10 أبريل، 2024 2:53 ص
Search
Close this search box.

السيد جمال الدين في العراق!

Facebook
Twitter
LinkedIn

تكاد معظم المصادر العربية تغفل فكرة إقامة جمال الدين الأفغاني في العراق، وتغض النظر عن أي نشاط له فيه. ولو لم يصدر الميرزا محمد حسن الشيرازي الفتوى المعرفة في سامراء، التي حرم فيها التنباك على الإيرانيين، وما أعقبها من إلغاء امتياز الشركة الانكليزية واغتيال الشاه ناصر الدين، لما أقر أحد بوجود الأفغاني في العراق في حقبة ما. ولما سلم بأن هناك من أعانه على التنقل، وقدم له المأوى، وكف الأيادي الآثمة عنه.
لقد بدأ الأفغاني دراسته الحقيقية في النجف عام 1851 وهو في الثالثة عشرة من عمره، حينما حل فيها مع أبيه (صفتر). كان الأب يتمنى أن يرى ابنه فقيهاً كبيراً، فأودعه في هذه المدينة، ومكث معه ثلاثة أشهر، ثم غادر عائداً إلى إيران تاركاً إياه يواجه الحياة والدراسة لوحده. ولم تكن هذه المرحلة قصيرة أو عابرة، فقد استغرقت أربع سنوات كاملة. وفي العادة لم تكن هناك مدة محددة لطلبة العلوم الدينية في النجف. لكن من المحتمل أن جمال الدين سئم الدراسة الحوزوية، فغادر النجف إلى الهند عام 1855. ولا بد أنه خلال السنوات الأربع كان يزور أسرته في أسد آباد الإيرانية، في العطلات التي تتخلل فصول الدراسة. وقد عبر ذات مرة عن أساه لإنفاق سنوات من عمره مع أساتذة سطحيين، مأخوذين بظواهر الألفاظ. ولا بد أنه شعر أن الدراسة التقليدية لا تلائم مزاجه الحاد. فلما حط رحاله في الهند، وجد هناك الفرصة سانحة لدراسة الفلسفة والرياضيات والعلوم العصرية. ولعله أولع هناك بأفكار الصوفيين الهنود، وغرامهم بالتأويل، وقدم العالم، وهو ما ظهر واضحاً في محاضراته في مصر التي اشتكى منها علماء الأزهر في حينه.
وإذا كانت هذه السنوات الأربع لم تنفع الأفغاني في شئ، كما قال هو أو كما اكتشفه متأخراً، فالحق أن السنوات الأولى في حياة كل طالب علم هي سنوات التكوين. وهي التي تغرس في نفسه الميل إلى فرع من فروع المعرفة، وتفتح ذهنه على جانب ما من جوانب العلوم. ولم يكن الشاب جمال الدين قادراً على دراسة الفلسفة والرياضيات لو لم يمض سنوات في دراسة المقدمات مثل اللغة والنحو والمنطق وعلوم القرآن. لقد شكلت (النجف) شخصية جمال الدين وزودته بالذخيرة الأساسية التي يحتاجها أي مصلح ديني واجتماعي. أما ما جاء بعدها فأمر طبيعي لمن تلقى دراسة أولية مثله.
إن الذين يذكرون هذه المرحلة من حياة الأفغاني يمرون عليها مر الكرام. ولكنهم لا يضربون عنها صفحاً مثل سواهم، الذين يصرون على أن الأفغاني درس وتعلم في بلاد الأفغان، مع أن قدميه لم تطآها في يوم من الأيام. ولا يكتفون بذلك بل يذكرون أنه تولى منصباً في عهد الأمير دوست محمد خان، وأنه ناصره ضد أخيه شير علي. فلما تنازعا السلطة، ربح الأخير النزاع وهرب جمال الدين من كابل إلى بلاد الله الواسعة!
لقد زار الأفغاني العراق مراراً بعدما خرج منه عام 1855. وكانت أهم هذه الزيارات التي جرت بعد نفيه من بلاد فارس، بعدما (اعتصم) في ضريح شاه عبد العظيم الحسني، وأصبح قبلة لآلاف الزائرين من العلماء والوجهاء والسياسيين! كان ذلك عام 1891 قبل سنوات من اندلاع المطالبات بالمشروطة (أي الدستور)!
وصل الأفغاني إلى بغداد وأقام فيها ثلاثة أشهر قبل أن يغادرها إلى البصرة ثم الهند. والروايات عن هذه الإقامة القصيرة مختلفة ومتباينة. والحقيقة كما يرويها المقربون منه هي أن السيد جمال الدين استقبل من جانب الوالي سري باشا، والنقيب سلمان الكيلاني. وقد وردت أوامر من الأستانة بمراقبة تحركاته ومنعه من الذهاب للعتبات المقدسة. لكن الوالي تساهل في الأمر، وطلب منه التحرك بسرية تامة. فزار الكاظمية ومكث فيهما أياماً، في دار الملا أحمد اليزدي. ولقي هناك جماعة من الوجهاء مثل الحاج علي أوف التبريزي والحاج علي أكبر الأهرابي والحاج علي مطلب، وكان يجتمع بهم في سرداب تحت الأرض. ومن المؤكد أنه لقي هناك الشاعر عبد المحسن الكاظمي الذي كان يسكن في دار مجاورة. وذهب إلى النجف واجتمع بالسيد محمد سعيد الحبوبي الذي كان يعرفه من قبل، في الصحن الحيدري. ثم غادر إلى البصرة على أمل السفر منها إلى لندن. فاحتفى به هدايت باشا والي البصرة، وهناك لقي المجتهد سيد علي أكبر الشيرازي وكان من زعماء ثورة التنباك، فتعاونا على كتابة رسالة مطولة إلى المرجع الميرزا محمد حسن الشيرازي، يشرحان فيها المظالم التي لحقت بالإيرانيين من سياسة الشاه. وقد حمل الرسالة السيد علي أكبر وسلمها بنفسه إلى المرجع الشيرازي في سامراء. وقد شاع أمر الرسالة التي أورد نصها السيد رشيد رضا في كتابه “تاريخ الشيخ محمد عبده” في أماكن كثيرة في العراق وإيران. ومن البصرة غادر إلى لندن أواخر عام 1891، بعد أن تبرع له وجهاء البصرة بنفقات السفر.
غير أن المعضلة التي واجهها المؤرخون في موضوع تأثير الأفغاني في العراق، أن تلامذته كانوا يؤثرون التقية فلم يعرفهم أحد. ولم يكن فيهم زعماء كبار مثل محمد عبده أو سعد زغلول أو البارودي أو سواهم. ولم يتحدثوا يوماً عن لقاءاتهم بالأفغاني. فهم إما ضيوف عابرون، أو أصدقاء مجاملون. ولعل انتماء معظم خواصه للمؤسسة الدينية – وهي مؤسسة محافظة وتقليدية – كان السبب في عزوفهم عن الدفاع عنه أو مؤازرته. ولكن ما حدث بعد سنوات قليلة من وفاته دليل محتمل على عمق تأثيره فيها. ففي عام 1905 اندلعت ثورة المشروطة في إيران بقيادة آية الله كاظم الخراساني المقيم في النجف، وكان له أنصار عديدون من كبار العلماء من أبرزهم الميرزا حسين النائيني. وقد خاض هؤلاء حرباً عنيفة ضد تيار السيد محمد كاظم اليزدي المعارض للدستور، واندلعت أعمال شغب اضطرت الطرفين للاحتماء بحرس خاص. وأخيراً انتهت الثورة بإعلان الدستور وانتخاب المجلس النيابي وتقييد سلطات الشاه. ثم أعقبتها بعد ذلك بقليل ثورة أخرى في تركيا عام 1908 أعادت دستور مدحت باشا للعمل، ثم عزلت السلطان عبد الحميد في العام الذي يليه.
وهكذا فإن وجود الأفغاني في العراق كان حقيقة تدعمها الأدلة. أما تأثيره الروحي فكان يصل بصعوبة عبر سلسلة مقالاته وخطبه في باريس ومصر. ولحسن الحظ فإن مجلة “العروة الوثقى” التي أصدرها في باريس كانت تصل بالبريد إلى العراق. وكان بعض الوجهاء مثل نقيب بغداد مشتركاً فيها. ولولا أن لطف الله خان ابن اخت السيد جمال الدين كتب عنه، ولولا أن بعض المستشرقين الأجانب والباحثين العرب تتبعوا رحلاته والتقوا بأقاربه لكانت المعلومات عن أصل هذا الرجل وفكره السياسي مرتبكة جداً. غير أن كل هذا الغموض لم يخف حقيقة مهمة هي أن الرجل كان المطرقة التي أيقظت المنطقة من سباتها الطويل، ونبهت أبناءها إلى ما هم فيه من ضعف. ودفعتهم نحو استكشاف وجهة جديدة لم تكن تخطر لهم على بال. وكان الأفغاني في العراق متأثراً ومؤثراً، باختلاف المراحل الزمنية التي وصل فيها إليه، والتطور الذي أصابه خلال تلك السنين.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب