تُعتبر السينما الوجه الثاني للحرب الإعلامية والأجندات السياسية ، إنها صناعة ضخمة مزدهرة ، وبالأخص السينما الأمريكية التي طغت عالميا بفضل بالإمكانيات الهائلة والحرفية العالية للكوادر والأموال الطائلة والتكنولوجيا العالية التي تُسخّر لها ، إنها المرفق الفني الذي يُستخدم لفرض أجندة ودعاية في اللاوعي الجمعي ، وتسخيرها لزرع الأفكار والآيديولوجيات ، إنها حقا تأسر المشاهد وتشده في مقعده الذي لا يغادره ، إلا وتزرع في ذهنه فكرة أو ميل معين .
منذ زمن بعيد ، وإمبراطورية هوليوود تتجه إلى غسل الأدمغة بصورة مدروسة ، والدعوة إلى الخروج عن التقاليد حتى إن كانت رصينة ، وتهاجم الأديان وتسخر من المعسكرات المعارضة ، وعلى العموم ، نحن نرى إن هذه السينما تدعو إلى التهتك والحرية المنفلتة والخروج عن التقاليد الرصينة بل الأخلاق العامة ، والنزوع إلى الفردية الخارقة التي تمتلك قدرات جسمية وعقلية خيالية لا تتوفر في دول ، أمثال (باتمان) و(سوبرمان) و(رامبو) و(هالك) و(سبايدرمان) و(كابتن أميركا) وسلسلة أفلام (المهمة المستحيلة) وغيرها .
بدأ فعل هذه الأجندات ينطلي على المشاهد من خلال المقاتل الأمريكي العائد من حرب (فييتنام) والذي لا يُقهر في سلسلة أفلام (رامبو) ، هذا المقاتل الذي يُدمّر قاعدة روسية مدججة بأحدث الأسلحة وبمفرده ويحيلها إلى قاعا صفصفا ! ، تصوروا إنه يسقط طائرة هليكوبتر مدرعة بواسطة مقلاع ! ، ودون أن يتسائل المشاهد : لماذا إذن خسرت الآلة العسكرية الأمريكية الحرب في (فييتنام) ، بكل قسوتها وبشاعتها وضراوتها أزاء شعب من الفلاحين ؟! ، أنها وبلا شك وسيلة أقل كلفة للتعويض عن أكبر نقطة سوداء في تاريخ أمريكا ، بل تدس هذه السينما الكثير من المغالطات التاريخية ، فتحيل الهزيمة إلى نصر ، أو تتجه إلى تبرير هذه الهزيمة ، غالبا بدافع إنساني (!) ، كفيلم (بيرل هاربر) ، الهزيمة الكبرى لأمريكا في الحرب العالمية الثانية على يد (اليابان) ، وكيف أن بضع طيارين أمريكان شجعان ، قاموا بإسقاط عدة طائرات (زيرو) يابانية أثناء الهجوم ! ، هكذا تحولت السينما إلى مجال دعائي ناجح للآلة العسكرية الأمريكية ، أفرادا وقيادة ومعدات .
لهذه السينما وسائل جذب كثيرة للمشاهدين ، فنتجه إلى الشاشة كالمنومين مغناطيسيا ، يجذبنا فيها كل شيء ، الموسيقى التصويرية ، براعة الممثلين ، جودة الإخراج والتصوير ، مشاهد الحركة أو الأكشن ، جمال وأنوثة الممثلات وجرأتهن وقلة حيائهن ، كذلك استنباط الغموض والبراعة في إدارته .
يُعتبر مهرجان (الأوسكار Academy Awards) من أهم المهرجانات السينمائية في العالم ، والحق أقول أن القليل من الأفلام الفائزة بهذه الجائزة من طرازي المفضل ، ولا أعرف يقينا المعايير المعتمدة كشرط للفوز بهذه الجائزة المرموقة ، ولا أنفك أتفاجأ من عدة أفلام جيدة لم تفز ، وأفلام أخرى أجدها ثقيلة ومملة لكنها فازت بعدة جوائز ، ورغم كوني بعيدا عن مجال النقد السينمائي ، إلا إني لاحظت أن أفلام جائزة الأوسكار تغلب عليها بعض الصفات والمضامين المشتركة ، منها :
1. ميزانية الفيلم : الأفلام ذات الميزانيات الضخمة وذات الطابع الملحمي ، تكون صاحبة الحظ الأوفر للترشيح لهذه الجائزة ، وأفضل مثال هو فيلم (تايتانك) صاحب الأرقام القياسية في جوائز الأوسكار ، وأعترف إنه ليس من الأفلام التي أرغب بمشاهدتها مرارا .
2. نقد ما يسمى (معاداة السامية) ، وإبراز “مظلومية” اليهود ، فرغم كون اليهود أقلية عالمية صغيرة ، إلا أن ما يقارب نصف الممثلين الأمريكان من اليهود ، من هنا نعرف تأثير اللوبي اليهودي الكبير حتى على صناعة السينما ، فنلاحظ الإهتمام بإنتاج قائمة طويلة لأفلام من هذا النمط ، والتركيز على الجانب الإنساني فيها ، أذكر منها فيلم (قائمة شاندلير Schindler’s List) و(عازف البيانو The pianist) ، وهي حقا من الأفلام الجيدة ، لكن أزاء أفلام قليلة جدا تعالج الخروقات الهائلة لحقوق الإنسان من قبل المحسوبون على رعايتها على طول الأرض وعرضها ، كجرائم الفرنسيين في الجزائر والأمريكان في فييتنام والعراق ، والخمير الحمر في كمبوديا ، والبلجيكيين في الكونغو ، فقد فاقت ضحايا ملك بلجيكا (ليوبولد الثاني) من الغونغوليين ، ضحايا الهولوكوست أضعافا ، وغيرها من الأفلام التي لا تتناسب مع كثافة أفلام معاداة السامية .
3. المشاهد الإباحية والجرأة الجنسية ، التي تصل أحيانا إلى الإسراف والبُعد عن الهدف ، ومن النادر جدا أن نشاهد فيلما خاليا من هذه المشاهد ، بل تُختَلَق أحيانا كمشاهد عرضية ، فبالرغم من كل شي ، فالسينما تجارة .
4. عند تطرق الفيلم إلى المثلية والشذوذ الجنسي ، والتعاطف الشديد مع هذه الظاهرة إلى درجة تملق هذه الطبقة ، فنسمع كل حين بأحد الممثلين أو الممثلات وهو يعلن عن “مثليته” بكل فخر ومن خلال مؤتمر صحفي ، لأنه سيضمن بذلك حضوته لدى هوليوود !.
فيلم (آلام المسيح Passion of The Christ) من إخراج (ميل غيبسون) الممثل المعروف ، لم يفز بجائزة الأوسكار رغم كونه فيلم يسرد وقائع تاريخية عن نهاية حياة السيد المسيح لأنه يمسّ اليهود أولا وثانيا بسبب شخصية المخرج لمجرد تشكيكه بأعداد ضحايا محارق النازية (الهولوكوست) رغم موجة الأهتمام الواسعة التي أثارها الفيلم ، يشاركه في خانة (النبذ) إن صح التعبير ، الممثل (كيفن كوستنر) المعروف بإحتكاكه بالمجتمع اليهودي ، والذي حُرم من جائزة الأوسكار لعدة أفلام مرموقة مرشحة .
فيلم (الخلاص من سجن شاوشانك Shawshank redemption) ، بطولة الممثل (تيم روبنز) والممثل العملاق (مورغان فريمان) ، صاحب أكبر نسبة مشاهدة في العالم ولا ينافسه في ذلك سوى فيلم (العرّاب) ، والذي يتحدّث عن فساد وعنف الشرطة الأمريكية ، لم يفز بجائزة الأوسكار هو الآخر ، يُستثنى من ذلك طبعا فيلم (الأيام الطويلة) ، فقد كان المكسب الوحيد من هروب الأخوان حسين وصدام كامل هو إننا سوف لن نرى هذا الفيلم السمج والممل مرة أخرى !.