروي عنه ( صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ) : ” َمن ولي من أمر المسلمين شيئاً فولّى رجلاً ، وهو يجد مَن هو أصلح منه للمسلمين ، فقد خان الله وروسوله والمؤمنين ” . ” ما من والٍ يلي رعية من المسلمين ، فيموت وهو غاش لهم ، إلّا حرّم الله عليه الجنّة ” . ” ما من عبد استرعاه الله رعيّة ، فلم يحطها بنصح ، إلا لم يجد رائحة الجنة “. روي البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قول النبي( صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ) : ” إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ، قيل يا رسول الله وما اضاعتها، قال اذا وسد الأمر الى غير أهله ، فانتظر الساعة ” . وروى عن رسول الله(صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ) قوله : ” إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر ” . وروى الإمام علي (عليه الصلاة والسلام ) انّ رسول الله ( صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ) قال : ” من رأى سلطاناًجائراً مستحلاً لحرام الله ، ناكثاً عهده ، مخالفاً لسنة رسول الله ( صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ) يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان ، فلم يغّير عليه بفعل ولا قول ، كان حقّاً على الله ان يدخله مدخله ” . وروي عن الإمام الحسين علي بن أبي طالب (عليه السلام ) قوله عندما أعلن الثورة على حكومة يزيد بن معاوية ورفض البيعة : ” وإني لم أخرج اشراً ، ولا بطراً ، ولا مفسداً ولا ظالماً ، وانّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي رسول الله ، أريد أن آمر بالمعروف وانهى عن المنكر .. ” . روي عن رسول الله ( صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ) قوله : ” سيد الشهداء حمزة ، ورجل قام الى سلطان جائر فأمره فنهاه فقتله ” . وروي عن الامام الصادق ( عليه السلام ) قوله : ” إنّ رسول الله (صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ) كان مسدّداً موفّقاً مُؤيَّداً بروح القدس ، لا يزال ولا يخطئ فيما كان يسوس به الخلق ” . وكتب الإمام علي (عليه السلام ) الى مالك الأشتر، والِيَهُ على مصر كتاباً بيّن فيه منهج العمل السياسي ، وادراة شؤون الدولة ، وثبت اسس الحقوق ، وسلوك الحاكم ، وعلاقته بالأمة ، ومسؤولياته . نقتطف منه : ” واشعر قلبك الرحمة للرعية ، والمحبّة لهم ، واللطف بهم ، ولا تكون عليهم سبعاً ضارياً ، فانهم صنفان : إمّا أخ لك في الدين ، أو نضير لك في الخلق … ” . ثم قال : ” فإنّك فوقهم ، ووالي الأمر عليك فوقك ، وإن الله من فوق مَن ولاك وقد استكفاك أمرهم ، وابتلاك بهم … ” . ” وتفقَّد أمر الخراج بما يصلح أهله ، فان في صلاحه ، وصلاحهم ، صلاحاً لمن سواهم ، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم ، لأن الناس كلّهم عيال على الخراج وأهله ، وليكن نظرك في عمارة الأرض ، ابلغ من نظرك في جلب الخراج ، لأن ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة ، ومن طلب الخراج بغير عمارة ، اخرب البلاد ، وأهلك العباد ، ولم يستقم أمره إلا قليلاً … ” . ” ثم استوصي بالتجّار ، وذوي الصناعات ، واوصي بهم خيراً … واعلم مع ذلك انّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً ، وشحاً قبيحاً ، واحتكاراً للمنافع ، وتحكماً في البياعات ، وذلك باب مَضَرّةٍ للعامة ، وعيب على الولاة ، فامنع من الاحتكار ، فان رسول الله ( صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ) منع منه ، وليكن البيع بيعاً سمحاً ، بموازين عدل ، واسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع ، فمن قارف حكرة بعد نهيك إيّاه ، فنكِّل به ، وعاقبة في غير إسراف ” . ” ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم ، من المساكين والمحتاجين ، وأهل البؤس والزمنى ، فان في هذه الطبقة قانعاً ومُعترّاً ، واحفظ الله ما استحفظك فيهم ، واجعل لهم قسماً من بيت مالك . وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد ، فان للأقصى منهم ، مثل الذي للأدنى … فإن هؤلاء بين الرعيّة أحوج إلى الإنصاف من غيرهم … ” إن استقراء النصوص الإسلامية التي أوردناها آنفاً توضح لنا معنى السياسة في الإسلام ، ذلك لأنّها تشمل إدارة جهاز الدولة ، وقيام الحاكم بواجبه المحدد له تجاه المحكوم ، وفسح المجال أمام المحكوم لأن يمارس حقّه ، وموقف المحكوم من الحاكم الملتزم والمتجاوز ، وعلاقة لدولة بغيرها من الدول . فالسياسة في الإسلام تعني إدارة شؤون الحكم ، وتربية الإنسان على القيم والمبادئ الإسلامية ، وتعني المعارضة ومقاومة الحاكم الظالم ، وتقديم الخدمات ، واعمار البلاد وتطويرها ، كما تعني توجيه شؤون لإقتصاد وترشيدها ، وحفظ اموال الامّة وانمائها ، كما تعني الإنتصار للمظلوم ، والوقوف بوجه الظالم وكل علاقة يدخل فيها الحاكم والمحكوم ممّا يرتبط برعاية شؤون الأمّة وتدبيرها.وتعني القيام بمهمّة القضاء ، والدفاع ، وحماية الأمن ، وتمثيل الحاكم للأمة ، والنيابة عنها ، وحفظ حقوقها الأدبية والإنسانية … الخ . وهكذا يتّضح لنا : ( ان كلمة سياسة في الفهم الإسلامي تُشِّكل وعاء لفظياً ، يحوي كل هذه المعاني ، وامثالها ..) . وبهذا يتضح جلياً ان الفهم الإسلامي للسياسة يختلف عن الفهم الميكافيلي ، والماركسي ، والرأسمالي وامثال تلك المفاهيم المدهبية للسياسة . وقد عُرّفت السياسة في الفكر السياسي الإسلامي بأنّها : ” رعاية شؤون الأمّة ” . كما يمكننا أن نعرّف السياسة من وجهة نظر الإسلام أيضاً بأنّها : ” كل عمل اجتماعي يستهدف توجيه الحياة الإنسانية ، توجيهاً تكاملياً ، ضمن علاقات الحاكم والمحكوم التي حدّدها المنهج الإسلامي ” . لذلك نستعمل مصطلحات : السياسة المالية ، السياسة الخارجية ، السياسة التربوية ، السياسة الإعلامية .. الخ . ولا يكون النشاط سياسياً بمفهومه الاصطلاحي ، الّا إذا كانت السلطة تشكّل أحد محاوره ، كفّن إدارة شؤون العلاقات الخارجية بين الأمّة الإسلامية والأمم الأخرى ، وكتوجيه التربية والتعليم ، والأوضاع الاقتصادية في البلاد من قبل السلطة .
عُرِّفَتْ السياسة في اللغة : هي رعاية شؤون الدولة ، وتعريفاً : هي فن الممكن . هذا الفن استخدم منذ القدم على عهد الامبراطريات الكبرى في التاريخ ، لادارة شؤون الرعية . لكنها اختلفت من وقت لاخر ومن دولة لاخرى حسب ما فهمها وطبقها الامبراطور او السلطان او الرئيس ، وغالبيتها قديما قائمة على الحق الالهي الذي يتولاه الحاكم نيابة عن الله . ولسنا نحن هنا بصدد العرض عن مفاهيم السياسة القديمة على هذا النمط الذي انتهى بنهاية العباسيين في 656 للهجرة حين عبر عنها الخليفة المنصور بقوله ( ايها الناس انما انا سلطان الله قي ارضه اسوسكم بتوفيقه وتسديده اطيعوني ما اطعت الله ) . هذه السياسة الصارمة بحق الرعية نظر اليها الامام جعفر الصادق ( عليه السلام ) من منظور اخر مغاير حين التزم الحياد بينه وبين العباسيين في احقية الخلافة وقيادة الدولة ، حتى لا يحدث مالم يكن بالحسبان للعلويين على يد المنصور المستميت في وراثة الخلافة للعباسيين ، والى هذا الموقف الذكي الذي وقفه الامام الصادق ( عليه السلام ) يرجع الفضل في سلامته وقومه من اذى العباسيين ودعاتهم ورجالهم ، لان منهاج المدرسة المبني على الرأي والرأي اخر يتناقض ومفاهيم العباسيين أنذاك . .
لكننا حين نتحدث عن موقف المدرك في المفهموم السياسي العام ، ندرك ان هناك مدرسة اعدت لتعليم صفات المتقين وكيفية التعامل بينهم وبين الناس وفقاً للشريعة الاسلامية النقية وتطبيق مبادىء القرآن الكريم في توجيه وقيادة الامة سياسياً على هدى القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم . نفهم ان مبادىء المدرسة مستمدة من عهد الرسالة النبوية حين وضع الرسول (صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ) دستور المدينة في السنة الخامسة للهجرة وضمَّنًه حقوق وواجبات الناس في امة الاسلام ، هذا الدستور الذي اخفته الدولتان الاموية والعباسية لكي لا يكون مستنداً للمسلمين في نظرتهم لسلطة الدولة القائمة على العدل والمساواة ، لا كما جاء في النهج السياسي للدولتين القائم على نظرية الحق الالهي والذي يتناقض وموقف الاسلام السياسي في ادارة حكم الدولة .
مدنية حكم الحاكم والمحكوم في المدرسة :
ان التحدث عن السياسة ومعايرها الانسانية في هذه المدرسة ، مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، لابد لنا من العودة الى سفر الامام علي بن ابي طالب ( عليه السلام ) في ( نهج البلاغة ) المتضمن الكثير من الخطب والرسائل السياسية التي تعد بحق الدستور السياسي لمن يريد ان يسوس الدولة بالحق والعدل والمساواة بين الناس ، وتقف رسالة الامام ( عليه السلام ) الى مالك الاشتر في المقدمة ، لنلتقط منها تلك المبادىء الانسانية الرائعة فيمن يتولى امور السلطة .
فالامام ( عليه السلام ) يرى ان السياسة لا تراد لنفسها ، وانما تراد للذكر الجميل . فهي لم تعد حقا الهياً يتولاه الحاكم نيابة عن الله ، وانما هي منوطة بارادة الناس ، توليها من تشاء بحسب اعتبارات تتعلق بمصلحة الجماعة حين يقول : ( آلزموا السواد الاعظم فأن يد الله مع الجماعة )
لذا فهي ليست سلطة للقهر والعنف والتَعَسُّف ، لكنها مندمجة معهم تراقب احوالهم وتضع الحلول الناجعة لها . وهو يرى ان الحاكم عليه واجب ديني مقدس ان يكون بين الناس لا بعيداً عنهم حين يقول : ( فأن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق ، وقلة علم بالامور ) وبعد موقعة النهروان وماحل بها من مأسي ، ندم الامام عليها مخاطباً اصحابه :
( ايها الناس لاتقاتلوا الخوارج فمن طلب الحق فأخطئه، ليس كمن طلب الباطل فأدركه ) (14) . لكن الخطوب احاطت به والاعداء بدأوا يتربصون به الدوائر فنصحه اتباعه الخلص ان يلتزم مقره ولا يغادره الى مسجد الكوفة في صلاة الصبح خوفا من غدر الخوارج به ، لكنه رفض ذلك . قائلاً : :
( من لم يستطع ان يواجه الناس عليه ان يتخلى عن حكمهم )
هذه هي العلاقة التي افرزتها المدرسة ” مدرسة أهل البيت ” ( عليهم الصلاة والسلام ) بين الحاكم والمحكوم . وهنا تقف نظرية القرآن شاخصة في منهج المدرسة ( كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته ) ، فلا مجال للحاكم من التهرب من مسئولية الامة وما يقع عليها من ظلم تحت اي ظرف كان .
وهي ليست وسيلة للاثراء غير المشروع والتوسعة على الاهل والاقارب بغير حساب دون الاخرين ، لكنها تحقيق عدل وانصاف حق ومساواة بينهم حين يقول : ( فلا يكن حظك في ولايتك مالا تستفيده، ولا غيظا تشفيه، ولكن أماتة باطل واحياء حق ) وبنظره ان الناس عباد الله ، والمال مال الله ، يقسم بينهم بالسوية ، ثم يقول في المحافظة على اموال الدولة : ( ألا ان كل قطيعة أقطعها (فلان) وكل مال اعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فأن الحق القديم لا يبطله شيء. ، ففي العدل سعة . . ومن ضاق عليه العدل . . فالجور عليه أضيق )
كما إنها ليست حسباً تشاد عليها الامجاد ، ولا شرفاً يدفع الى التكبر والتجبر حين يقول ( عليه السلام ) : ( إذ لا حسب كالتواضع ) ، وليست استبدادا في الرأي ولا خداعا للناس لكسب المجد والسلطان . لكنها برأيه صراحة في القول ونزاهة في العمل وصدق في المعاملة ، حين يقول :
( ياولاة آمور الناس ، أصدقوا ما وعدتم به الناس ، ولا تخونوا عهدا تعاهدتم به مع الناس ، ولا تنكثوا أيمانا اقسمتم عليه ، فمن اراد ان يكون أماماً للناس عليه ان يبدأ بنفسه قبل غيره ، وليبدأها بسيرته قبل لسانه )
انها فلسفة سياسة لم نقرؤها من قبل . . ويقول الامام الحسين ( عليه السلام ) في تطبيق سياسة الدول :
( كونوا مع الحق ، ولا تخشوا الدنيا كلها ، ولا تقبلوا باطلاً ابدا ، فأن جدي رسول الله ( صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ) مني بالدنيا كلها من قريش فآثر الحق عليها ، ولم يقبل منها منةً )
هنا كان النص الديني يشكل المعيار الوحيد للسلوك السياسي . وفي هذا الخصوص يقول الامام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) مخاطباً الرشيد من سجنه الانفرادي في بغداد حين طلب منه الرشيد العفو والرضى وتأييد سياسة العباسيين حين قال الرشيد مخاطبا له : (أنصفنا يا موسى فانتم اعمامنا ، أذكرنا بخير ولك منا ما ترغب وتريد ) فيرد الامام من داخل سجنه على الرشيد قائلاً :
( يا ظالم العصر ان الظلم فاشٍٍ ببابك ، والله يا هارون نحن ورثة مدرسة أهل البيت لا نرضى بذل او معصية ، فلن ينقضي عني يوم من البلاء ، حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء ، وغدا نحن جميعا امام الله سواء )
ويقول الخليفة المآمون للامام الرضا ( عليه الصلاة والسلام ) حين طلب منه قبول البيعة والامام يدركها لعبةً وغدر يقول : (لا بد من قبولك ما اريد ، فاني لا اجد محيصاً عنه ، بك يستتب الامن، وتهدأ الجموع ) ، فيرد عليه الامام ( عليه السلام ) :
( ليس بي ما تريد ولكن بالحق والعدل تحكم الناس ، نحن ابناء أهل البيت كلنا شهداء الحق والعدل فقد قال جدي امير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ان الله هو العدل الذي لا يجور )
مما أكد شكلانية البيعة كما ادركها الامام الرضا ( عليه السلام )، هو اقدام المأمون على لبس الخضرة ونزع السواد شعار العباسيين أسترضاءً للعلويين . لكنها كانت مظاهر مؤقتة من اجل تحقيق الغرض العباسي في تثبيت خلافة الدولة لهم ، نعم كان شجاعاً عدلاً، لا يهاب الموت في سبيل الله ، فأنهم والله عترة أهل البيت في صدور الناس أهيب من الاسد .
والزمت الناس باتباعه حين جعلت مبادىء لقد وضعت المدرسة مبادىء الحكم الاسلامي السياسة لا تقتصر على الفرد، بل على الجماعة والفرد معا، ًلذا فالنظرة موحدة وشاملة للاثنين، لان مصلحة الاكثرية هي الاساس
فسخط العامة يجحف برضى الخاصة، وان سخط الخاصة يغتفر برضى العامة ومن يطلع على العهد المكتوب لمالك الاشتر من الامام علي يجد بكل صراحة ووضوح ان نظام البرلمان ومبدأ سيادة الامة هو من قواعد الحكم واصول الاسلام .
ان ما قررته المدرسة في اصول الحكم طالبت بتطبيقه دون اي اعتبار اخر ، وخاصة في مجال الحقوق الكثيرة التي اوردتها في منهجها الصالح ومنها :
الحرية :
لقد انطلقت المدرسة من النص القرآني ، ففي مجال الحرية ، التي هي اسمى ما في الوجود ، أعطت للانسان حرية الاختيار في الفعل الذي يريده ، حين امر الله سبحانه وتعالى الانسان بفعل الواجب ، ولم يجبره عليه ، بل ترك الامر لاختياره وارادته ، لكنه حذره من المعصية ، واوعده بالعقاب والثواب ، وهذا ما نلاحظه تماما في سورة الكهف آية 29
( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفرانا اعتدنا للظالمين ناراً ) (15 )
هنا اقامت الاية الكريمة علاقة جدلية بين الكفر والايمان وعدمه ، وبما ان الكفر ظلم للنفس البشرية من الناحية العقائدية ، وقد يرتكب من غير الكافر ايضا ، فقد وسع القرآن العقوبة حين قال أعتدنا للظالمين ناراً (لان الظلم يرتكب من قبل الكافر والمؤمن على حد سواء ) والقرآن وكلماته المتميزة لايقبل الترادف اللغوي ابداً .
هذا الفهم العميق للحرية كان الاساس الذي بنيت عليه علاقة الحاكم بالمحكوم ، فالحاكم يعترف بحق الاخرين في ان يكونوا معه اوعليه ، فليس من حقه الضغط والاكراه، لان ذلك يناقض طبيعة الانسان الحرة . فالحرية مكفولة من وجهة نظر المدرسة بمنطق العقيدة ، لذا فهي مكفولة للجميع من خلال حرية العمل دون إكراه ( ولست ارى ان اجبر احدا على عمل يكرهه ) وهنا يصبح حق العمل من حق العامل نفسه . لكنها لم تغفل الحق العام حين ربطت العمل بالخدمة الحياتية ومنفعة الناس دون غرور وتبجح واحتكار لاقوات الناس …
( وابتذل نفسك فيما افترض الله عليك . . . . . ومن الحق عليك حفظ نفسك والاحتساب على الرعية بجهدك ، فإن الذي يصل اليك افضل من الذي يصل بك )
وهكذا فان حرية العمل والعمل نفسه وحده المسؤول عن اشاعة الطمأنينة والرخاء المجتمعي . وينسحب هذا القول على حرية السكن والمعتقد حين يقول العهد الى عامله في مصر :
( لا تبغِ على اهل القبلة ولا تظلم اهل الذمة فهم في الخلق سواء )
المساواة :
وفي مجال المساواة اهتمت المدرسة بعدم التمييز بين الناس فيما هم فيه أسوة . وقد تحددت المساواة بأن لا يتميز احد على احد، بل وحرمت المدرسة ان يعيش أيا كان مركزه مكتفيا وحوله من يجهد نفسه باحثاً عن لقمة العيش يسد بها رمقه . وقد حذرت من مغبة الاستئثار بشيء يزيد على بعض الناس مما تجب فيه المساواة بينهم حين قال :
( واياك والاستئثار بما الناس فيه اسوة )
بنظرة عامة في المساواة ترى ان البشر متساوون في الحقوق العامة ومساواتهم لم تكن نابعة من الدين ، بل من اشتراكهم في الانسانية والمولد والدين معاً حين يقول :
( الرعية صنفان ، اما اخٍ لك في الدين ، واما نظير لك في الخلق )
والمساواة تمتد في رأيه الجليل لتشمل كل انواع التسوية سواءً في العطاء حين يقول مخاطباً الاشتر :
( واني اقسم بالله قسما صادقا لئن بلغني انك خنت من فيء المسلمين شيئاً صغيراً او كبيراً ، لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر ، ثقيل الظهر ، ضئيل الامر )
او امام القانون حين يقول (عليه السلام ) :
( ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء. . . . . والزم كل منهم ما الزم نفسه )
او في كل صنوف العدالة الاجتماعية حيث العدل اساس الحكم الصالح والمواطنة الصحيحة ، فإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية ))
وينظر الامام الى سياسة الباطل ، فيضع تحته كل مسميات النفاق والرياء والمخاتلة وطعن الاخرين بدون وجه حق ، فيقول مخاطبا احد عماله على الولايات :
( أيها الرجل ، لا يؤنسك الا الحق ، ولا يوحشك الا الباطل، ولا تحكم الا بالعدل )
الموقف من السلطة :
وموقف المدرسة من استلام السلطة ، اعتبر السلطة وسيلة لا غاية لتحقيق حكم الله في الارض ونشر العدالة الاجتماعية ، لان القانون بحاجة ماسة الى من ينفذه على الارض . واحلى ما حدده العهد ، ان مهام السلطة محددة باربعة امور هي (جباية موارد الدولة وايداعها في بيت المال سليمة ، والدفاع عنها وعدم تمكين عدوها منها ، واستصلاح اهلها علماً ومعرفة وكفاية ، وعمارة بلادها دون نقص يذكر) ، ومن هنا انطلق العهد بضرورة التكاتف والتعاون لاسعاد الشعب وعمارة الوطن لينعم الجميع بتلك السيرة الحسنة والنهج القويم .
المعاهدات الدولية :
وفي مجال عقد المعاهدات الدولية مع الاخرين ودخوال الحرب يقول العهد : لا تدخلوا الحرب إلا مكرهين ، ولا تخوضوا غمارها الا في سبيل الله دفاعا عن النفس وصالحوا من يصالحكم صونا للنفوس ان لا تشحن بالضغائن والاحقاد ، حقنا للدماء مستشهدا بالاية الكريمة الانفال 61
( وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ) (16)
ويقول اذا ما عقدتم الصلح فعليكم ان يكون محكما بالفاظه، صريحا في دلالاته ، فلا يتحمل اكثر من معنى واحد ، حتى لا تتطرق اليه التأويلات والعلل وطلب المخارج . واختاروا لمن يفاوض من خيرة الناس عدلا وعلما ومعرفة ، انها امانة الوطن، واذا وقعتم عقدا فلا بد من الالتزام به وعدم نقضه ، اعتمادا على تأويل خفي، لان هذا من باب النفاق والرياء ، حين يقول :
ولا تعقد عقدا تجوز فيه العلل ويتزعمه الجاهل، ولا تعولن على لحن القول بعد التاكيد والتوثيق، ولا يدعونك ضيق امر ٍلزمك فيه عهد الله الى طلب انفساخه بغير الحق ، فأن صبرك على ضيق امر ٍترجو انفراجه ، خير من غدر تخاف تبعته )
اصلاح حال الرعية :
وفي مجال صلاح حال الرعية يدعو العهد الى الاهتمام بشئون الامن والثقافة والصحة ووظائف الدولة والخدمات وعدم الاخلال بها مطلقا ، ولا يمكن لهذه الخدمات ان تتم الا اذا بنيت على الصدق والاخلاص والتعاون بين الحاكم والمحكوم ، ضمن اطار مصلحة الوطن والمواطن حين يقول :
( ايها الناس ان لي عليكم حقا ، ولكم عليَ حق، فأما حقكم علي النصيحة لكم وتوفير فيئكم وكفايتكم فليس من حق الحاكم ان ينام ليلته وفي وطنه معوز واحد ، وعلي تعليمكم كيلا تجهلوا ، اما حقي عليكم الطاعة حين امركم والوفاء لي ولوطنكم )
واكد على وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ، على ان تكون الكفاءة شرطا للاختيار والتوظيف لا القرابة والصداقة ، فقد جائه اخاه عقيل طلب منه ان يوليه ولايةويعطيه من بيت مال المسلمين ، فرفض ذلك بشدة وقال له :
: أتريد مني ولاية وانت لست بقادر عليها ومالا وهو ليس مالي ولكن مال المسلمين ، اتقي الله ( ياعقيل في دينك) . وطالب الامام بالتوسعة على من يحمل الامانة حتى لا يدب الفساد في نفسه ولا يستغل منصبه لشخصه ، وعلى الامة مراقبته بدقة ولا تخفوا عوجاً الا وتعلموه ، فما جزاء الاحسان الا الاحسان ، وما جزاء السيئة الا بمثلها . .
شخصية الحاكم :
وفي مجال شخصية الحاكم او المسؤول فلا يجب اختياره الا من بين اكثرهم كفاءْة واستقامة ، من اهل الورع والصدق والأمانة، الذين لا تستميلهم الاهواء ولا تأسرهم المطامع او الشهوات أو تطربهم المدائح ، لانها من الامور التي تصرفهم عن جادة الحق وسواء السبيل . والفضيلة شرطاً من شروط اختيار الحكام وعليه رعايتها ونشرها بين الخاصة والعامة، لذا لايقبل للحكم الا اذا كان من اتباعها حتى لا يؤثر سلبا على حالة المجتمع . ويؤكد عل اختيار اقوياء الشخصية والمقدرة في ادارة امور الدولة، لذا اكد الإمام على ضرورة حسن اختيار المسؤول لممارسة الوظيفة حتى لايستغل في المواقف الصعبة ، ولا يداهن في دينه على حساب وطنه ، لان الموظف مسؤول امام الله وامام نفسه ومن هم على راسه . وعلى من يتم اختياره يجب ان يكون منزهاً عن الشبهات وفياً بالعهد والتجربة والكفاءة والشجاعة في قول الحق والمواقف الصعبة لا على اساس القرابة والصداقة والمصلحة الشخصية كما هو شائع اليوم بهذا يكون الأمام ( عليه السلام ) قد سما بالدولة الى المستوى الانساني الرفيع ، حفاظا على الوطن والمواطن من عاديات الزمن ، وما تخبئه الايام من نوازل .
هذا هو رأي مدرسة أهل البيت ( عليهم الصلاة والسلام ) في السياسة والمدنية والمواطن والدولة ، هؤلاء الذين ، عاشوا بين الفقراء وضد الفقر ، ومع المحرومين وضد الحرمان ومع الجماهير وضد الطغاة . . نعم هذا قول لا يبارى . لقد اثبت التاريخ ان كل فكرة طرحت في حكم الناس – من دون شرع القرآن والجماعة – كانت فكرة مميتة ومن اتبعها كان لا يحسن قراءة التاريخ ، وكان عليه ان يتعلم القراءة ، وكان علينا ان نتعلم الدرس والقراءة بانفسنا ، ونحن ندعي ورثة هذه المدرسة ومنهجها الصالح ، حتى نولد ولادة حضارية جديدة خلال معاناة لما فاتنا من زمن ظالم ورديء ، فهناك علاقة تبادلية أو جدلية بين الانسان والبناء الحضاري ، فكلاهما يولد من جديد في الاخر . وكلاهما يتطور ضمن كلية تفاعلية واحدة ، هذا المنطق ينطبق على كل الحضارات بما فيها حضارة الاسلام رغم ان نهج البناء الحضاري الاسلامي جاء مختلفا حين كان رسول الله ( صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ) قمة الكمال ، وقمة الكمال لا ياتي بعدها الا النقص . ان مسيرة النقص والمعاناة التي نعاني منها الان هو اننا بحاجة الى التعايش مع النص القرآني صدقا وحقيقة ومنهج مدرسة أهل البيت صدقاً وحقيقةً ، فالاسلام الحق هو الذي يجب ان نتعايش معه بلغتنا وواقعنا قولا وتطبيقا ، لكن الاسلام اليوم ومنهجه القويم صار يعيش قي لغة الناس وليس في واقعهم ان الافتراق التدريجي بين التجربة السياسية الحالية وبين المنهجية القرأنية ، وخاصة في امر الحكم والمال ، شكلت بدايات التدهورفي وطننا العزيز حتى وصلنا الى نقطة نرى منها ان معدل النقص اصبح يعلو على معدل القوة فظهر التدهور بيننا في كل مجالات الحياة ، وان ادعينا عكس ذلك ، فالشواهد على الارض لا تسعفنا حجةً ، وهو تدهور ان لم نتلافاه سيسقطنا حتما في هاوية السقوط الكلي الذي لا ترجى منه شفاعة ابدا . وساعتها ليس من حقنا ان نندم ، بعد ان قصرنا بما لزم علينا عمله .
(1) د . اسماعيل علي السهيلي / مقاربات في الدولة الإسلامية والمدنية : د . مصطفى شلبي محمد / الدولة في الأسلام دولة مدنية حصرياً … ولا دولة دينية في الأسلام : أ . ماجد الغرباوي / أشكالية التجديد ص54 . : مروة البشير / دولة الأسلام مدنية / الأهرام اليومي / مقالة 8/1/2012 . د . عبد الرزاق السنهوري / إسلامية الدولة المدنية .
(2) د . مصطفى شلبي محمد / الدولة في الأسلام دولة مدنية حصرياً … ولا دولة دينية في الأسلام .
(3) ص/ 26-28 .
(4) يونس/ 14 .
(5) البقرة/ 30 .
(6) النساء/ 58-59 .
(7) القصص/ 83 .
(8) الحج/ 41 .
(9) غافر/ 38 .
(10) التوبة/ 12 .
(11) الانفال/ 61 .
(12) آل عمران/ 159 .
(13) الفتح/ 18 .
(14) نهج البلاغة ج1 ص144 .
(15) الكهف 29 .
(16) الأنفال 61 .