لا يخفى على احد أن السيستاني انتقل من منهج الصمت والسكوت والانزواء الذي كان يتمسك به في زمن النظام السابق، إلى منهج النطق والتدخل في السياسة في زمن الاحتلال، في تطور فاجئ الجميع وانقلاب بدرجة 360″ “، بعد أن تم التنسيق بينه وبين المحتل على أن يكون هو المحور الذي تدور حوله رحى العملية السياسية، وقبض مبلغ “200” مليون دولار من المحتل وفقا لتصريحات “رامسفيلد” وغيره، الأمر الذي لم ينفه السيستاني، مقابل أن يبارك ويشرعن الاحتلال وما رشح منه من قبح وظلام ودمار، ويحرم مقاومته، فكان نُطق السيستاني مصداق للحكمة القائلة “صمتَ دهرا ونطق كفرا”، فبالإضافة إلى شرعنة الاحتلال، اصدر فتوى التصويت بــ”نعم” على الدستور المشؤوم الذي وضعه “بريمر”، وأوجب انتخاب قائمة ” 169″ و “555” التي تمخضت عنها الحكومات الطائفية الفاسدة التي تسلطت على العراق وشعبه، ودفاعه عنها، وتحريم التظاهرات التي كادت أن تطيح بها، وصولا إلى إصدار فتاوى الجهاد الكفائي التي تسببت في نتائج كارثية من أبرزها تأسيس الحشد الطائفي، وغيرها من المواقف التي يطول المقام بذكرها، والتي أدخلت العراق في مستنقع الفساد ومحرقة الطائفية المهلكة، فما نطقَ به السيستاني ثبت ومن خلال التجربة والواقع المرير انه وبالا على العراق وشعبه…
وبعد أن زجَّ ما نطق به السيستاني العراق في نفق مظلم، وفي خطوة تنم عن هروب من المسؤوولية وعدم اكتراث وضمن السيناريو المُعد، يعود السيستاني إلى صمته، حينما أعلن على لسان خطيب الجمعة يوم أمس عن توقف الخطبة السياسية، بعد أن مهد لها في تصريح له في الجمعة التي قبلها حينما قال انه “بح صوته!!!” في إشارة منه ليوهم الناس أن ساسة الفساد لا يستمعون لصوته، متجاهلا انه هو مَن سلَّطهم طيلة هذه الفترة ودافع ولازال مدافعا عنهم، بدليل انه لم يصدر فتوى صريحة وواضحة بوجوب محاكمتهم على غرار فتوى التحشيد، بل انه تعمَّد إخفاء ملفات الفساد التي سلمها له الجلبي، واستمرارا منه على نهج الاستخفاف بالعقول والضحك على الذقون، ربط السيستاني صدور الخطبة السياسية بحدوث المستجدات، والجميع يعلم أن العراق بلد المستجدات التي لا تغيب عن مشهده اليومي، بل عن ساعاته ولحظاته،
من خلال سيرة السيستاني وديدنه في سرعة التلون والتقلب والتكيف مع الأجواء، يستطيع الفرد أن يقرأ الأسباب والدواعي والسيناريو التي دفعت به إلى اللجوء إلى هذه الخطوة، فكل المعطيات تشير إلى أن العراق مقبل على تغيرات جوهرية على المستوى السياسي والأمني وغيره، ومنها عودة الحضور الأمريكي كلاعب رئيسي في العراق، ودخول القوات الأمريكية يضاف إلى الأخبار التي تتحدث عن دخول مستقبلي لقوات عربية، وهذا بطبيعة الحال سيولد تصادم مع حشد السيستاني الذي ستدفع به إيران، فمن المحتمل أن يكون السيناريو هو مشابه لسيناريو معارك النجف والتي هرب فيها السيستاني إلى لندن بحجة العلاج، ولأن قضية السفر إلى لندن باتت مكشوفة ومفضوحة قرر السيستاني هذه المرة العودة إلى شرنقة الصمت، حتى يكون هو في مأمن عن ما سيحدث، هذا من جانب ومن جانب آخر يكون بعيد عن أي عوامل ضغط وحرج، تحت ذريعة انه قرَّر الصمت بعد أن “بح صوته” وبالتالي إعطاء المشروعية لما سيجري حتى ينال رضا صاحب الكفة الأقوى وينبطح له والذي بات واضحا للجميع،
خطوة السيستاني هذه تذكرنا بما قاله المرجع العراقي سابقا في سياق جوابه على استفتاء رفع إليه تحت عنوان: “ولاية فقيه او حكم امبراطور”: ((…أن الزعامات الدينية الإيرانية ومن ارتبط معها من اعاجم في ايران وفي العراق وغيرها من بلدان زعامات جبانة مترددة انتهازية مرتبطة وساجدة وعابدة للواجهة والسلطة والتسلط والسمعة وحب المال والدنيا، تنظر لنفسها وتعمل لنفسها وراحتها ومنافعها الشخصية ولا تهتم للاخرين حتى لو فُتِك بهم وقُتّلوا وسُحقوا سحقا ، فمع ادنى مواجهة فان مواقفهم وتصريحاتهم ستتغير وتنقلب او سيرفعون الراية البيضاء او نراهم يسبقون النساء والأطفال في الهروب والرجوع الى دول الأسياد أو الرجوع الى ما كانوا عليه من تسردب وسبات وخنوع ونفاق …))
ولو تنزلنا عما قلناه سلفا فعلى اقل تقدير أن خطوة السيستاني هذه تعد هروبا من المسؤولية الشرعية والأخلاقية والإنسانية والتـاريخية باعتباره يتحمل كل ما جرى من ويل وثبور على العراقيين، وكما تقول الحكمة “كسرته فعليك جبره، أضللته فعليك مسؤولية هدايته”….