23 ديسمبر، 2024 3:05 م

السيرة والانجاز الفلسفي للدكتور جعفر آل ياسين

السيرة والانجاز الفلسفي للدكتور جعفر آل ياسين

السيرة الشخصية
يعتبر المرحوم الدكتور جعفر بن مرتضى آل ياسين  المولود في مدينة الكاظمية المقدسة، بغداد، العراق عام 1932 م، والمتوفي في مدينة النجف الأشرف عام 1430هـ/ 3/9/ 2008 م، علامة فلسفية بارزة في الدرس الفلسفي العراقي المعاصر فضلاً عن العربي والإسلامي، وذلك لما قدمه من دراسات فلسفية معمقة في الفلسفة اليونانية والإسلامية والتراث العربي الإسلامي، وتحقيقات نصوص فلسفية لكبار الفلاسفة المسلمين من أمثال الفيلسوف أبي نصر الفارابي (ت339هـ/950م)، والفيلسوف أبي علي بن سينا (ت428هـ/1037م). وغيرها مما سيرد ذكرها في ثنايا هذا البحث. وفهرست مؤلفات الفارابي بالتشارك مع المرحوم الدكتور حسين علي محفوظ.
إذ توج الدكتور جعفر آل ياسين عمله الفلسفي مبكراً عندما كان طالباً للفلسفة في كلية الآداب في خمسينيات القرن العشرين ببحثه للتخرج عن الفيلسوف الإسلامي الكبير صدر الدين الشيرازي (ت1050هـ/ ؟) ، لينتقل بعدها للدراسة في جامعة أكسفورد ، الملكة المتحدة، للحصول على الدكتوراه في الفلسفة، وذلك عن تحقيقه لكتاب ابن سينا في السماع الطبيعي من كتاب الشفاء مع مقدمة عن الفلسفة الطبيعية عند ابن سينا التي ما زالت حبيسة اللغة الانجليزية، ليلتحق بعدها تدريسيا في قسم الفلسفة، كلية الآداب، جامعة بغداد في بداية ستينيات القرن المنصرم وحتى إحالته على التقاعد في بداية ثمانينيات القرن ذاته، ليتفرغ بعد ذلك للتدريس في جامعات الأقطار العربية ومنها الكويت والإمارات العربية (جامعة العين) وليبيا (جامعة السابع من أبريل وجامعة مصراتة) وغيرها، وحتى عودته لبلده العراق بعد عام 2001م، بسبب إصابته بمرض أدى إلى فقدان ذاكرته، وفي عام 2004 غادر بغداد مع عائلته إلى النجف الأشرف بسبب اغتيال إحدى إبنتيه على يد المجموعات الإرهابية، ليستقر به المقام هناك وليلقي ربه من هذه المدينة المقدسة. 
النتاج الفلسفي
لقد أسهم المرحوم الدكتور جعفر آل ياسين بفاعلية مشهود لها بالدقة والمنهجية المحكمة والتعمق في الدرس الفلسفي، وقد تمثل ذلك بنتاجه الفلسفي المتنوع في المنطق والفلسفة العلمية الإسلامية والفلسفة اليونانية وكيفية دراسة التراث الفلسفي الإسلامي، والمعجمية الفلسفية، فضلاً عن تحقيقاته لنصوص الفلاسفة المسلمين من أمثال الفارابي وابن سينا. وهذه الإسهامات هي:
أولاً- المؤلفات الإبداعية
 لقد تنوع الإنجاز الفلسفي الإبداعي للدكتور آل ياسين، في مساحة فلسفية تاريخية بدءاً من اليونان وحتى الفلسفة الإسلامية المتأخرة، ولذا سنحدد هذا الإنجاز على وفق التتبع التاريخي لصدور هذه المؤلفات، وهي:  
(1). صدر الدين الشيرازي، مجدد الفلسفة الإسلامية، صدرت طبعته الأولى في بغداد عام 1955، عن دار المعارف، وأعيد طبعه بعنوان جديد هو: الفيلسوف الشيرازي ومكانته في تجديد الفكر الفلسفي في الإسلام، بيروت 1979. والكتاب كما ذكرنا في المقدمة هو بالأصل بحث للتخرج في قسم الفلسفة، جامعة بغداد. وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة الفارسية ونشرته جامعة أصفهان عام 1962.  
(2). ابن سينا والمبادئ العامة، بحث، مجلة كلية الآداب، جامعة بغداد 1963. وأظن أن هذا البحث هو جزء مهم من أطروحة الدكتوراه للدكتور جعفر آل ياسين بعنوان ابن سينا وفلسفته الطبيعية، أكسفورد، المملكة المتحدة 1962. 
(3). الإنسان وموقفه من الكون في العصر اليوناني  الأول، الكويت 1970. ويبدو أنه قد ألفه عندما كان أستاذاً زائراً في الكويت. 
(3). فلاسفة يونانيون، من طاليس إلى سقراط، صدر هذا الكتاب بطبعته الثانية عن دار عويدات في بيروت عام 1975، وهو من الكتب المنهجية المهمة في تاريخ الفلسفة اليونانية لطلبة قسم الفلسفة، وكان يدرس في هذا القسم لمدة ليست بالقصيرة. وإن كانت قد صدرت طبعته الأولى في بغداد (؟). 
(4). مؤلفات الفارابي، هذا الكتاب صدر بالتشارك مع المرحوم الدكتور حسين علي محفوظ (ت2008م)، عن وزارة الإعلام العراقية، بغداد 1975، وكان سبب صدوره هو للاحتفاء بالذكرى الألفية لوفاة الفيلسوف الفارابي، والذي عقد عنه مؤتمر دولي كبير في بغداد في تلك السنة. صدر فيما بعد في كتاب عنوانه الفارابي والحضارة الإنسانية، بغداد 1977، ومن نلحظ للمرحوم الدكتور جعفر آل ياسين أية مشاركة علمية في هذا المؤتمر.
(5). الفارابي في المراجع العربية، هذا الكتاب صدر أيضاً بمناسبة الاحتفاء بالذكرى الألفية للفارابي، بغداد 1975.
(6). المدخل إلى الفكر الفلسفي عند العرب، صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب، عن سلسلة الموسوعة الصغيرة، بغداد 1978، ثم طوره فيما بعد، وصدر بطبعة جديدة في بيروت 1980. كما وصدرت له طبعة رابعة فيما بعد، وهذا الكتاب من الكتب المنهجية المهمة في دراسة وتأويل الفكر الفلسفي عند العرب. 
(7). فيلسوفان رائدان، الكندي والفارابي، صدرت طبعته الأولى عن دار الأندلس، بيروت 1980، وأعيد نشره عن ذات الدار عام 1983. وهذا الكتاب على صغر حجمه وعظم مادته العلمية والفلسفية يشكل قراءة تأويلية جديدة ومنهج في فهم أهم فيلسوفين مؤسسين في الفلسفة الإسلامية. ولا أظن أن أحداً يستطيع تجاوز قراءة ما توصل اليه الدكتور جعفر آل ياسين في هذا الكتاب من نتائج فلسفية محكمة في فهم فلسفتي الكندي والفارابي.
(8). المنطق السينوي، دراسة للنظرية المنطقية عند ابن سينا، صدر هذا الكتاب عن دار الآفاق الجديدة، بيروت 1983. وفيه يكشف الدكتور آل ياسين لأول مرة عن منطق ابن سينا بشكل تفصيلي ودقيق، مع مقارنات مع منطق أرسطو والفارابي، وهذه أول دراسة عربية وعراقية بحسب علمي المتواضع تكتب عن منطق ابن سينا.
(9). فيلسوف عالم، دراسة تحليلية لحياة ابن سينا وفكره الفلسفي، صدر هذا الكتاب عن دار الأندلس، بيروت1984، وهو أوسع دراسة فلسفية عراقية وعربية عن ابن سينا، وذلك لما تحتويه من موضوعات ذات صلة بحياة وفكر وفلسفة ومنطق ومنهج وتصوف ابن سينا، ولا أظن أن دارساً لفلسفة هذا الفيلسوف يستطيع أن يتجاوز هذه الدراسة لما فيها من عمق التحليل والفهم العميق لفلسفة ابن سينا وتقريبها للغة عصرنا بشكل متميز.
(10). الفارابي في حدوده ورسومه، صدر هذا الكتاب بطبعته الأولى عن دار عالم الكتب، بيروت 1985، وهو كتاب معجمي لألفاظ وحدود الفارابي الفلسفية، التي نثرها الفارابي في معظم مؤلفاته التي وصلت إلينا أو من المخطوط منها، مع مقارنة بما ذكره أرسطو (ت322 ق،م)، في كتابه مقالة الدال، أو ما أشار إليه الفلاسفة المسلمين ممن كتبوا في رسائل الحدود والرسوم من أمثال الفيلسوف الكندي (ت252هـ) أو ابن سينا في كتابه الحدود، أو الغزالي (ت505هـ/1111م) في كتابه الحدود، وهو عمل علمي جبار ومتميز أحصى فيه الدكتور آل ياسين معظم الألفاظ الفلسفية الفارابية وصنفها على وفق الحروف المعجمية العربية، حتى لم يترك لمزيد ما يقوله عن المصطلحات الفلسفية الفارابية، وهو كتاب مرجعي في بابه لمن أراد أن يدرس ألفاظ ومصطلحات الفلسفة الإسلامية بعامة والفارابي بخاصة.
(11). فلاسفة مسلمون، الكندي، الفارابي، إخوان الصفا، وابن سينا، والغزالي، وصدر الدين الشيرازي، صدر هذا الكتاب بطبعته الأولى عن دار الشروق، القاهرة 1987. وهو من الكتب الإبداعية المتأخرة للمرحوم الدكتور آل ياسين. وقد أهداه إلى الفيلسوف المصري المعروف الدكتور زكي نجيب محمود.
(12). فلاسفة ثلاثة: الرازي، ابن سينا، الغزالي، هذا الكتاب وعدنا الدكتور آل ياسين بإنجازه كما تشير إلى ذلك قائمة مؤلفاته، إلا انه لم ير النور وحتى يوم وفاته، ولربما يكون مخطوطاً عند عائلته، أو انه قد استعاض عنه بكتاب فلاسفة مسلمون، المشار إليه في الفقرة السابقة، وهنا تجب الإشارة أن الدكتور آل ياسين لم يقدم دراسة عن فلسفة الفيلسوف أبي بكر الرازي في الكتاب السابق.  
ثانياً- النصوص المحققة
لم يقف إنتاج المرحوم الدكتور جعفر آل ياسين على التأليف الفلسفي الإبداعي فقط، بل توجه صوب تحقيق النصوص الفلسفية لكبار الفلاسفة المسلمين، وقد توج توجهه العلمي في بداية حياته الفلسفية مثلما أشرنا إلى ذلك في بداية حديثنا عن سيرته العلمية إلى تحقيق نص ابن سينا في السماع الطبيعي من الشفاء، لينتقل بعدها إلى تحقيق رسائل الفارابي الفلسفية، ليكون الدكتور آل ياسين في تحقيقه لنصوص رسائل الفارابي أحد أهم المحققين العراقيين والعرب الذين أسهموا بجد في الكشف عن فلسفة الفارابي ونشرها، فضلاً عن ابن بلده العلامة العراقي الكر بلائي المرحوم الدكتور محسن مهدي (ت2007م)، والذي هو الآخر (د. محسن مهدي) قد حقق نصوصاً كثيرة للفارابي الفيلسوف ومنها كتاب الحروف، وكتاب الملة، وكتاب الألفاظ المستعملة في المنطق، وكتاب فلسفة أرسطو، ولربما وبحسب وجهة نظرنا المتواضعة، فإن المرحوم الدكتور محسن مهدي يحتاج هو الآخر دراسة فلسفية عراقية تظهر إسهاماته في نشر النصوص الفلسفية الفارابية.
ويمكن تحديد ذلك الإنجاز العلمي التحقيقي للدكتور جعفر آل ياسين على وفق الآتي:
(1). الفارابي، كتاب التنبيه على سبيل السعادة، دراسة وتحقيق، صدر طبعته الأولى عن دار المناهل، بيروت 1987.
(2). الفارابي، رسالتان فلسفيتان، وهما: الأولى- مقالة أبي نصر الفارابي فيما يصح ولا يصح من أحكام النجوم، والثانية- جوابات لمسائل سئل عنها. صدرت هاتان الرسالتان بطبعتهما الأولى عن دار المناهل، بيروت 1987.
(3). الفارابي، كتاب تحصيل السعادة، دراسة وتحقيق، صدر طبعته الأولى عن دار المناهل، ط1،بيروت 1981. والثانية 1983.
(4). الفارابي، كتاب التعليقات، دراسة وتحقيق، صدر طبعته الأولى عن دار المناهل، بيروت 1987.
ملاحظة مهمة: هذه الكتب والرسائل للفيلسوف الفارابي، جمعها المرحوم الدكتور آل ياسين، ونشرها مجتمعة في كتاب واحد، أسماه: الفارابي: الأعمال الفلسفية، الجزء الأول، وصدر بطبعته الأولى عن دار المناهل، بيروت 1992. ولم يصدر الجزء الثاني من هذه الرسائل، وحتى يوم رحيله عن هذه الدنيا.
(5). ابن سينا، كتاب الشفاء، جملة الطبيعيات، السماع الطبيعي، صدر الطبعة الأولى لهذا الكتاب مع دراسة تفصيلية، عن دار المناهل، بيروت 1993. وطبعته الثانية عن ذات الدار في عام 1996. وكما أشرنا أن هذا الكتاب هو جزء من مشروع الدكتور آل ياسين للحصول على الدكتوراه من جامعة أكسفورد في المملكة المتحدة، في بداية ستينيات القرن المنصرم.
ومن الجدير بالذكر أن هذا الكتاب المهم في فلسفة ابن سينا الطبيعية، قد صدر قبل نشرت الدكتور آل ياسين بطبعة علمية محققة، ضمن مشروع تحقيق موسوعة الشفاء لابن سينا، في القاهرة، وقد قام بتحقيقه ونشره المرحوم سعيد زايد، وقدم له المرحوم الدكتور إبراهيم مدكور، وصدرت طبعته الأولى عن دار الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1983.     

المنهج
في أكثر من مؤلف من مؤلفات الدكتور آل ياسين، يتحدث عن المنهج العلمي الأمثل لقراءة التراث الفلسفي الإسلامي، إذ أنه يشكل هاجس حيوي لديه لفهم هذا التراث، فبدون منهج علمي تحليلي لا يمكن استشراف واكتشاف الأصالة في هذه الفلسفة، وما قدمته من عطاء رؤية فلسفية كونية وقيمية محكمة للتراث الفلسفي العالمي، بدءاً من اليونان ومروراً بالعصر الوسيط فالحديث فالمعاصر.
ومن أجل ذلك سنحاول في هذا المبحث إبراز أهم الآراء المنهجية التي صرح بها الدكتور آل ياسين في قراءة التراث الفلسفي الإسلامي، وهي:
(1). إن الدعوى لبناء التراث ودراسته علمياً ومنهجياً، ليس بالاندفاع نحوه بروح عصبية سلفية تحاول أن تضع الحواجز التاريخية لسد منظور الحاضر، بغية إظهار الماضي وكأنه (الدرة) المكنونة التي تحمل كل المقومات الطبيعية منذ وجدت البشرية على وجه الأرض.
(2). يحمل الدكتور آل ياسين على المتبنين لهذا المنهج، ويعتبر نظرتهم فاشلة في فهم التراث، بل ويعتبر أن النظرة إلى الماضي يجب أن تكون أداة ووسيلة لبناء الحاضر، لا سبيلاً غائياً وغيبياً فحسب، وهنا يوجه الدكتور آل ياسين نقده للمتنبين للماضي وكأنه الدرة المكنونة، بقوله: أنه جمود وتمسك وخنوع، وأما المتبنين للموقف الذي يربط بين الماضي والحاضر فيعتبرهم أصحاب صيرورة وتصير نحو فهم تقدمي يدرك المرحلتين، ويميز بين الاتجاهين، فلا ينسحب الأول منه على الثاني، بل ربطاً عضوياً يسقيه من حياته الحاضرة بما يدفع به إلى البناء واستمرار ديمومته .
(3). يعود السبب في تبني هذه المواقف المتناقضة من التراث الفلسفي الإسلامي، على وفق وجهة نظر الدكتور آل ياسين، إلى أن الموقف الحركي للتاريخ ليس واضحاً في موسوعاتنا الفكرية التي ورثناها، وبسبب فقدان هذه الصورة وقع الباحثون فريسة أحكام عشوائية ناقصة، لا ينفذ من خلالها إلى طريق يقود إلى الرأي السليم، في حين أن استكشاف هذا المفهوم الحركي باطنياً أمر يحقق أهمية بالغة الخطورة، غير يسيرة المنال، لأنها تعتمد فهم العمق النفسي للمؤرخ ذاته، وطبيعة الحال التي يصورها لنا مرتبطة بمكانها وزمانها المعينين .
(4). ويعزو الدكتور آل ياسين تبني هذه المواقف من التراث الفلسفي الإسلامي، إلى تباين المنهج الذي يعتمده الدارسون في ذلك، مما ولد تبايناً في الأحكام والاجتهادات والمواقف، ((فقسم منهم نظر إليها بمنظار صنعته له حضارة القرن العشرين، ليستكشف به حضارة القرون الخوالي!، وشتان بين آلة صناعية للكشف، وبين حكم عقلي نير، يريد الوصول إلى كوامن ذلك الخفي، غير هادف إلى معرفة السطح منه فحسب)) . وهنا ينبه الدكتور آل ياسين إلى أصحاب هذه المناهج وهذه القراءات لتراثنا الفلسفي، متهماً إياهم بعدم الإنصاف والعدل، بقوله: ((ليس من النصيفة في شيء إذن أن نزن هذا الفكر الموروث بموازين من الفكر الحديث أو المعاصر، فنضع كلاً منهما في كفة مكيال، لنحكم بسبيل من الجديد على القديم، ونعكس الحاضر على الماضي، ونصبغ التراث باللون الذي يساير أذواقنا اليوم، كما يفعل محترفوا المسرح على خشبته سواء بسواء!)). وهذا سبيل وعر وشائك في الحكم على التراث.
(5). أما الحل الأمثل لهذه الإشكاليات على وفق منظور الدكتور آل ياسين في قراءة التراث الفلسفي الإسلامي، فيتمثل ((بأن نزن القديم بقدمه، ونحكم عليه بظروفه، وننظر إليه بعين أهله، ومتى استقام الحكم أمام أنظارنا، وظهرت أوجه النقد الهادف بارزة واضحة، عند هذا حق لنا أن نختار لأنفسنا خير هذا التراث، ونصرف عنه شره، نترسم الصحيح منه ما يساير العصر، ونترك الصورة الباهتة التي لا نريد، ونستخلص الفكرة التي تخلق لنا عناصر الربط التقدمي بين الماضي والحاضر، ونجعل منها أداة صلة تتحرك دائماً نحو التجديد والإبداع)).
(6). إن وجهة النظر هذه للدكتور آل ياسين، لم تأتي من فراغ علمي ولا منهجي، بل جاءت نتيجة قراءة معمقة وواعية ومدروسة بجد وطرافة لتراثنا الفلسفي الإسلامي، مع وعي تام بما كان يجري من قراءات لهذا التراث ترفدنا به الكتب والمؤلفات الراهنة التي تكتب عنه، فنجده يقول بهذا الصدد: (( فعلى الرغم من أن مواقف بعض مفكرينا من السلف (الماضي) انطلقت من جوانب متباينة في نزوعها وأحكامها، فتارة هي مواقف لتاريخ الحاكمين وحاشيتهم، وتارة هي عرض لغزواتهم وحروبهم، وأخرى هي لذكر مغنيهم وأغانيهم!!، ومن خلال هذه المواقف يستطرد المؤرخ ليضع اللمسات الخفيفة على مفكر من هنا، وفيلسوف من هناك، ولا تجد إلا في الأقل النادر عرضاً حقيقياً واقعياً للوضع الاجتماعي الذي يمارسه الناس، باستثناء أعمال ابن خلدون وابن الأزرق ومن تبعهما من الخلق،…، ومن هنا نجد أن هذا المنظار الصناعي لا يصلح للنفوذ إلى كوامن هذا الخليط، بل يحتاج الأمر إلى يقظة فكرية، ومنهج علمي دقيق، يتيسر عن طريقهما الحكم بشكل إيجابي وسليم)).
(7). إن في العودة للتراث الفلسفي الإسلامي، بحسب بعض القائلين ممن أدركوا ذلك إدراكاً مقلوباً، فحسبوا إن كل دراسة له أو عليه يجب وأدها وإبعادها عن طريق، لأنها في نظرهم لا تساير صراعات العصر القائم ومتطلباته ، إنما يقعون في فخاخ الحكم المتسرع والمبتسر، لأنه حتماً يقعون في الحكم القائم على الطريقة الجدلية الساذجة، مع نفي للصورة الصادقة، والانتهاء به إلى نبذه وراء ظهرانينا. ولهذا يقول الدكتور آل ياسين: أن هؤلاء القائلين بهذا الرأي والذين ينعتهم (المتزمتون في عصريتهم) إنما تناسوا أن عناصر الفكر التقدمي الحديث هي بحد ذاتها ثمرة لجذور ذلك التراث، ولولا هذا التراث لأضعنا أنفسنا في غربة موحشة لا نهاية لليلها الطويل.
(8). إن البديل لهذه القراءات لتراثنا الفلسفي من قبل الثورات الفكرية المعاصرة في بلداننا إنما تقوم على وفق رؤية الدكتور آل ياسين، بتبني التراث أساساً رئيسياً في مناهجها وخططها، وتعلن ذلك في جميع قراراتها ومواثيقها، فالسلبيات التي ينادي بها البعض لا تمثل سوى آراء فردية خاصة، يعود صداها على أصحابها، ولا تعطي الصورة المشرقة لما ندعوه له من الالتزام بالتراث. 
(8). كما ويعتقد الدكتور آل ياسين، إن من بعض أسباب هذه المواقف السلبية المنهجية من قراءة التراث الفلسفي الإسلامي، بل ((والتزييف الفكري له، إنما أسهم في تكريسه وتثبيته بعض ضعاف النفوس من المستشرقين الذين تنادوا إلى تقديم رؤية تقليدية ساذجة، تدعي أن الفكر الفلسفي في الإسلام صورة ظلية محنطة لمعالم الفكر اليوناني ومدارسه المختلفة، وأن الفلسفة العربية لا تمتلك جدة ولا ابتكاراً،…، وكان الهدف من مواقفهم تلك هو إضعاف جوانب المؤشرات الحضارية في تراثنا الواسع، وإعطاء صورة مهزوزة باهتة لنتاج مفكرينا وعلمائنا، لسد ثغرة النقص التي يعانيها هؤلاء في أحكامهم المزيفة، ولدفع دعوة أن الحضارة العربية كانت همزة الوصل البناءة بين حضارة الغرب القديمة ومدنيته المعاصرة…)) .
(9). يطرح الدكتور آل ياسين، رؤية منهجية محكمة في تقديم تصور عن كيفية قراءة تراثنا الفلسفي بخاصة والفكري بعامة، يقوم على: ((التحرز الشديد، والترفع عن الذاتية الضيقة، والأخذ بالموضوعية، والتمسك باليقظة التامة، في دراسة نص من النصوص وتفحصه أو مقارنته..فموسوعاتنا التاريخية على كثرة ما تورده من أسماء معنعنة، وأحاديث مسلسلة، تبرز لديها هذه الصفة جلية، لا تشوبها شائبة الشك والريبة)).
الخاتمة-
وإذ نختم بحثنا هذا لابد من القول: أن الدكتور جعفر مرتضى آل ياسين يحتاج منا نحن الدارسين للفلسفة في العراق المعاصر، المزيد من الاهتمام بما طرحه من آراء ومواقف فلسفية عديدة في كتبه، والكشف عن منهجه ومرجعياته الفكرية والفلسفية التي دفعته للاهتمام بالفلاسفة المسلمين والكشف عن أصالتهم وعبقرياتهم الفلسفية، كل ذلك بروح علمية وموضوعية تبغي الكشف عن الحقيقة ليس إلا، وغير مسبوقة بأحكام عن هذا الدارس المتفلسف أو غيره. لأن في هذا البحث عن هؤلاء المتفلسفة في العراق المعاصر إنما يقوم على رد الجميل لأهله، من هؤلاء الأساتذة الكبار الذين علمونا وعلموا الأجيال الطالية للفلسفة روح التفلسف الحقيقي والبحث في أصالة الفلسفة الإسلامية بخاصة.
لان الأصالة عند الدكتور آل ياسين تعني: تحقق نحو من التجديد في عملية التأثر الفكري ذاتها، على أن يكون هذا التجديد عملاً خالصاً لأصحابه، هم الذين صنعوا ونسجوا لحمته وسداه، وهاهنا كانت الأصالة، تتفق في مدلولها نوعاً، وتختلف كيفاً، من حيث أنها في صورها الأخيرة تجديد جاء على غير مثال! .
أما البحث في المنهج الذي اعتمده الدكتور آل ياسين في تحقيقاته للنصوص الفلسفية الإسلامية الخاصة بالفارابي وابن سينا، فإنها تحتاج إلى بحث آخر، سنعمل عليه في قابل الأيام، ولنكشف فيه عن أهمية تحقيق النصوص الفلسفية على وفق المنهج العلمي الأكاديمي الذي اتبعه المرحوم الدكتور آل ياسين، وهو منهج محكم يغوص في باطن المخطوط التراثي الفلسفي ليقدم جملة ونص فلسفي صحيح وأقرب إلى روح ذلك الفيلسوف ولغة عصره.