في كتابها “خطاب الذات في السيرة الذاتية النسائية”، تقارب الناقدة نعيمة عاشور، وهي باحثة أكاديمية تهتم بتحليل الخطاب الأدبي، بشكل خاص السرد الذاتي في الأدب النسائي العربي، من خلال أشكال التعبير عن الذات عند الكاتبات العربيات.
وتكمن أهمية الكتاب في تسليط الضوء على صوت المرأة في الأدب العربي، عبر دراسة السيرة الذاتية كنوع أدبي يعكس التجربة الفردية والجماعية للكاتبات ، وأن كتابة السيرة الذاتية النسائية ليست مجرد توثيق للحياة الشخصية، بل هي أيضًا شكل من أشكال المقاومة والتفاوض مع المجتمع، ومحاولة لإعادة صياغة صورة الذات والعالم.
تشرح الكاتبة مفهوم “خطاب الذات”، وكيفية تشكله من اللغة والعلامات والسياقات الاجتماعية والثقافية ، مستندة في تحليلها إلى نظريات حديثة في تحليل الخطاب، مع التركيز على أهمية الجدل العلائقي، أي العلاقات المتبادلة بين الذات والآخرين والسياق.
يبدأ الكتاب بتعريف الخطاب ومكوناته الأساسية، انطلاقا مما صاغه نورمان فيركلوف، الذي يرى أن الخطاب يتجاوز حدود اللغة ليشمل أشكالًا متعددة من التواصل، مثل الصور، والإشارات الجسدية، والرموز ومن المفاهيم المرتبطة بمفهوم الجدل العلائقي ، مع التوقف عند أصل هذا المفهوم من منظورات متفاعلة، حيث يهتم تحليل الخطاب بكيفية بناء العلاقات الاجتماعية عبر اللغة والخطاب،وأن الخطاب ليس فقط وسيلة لنقل المعلومات، بل هو أداة لصنع وتشكيل العلاقات والقيم الاجتماعية؛ ويعود أصل المفهوم في النظرية الجدلية إلى فلسفة (هيغل وماركس)، بالتركيز على الصراع والتفاعل بين الأفكار أو القوى المتعارضة، وكيف ينتج عن هذا الصراع تطورا وتغيرا مستمرين في العلاقات أو الأفكار ، وفي العلوم الاجتماعية، يُستخدم المفهوم لشرح كيف تتطور العلاقات الإنسانية عبر التفاعل والتأثير المتبادل.
وفي الجدلية العلائقية في علم الاتصال والتي وضع أسسها العالمان “باكستر وبراكت”، ترى أن العلاقات الإنسانية (كالصداقة أو الزواج أو الزمالة) ليست ثابتة، بل هي سلسلة من التناقضات والتوازنات بين احتياجات ورغبات متعارضة (مثلاً: القرب مقابل الاستقلالية، الصراحة مقابل الخصوصية) ، وتؤكد أن عملية التواصل هي التي تدير هذه الجدليات باستمرار.
أما بخصوص التفاعل الرمزي، فإنه ينظر إلى أن المعاني تنشأ من خلال التفاعل الاجتماعي بين الأفراد، وأن العلاقات بين الناس تُبنى وتُعاد صياغتها باستمرار من خلال الحوار والتواصل اليومي.
كما تركز نعيمة عاشور على الطرق التي تعبر بها الكاتبات عن تجاربهن الذاتية، وكيف يوظفن اللغة والأشكال السردية لبناء صورة الذات، وتهتم بكشف الجوانب النصية مثل العلاقات اللفظية والنحوية، وكيف تساهم في تشكيل الهوية السردية.
تناقش أيضا كيف أن خطاب الذات في السيرة الذاتية النسائية ليس مجرد تعبير فردي، بل هو أيضًا تفاعل مع المجتمع والثقافة والتوقعات الجماعية، مبرزة كيفية تعامل الكاتبات مع التقاليد والقوالب الاجتماعية، بالتحدي وإعادة تشكيلها.
وفي انتقالها من مستوى النص إلى مستوى السياق الاجتماعي الأوسع، تبحث الكاتبة عن كيف تعكس السيرة الذاتية النسائية قضايا المرأة، والصراع مع السلطة الأبوية، والتقاليد، وتغيّر الأدوار الاجتماعية، مثلما تفحص طرق استخدام الكاتبات للغة من أجل بناء هوية ذاتية، مثل اختيار الضمائر، أو توظيف الأساليب السردية، مع إيلاء الاهتمام للبنية الداخلية للنص:مثلا، كيف تبدأ الكاتبة سردها، وكيف تنتقل بين الأحداث، وما هي الاستراتيجيات النصية التي تعتمدها لترسيخ صوتها الخاص.
تجمع الناقدة بين الأدوات اللغوية والتحليل الاجتماعي والثقافي، فلا تقتصر على دراسة اللغة فقط، بل تهتم أيضًا بالسياق الذي أُنتج فيه النص ، معتمدة على تحليل الخطاب النقدي مستفيدة من أدوات فيركلوف والنظريات الحديثة التي ترى أن الخطاب وسيلة لصنع المعنى وبناء الهوية والتأثير في المجتمع.
وتشير، أيضا، إلى أن السيرة الذاتية، خصوصًا النسائية، تمثل مساحة للتعبير عن الذات، وفي الوقت نفسه هي ساحة للتفاوض مع القيم المجتمعية ،ومع النصوص الأدبية الأخرى، وكيفية مواجهة الكاتبات للعائق الثقافي، وكيف يعبرن عن الرفض أو التمرد أحيانًا من خلال النص، وهذا يعني أن النص ليس مغلقًا أو معزولًا، بل هو في حالة حوار دائم مع القيم والعادات، ومع تجارب الآخرين، وحتى مع نصوص أدبية أخرى.
تستثمر الكاتبة لغة الخطاب لتغيير أو مساءلة القيم السائدة، وذلك بالجمع بين التحليل النظري والتطبيق العملي على نماذج مختارة من السيرة الذاتية النسائية ، مما يعمق فهمنا لكيفية استخدام النساء للسيرة الذاتية بوصفها وسيلة للبوح والتعبير عن الذات، وأهمية الخطاب كعملية ديناميكية تتأثر بالثقافة والسياق وتعيد تشكيلهما.