تُتِيْحُ لنا معطيات التاريخ الموثّقة، التعرّف على شخصيّة السيّدة زيّنب إبنة أمير المؤمنين(عليهما السلام). هذه البطلة التي جمعت بيّن شخصيّة المرأة، التي تتدفّق حناناً ورأفة ورِقّة، وبيّن شخصيّة الإنسان الجسور الباسل الغيور، الذي يعيش الحقّ في روحه، ويسير على دربه بكلّ كيانه. حتّى لو كان يسير وحده في هذا الطريق الصّعب، فهو مستأنس بالحقّ، لا تهمّه وحشة الطّريق.
فهي تلميذة أبيها (ع)، الذي لا يفارقه الحقّ بنصّ حديث الرسول (ص). ففي هذه الشخصيّة الفذّة، نرى بوضوح ظلال جهاد رسول الله(ص)، وعفّة الزهراء البتول، وفصاحة أمير المؤمنين، وحكمة الحسن، وإباء الحسيّن (عليهم السلام جميعاً). وإذا كانت معركة الطفّ طغت عليها شخصيّات الرجال، بقيادة الإمام الحسيّن(ع)، فإنَّ شخصيّة عقيلة بني هاشم، قدّ طغت على قيادة ركب الحسيّن(ع) بعد استشهاده. هذا الركب الذي يلفّه الأسى والحزن، وكان كلّه من النّساء والأطفال، و رجل واحد فقط، قدّ أوهنته العلّة وأنهكه المرض، هو الإمام السجاد(ع).
فللّه دَرُك يا أختَ الحسيّن كيف تحملت المصاب؟.
وكيف تمسكت برباطة جأش وشجاعة، يخالطهما شَمَم النبوّة وطهرها؟.
فكنتِ عند حُسن ظنّ جدّك وأمّك وأبيك وإخوانك، وكنت كما أوصاك إمامك الحسيّن(ع) عند آخر لقاء له معك، عشيّة العاشر من محرم حيث أوصاك (ع) قائلاً: (يا أختاه، تعزيّ بعزاء الله، فإنّ لي ولكلّ مسلم أسوة برسول الله، ثم قال: (إني أقسم عليك، فأبري قسمي، لا تشقي عليَّ جيباً، ولا تخمشي عليَّ وجهاً، ولا تَدْعي عليَّ بالويّل والثَبُور).
إنَّ دراسة شخصيّة العقيلة زيّنب(ع)، تُنَمّي عند الإنسان المسلم، ثقافة تضحية المرأة، التي لا يقلّ دورها أبداً، عن دور الرجل. فالسيّدة زيّنب(ع)، لم تَضعَف ولم تَهِنْ، عندما صُرّع أخوتها وأبنائها وأهلها، وإنّما أصبحت كاللّبوة الجسورة، ماضية في تنفيذ وصيّة الإمام الحسين(ع). لقد تقلّدت هذه السيّد العظيمة، قيادة مرحلة ما بعد استشهاد الإمام الحسيّن(ع). فنهضت(ع) لقيادة ركب الأسارى، ببسالة لم يعهدها التاريخ، في الرجال فضلاً عن النّساء.
ولعمري هل يُعتب على حال، إمرأة مفّجوعة بأخوتها وأبنائها وأهلها؟.
لقد وقفت هذه القائدة المغوارة أمام إبن زياد، ذلك العُتِلّ الزّنيم، توبّخه بأقسى الكلام، رداً على قوله: (الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب إحدوثتكم). فلمْ تَرتَهب تلك المرأة الشجاعة، منه و من حرسه وحاشيته، فردّت على الفور قائلة: (الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وطهّرنا من الرّجس تطهيراً، إنّما يفتضح الفاسق، ويكذّب الفاجر، وهو غيرنا).
هذه الجُمَل كانت قصيرة في تركيبها، لكنّها كبيرة في معانيها. فقد أهانت السيّدة زيّنب(ع) وحطّت من جبروت إبن زياد، عندما ذكّرته، بأنّها هي بنّت رسول الله (ص) وكفى. وإنّ الفُسّق والكَذب، هما عند الذي لا يَعرفُ له التاريخ أباً شرعيّاً.
وأبعد من ذلك، فقد وقفت أمام يزيد، وهو ينكث بقضيّبٍ ثنايا الإمام الحسيّن(ع)، حيّث وُضِعَ الرأس الشريف أمامه، وهو يقول:(إنّما خرج من الدّين أبوك وأخوك).
فانبَرت أخت الحسيّن(ع)، لتتحدى هذا الإرهابي الأشر، وتردّ على كلامه دونما أيّ اعتبار له، وهي ترميّه بكلمات السُخريّة، والاستخفاف والاحتقار قائلة:(بدين الله ودين أبي وأخي، اهتديت أنّت وجدّك وأبوك إن كنت مسلما). ثم قالت:(الحمد لله ربّ العالمين، و صلى الله على رسوله و آله أجمعين، صدق الله كذلك يقول: ( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ).
أ ظننت يا يزيد، حيث أخذت علينا أقطار الأرض، و آفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسراء، إن بنا على الله هواناً، و بك على الله كرامة؟.
فشمختَ بأنّفك، ونظرتَ إلى عطفك، حين رأيتَ الدّنيا مستوثقة، حين صفا لك ملكنا و سلطاننا، فمهلاً مهلا… . أ نسيت قوله تعالى: (وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)؟.
ثمّ تقولُ غيّرَ مُتأثّمٍ ولا مُستعظمٍ: (فأهلوا و استهلوا فرحاً *** ثم قالوا يا يزيد لا تُشل)؟. منحنياً على ثنايا أبي عبد الله، سيّد شباب أهل الجنّة، تنكتها بمخصرتك، وقدّ نكأتَ القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء الذريّة الطاهرة، وتهتف بأشياخك لتَرِدَنّ موردهم.
اللهم خذّ بحقنا، و انتقم لنا مِنْ ظالمنا، فما فريت إلاّ جلدك، ولا حززت إلاّ لحمك، بئس للظالمين بدلاً، و ما ربّك بظلام للعبيد. فإلى الله المشتكى و عليه المُتّكل. فوالله لا تمحو ذكرنا، و لا تُميتُ وحينا، والحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة، ولآخرنا بالشهادة، ويَحسِنُ علينا الخلافة، إنّه رحيم ودودّ).
إنّ السيّدة زيّنب، تُعدّ قدوة لكلّ إمرأة مسلمة مؤمنة، وتاريخ هذه السيّدة يعطي الردّ المُفْحِمْ لكلّ الذين يتخرصون بالقول: أنّ الإسلامَ يهضمُ حقوقَ المرأة. إنّ الإسلامَ أعزَّ المرأة، إذّ أعطاها حقّ القيادة الميّدانيّة، وحقّ الدّفاع عن مقدّسات العقيدة، وتصدّيها لمسؤوليّة الدّفاع عن الإسلام والإنسان. فالإسلام يؤهل المرأة، التي تؤثّر بشكل إيجابي في حياة الإنسان، ويبوِّئُها المكانة اللائقة بها، كعنّصر لا تقوم الحياة بدونه، ولا يستقيم أمر البشريّة بغيّره. (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)(صدق الله العلي العظيم).
[email protected]