ما الذي أتى بك، بعد أن حققت نجاحا لا بأس به، لا أدلّ عليه منحك ثقة كاملة للتدريس و الاشراف في واحدة من أعرق الجامعات العالمية؟ سؤال ما انفكّ يطرحه بغضب كل من لاقيتهم بعد عودتي من الخارج، سواء في ذلك زملاء العمل و المسؤولين في الجامعة او عامة الناس، حتى أنني لم أجد من يتقبل مجرد فكرة العودة…..لماذا و ما المشكلة؟ مدخل الموضوع هو اعلان وزارة التعليم العالي و البحث العلمي عن اعداد كبيرة من الطلبة من المؤمل بعثهم للخارج بغرض الدراسة، و أني اكاد ألمس ان جلّهم سيتعرضون لمثل تلك النصائح قبل و أثناء و عند نهاية فترات دراستهم في دول تحكمها أطر تحترم العلم و العلماء و تقدّم لهم كل التسهيلات لتطبيق ما تعلموه و انضاج تجاربهم و ابداعاتهم…
بدءاً لنتفكر في مبدأ السفر للخارج بغرض اكتساب العلم و الخبرة سواء كان ذلك بعثة حكومية او على النفقة الخاصة، و هو اسلوب دأبت عليه الامم التي رنت للحاق بركب الحضارات العالمية المجاورة منها و البعيدة، و يحدّث التأريخ انه ابتدأ بافراد تجشموا عناء السفر مسافات طويلة لطلب العلم ثم تبنّته الحكومات و ما كانت دار الحكمة في بغداد أيام المأمون العبّاسي غير دوحة للدارسين الروم و سواهم للنهل من علومها أيام كانت مركزا للعلم حتى دوال الايام التي تركتها مرتعا للجهل و الجاهلية بعدذاك “و تلك الايام نداولها بين الناس”…لم كل ذاك العناء؟ قد يكون الجواب الاسرع و الاسهل هو اكتساب المعارف عن طريق المؤلفات المكتوبة او الاستماع لمحاضرات العلماء من افواههم…و اذن لو كان هذا الجواب صحيحا كلّه، لصارت الاستعاضة عن تلك السفرات بالكتب و الاقراص المدمجة و الاتصال المباشر عن طريق الاقمار الصناعية ايامنا هذي او الشبكة العنكبوتية (الانترنيت) اسهل و اكثر سرعة، فما بالنا نرى القوافل تترى من الدارسين نحو الجامعات الاميركية و الاوربية خاصة ميعوثين او بشكل شخصي، و ما بالنا نشهد دولا غير ذوات اقتصاد قوي كفيتنام و الهند و تايلاند تقتطع مبالغ غير هينة من ميزانياتها لتلك الاغراض؟ اذن فذلك الجواب ناقص لا جدال في ذلك، و يجب تكملته بوجوب المعايشة الحقلية و الرؤية العيانية لمخرجات الدراسة في بيئاتها اضافة لتلاقح الحضارات و الانفتاح على الثقافات الاخرى و بناء علاقات شخصية و مؤسساتية متينة بغرض نقل الصالح من التجارب العالمية الى البلد الام كما ينبغي و ادامتها بواسطة شخوص عايشت مختلف مراحل تطبيقاتها و مشاكلها بغرض قولبتها حسب مقتضيات البيئة الجديدة….فكيف هو حال تلك الممارسة في العراق الحديث؟
لو عدنا بالزمن للوراء قليلا لوجدنا ان ممارسة ايفاد البعثات العلمية و الادبية و الفنية للخارج حسب التخصصات، قد كانت الريادة فيها للحكومات الملكية المتعاقبة منذ عشرينيات القرن الماضي، حين اعتلت سدّة الحكم شخوص (لن اسميها كي لا ادخل في خندق الشخصنة) آمنت بضرورة وضع الامور الفنية بايادٍ متخصصة كما ينبغي و يشهد كل المنصفين على ريادة الدولة العراقية حينذاك في تشريع القوانين و التعليمات الحكومية و المخططات العلمية المهنية و المناهج التعليمية أيام كانت شعوب المنطقة تحوم حول الماء و الكلأ…غير ان كل ذاك الحال تغير فجأة و بانحدار شديد ما ان نزت على السلطة قوى ما تسمى بالقومية التي ازدرت العلم و العلماء، حيث انه رغم استمرار حملات الايفادات و بأعداد فاقت ما قبلها (قابل ذلك تحديد المبعوثين بطيف واحد عموما من الاطياف العراقية العديدة)، فقد جرت السلطات الحاكمة على نهج ابعاد المتخصصين من ذوي الكفاءة عن مراكز اتخاذ القرار و انتقاء “المتعاونين” ممن باعوا ذممهم او لم تكن لهم ذمم اصلا، منهم للدخول ضمن تلك الحلقات الضيقة….بل وصل الامر بحكومة البعث أن صارت تنتقي المبعوثين قبل بعثهم من المتعاونين او من “المرضي” عنهم او “الموثوق” بهم لملء قوائم تلك البعثات، ولا بأس باضافة بعض الشخوص من غير اولئك بغرض التنويع و التمويه….فحلّ الخراب في كل مؤسسات الدولة و الاكاديمية منها بالذات و ليس ذاك مستغرب حين يكون الغراب دليل قوم!!! لكن لندع خراب البعث و القومجية فتلك مرحلة ولّت، ولنتفكر في حالنا ايامنا الحاضرة و لنرى هل نحن افضل من اولئك الجهلة أم اننا على الراكب سائرون و كلنا في الهمّ عراق؟ أتمنى أن يكون الجواب غير ذلك…..
لو كان الغرض من البعثات و السفر للدراسة و التعايش مع الاوساط الاكاديمية العالمية بغرض التعلّم و اكتساب الخبرة و نقل التجارب، فان هذا يعني بالضرورة وجود اعتراف بنقص في امتلاكنا لمضان العلم و الخبرات المطلوبة حياتيا و التجارب الموثوقة، و بالتالي فنحن نطمح لسد ذلكم النقص بتلك الطريقة التي أثبتت الايام نجاعتها، و لا غضاضة و لا عيب في ذلك، و رحم الله “أمة” عرفت قدر نفسها…لكن من باب آخر يرى شخوص و قيادات غير ذلك، حيث ان العراق (حسب آراءهم) لا يعاني من أي نقص في موارد و مؤهلات التعليم العالي و انه ليس بحاجة لاي من ذلك، حتى وصل بهم الامر (و هم القادرون المقتدرون هذه الايام) الى انزال اقصى العقوبات بحق “مجرم و مجرمة” تجرءآ على الاشارة الى مثل تلك الهنّات في بنية التعليم العالي في مؤتمر علمي بحت، و اذن فحسب الرأي الثاني فلا حاجة بنا لارسال اي بعثات ستؤدي حتما الى خسارة ملايين الدولارات لصالح جهات اجنبية بل على العكس فالبلد و الحالة هذه لا بد أن يكون كعبة للبعثات من بلدان العالم الاخرى التي لم أشهد احداها و قد ظن احد فيها انهم قد وصلوا لما يعتقده اولئك “الافذاذ الفلتات” من العقول التي شاء لها الزمن السيطرة على بعض مقاليد الامور هنا او هناك….تلك هي ذات العقول (بل و الشخوص) التي تمرغت في وحل النظام السابق ( و ان جاءتنا اليوم بصور و اشكال و شعارات مختلفة)، و زينت له تملقا و زلفى، أن يمكن الاستعاضة عن بعث الدارسين للخارج بغرض نيل العلم، باستضافة الخبراء للداخل كي يمكن تجاوز الحالات الكثيرة لهروب المبعوثين و انعتاقهم من ربقة حكم الجلادين كما ان استضافة شخص واحد ستكون ارخص من بعث اعداد كبيرة، فأي عقول خبيثة و أي ديجور قادتنا اليه، و يمكن لها أن تقودنا اليه؟….نحن هنا عند مفترق طرق، اما أن نكون مع الرأي الاول او مع الثاني…
لو اخترتم سيادة الوزير و انتم أصحاب الامر هنا، السير مع الرأي الاول فلا محيص عن وجوب اصدار التعليمات للدوائر المعنية بغرض تنسيق الاتصالات و ادامتها مع المبعوثين ثم الاستعداد لاستيعابهم و توفير مجالات الحرية و الحركة لتطبيق المفاهيم و العلوم التي اكتسبوها من حيث جاءوا بل و تسليمهم مقاليد الامور تدريجيا لاحداث النقلة الحضارية المطلوبة و الا فان عودتهم سوف لن تكون مجدية عند اصطدامهم بالآليات و التقييدات المليونية الحالية التي ستكون العامل الاكبر لوأد بنات افكارهم قبل ولادتها….لا يمكن و أنتم خير العارفين زراعة نبتة عفيّة بارض سبخة لم تطلها مجاريف التحديث….لا يمكن…..أما لو سرتم سيادة الوزير و أنتم (أكررها) اصحاب الامر هنا، مع ألرأي الآخر، رأي المنافقين الذين لا يزيدون صاحبهم الا خبالا (حاشا العراقيين الاصلاء جميعا)، فلا ارى تلك البعثات الا تبذيرا و ترفا لا فائدة ترجى منه، فحتى لو عاد من عاد من المبعوثين سوف لن يجد الا الصدّ و الجفاء و التهميش، و اذن ستكون ملايين الاوراق الخضر العزيزة قد ضاعت لاجل خلق الاف جديدة من الموقنين بأن لا فائدة ترجى من العراق الجديد بعد أن ضاع الامل قبلا في العراق القديم….فاختاروا لانفسكم وأمتكم و ما لكم الا ناصح أمين.