قضايا الفساد في العراق دائما عبارة عن تصفية حسابات، وعبارة عن لعبة تتغير حسب الوقت وحسب الولاءات، لأنه لا وجود لعدالة مضبوطة وقوانين جارية ومفعلة في هذا المجال، وتشبه ملفات الفساد في العراق وبعض المحاكمات التي تتم بخصوصه إلى حد كبير سيناريوهات برنامج الكاميرة الخفية، ذات الحبكة والإخراج المعروف مسبقا.
ان كل ما قامت به الدولة العراقية في مجال محاربة الفساد، لا تتجاوز الخطابات، رصيدها حتى الآن في محاربة الفساد لا شيء، كما لا توجد دلائل على عزم الحكومة على محاربة الفساد، ورئيس الحكومة الحالية لديه رزنامة كاملة بأسماء الفاسدين والسراق والمختلسين من اكبرهم الى اصغرهم كونه رئيس اللجنة المالية البرلمانية في الدورات السابقة ووزير سابق ويعرف هياكل الفساد ومن هم في داخل هذه الهياكل من عمالقة وحيتان ورموز ومديات عصابات الفساد بدقة، والحكومة السابقة استباحت ميزانية 2014 بدون قانون واستباحت المخزون النقدي الاستراتيجي لدى البنك المركزي العراقي، الى ان اصبح العراق يعاني من ازمة مالية ستصل لمديات أسوء في السنتين القادمتين، ومع كل هذه الاستباحة وسقف الأرقام العالي للسرقات والاختلاسات وبالدولار والشعب والبرلمان ساكت خانع لا يعرف ما يجري وراء الستار وتحت الطاولة.
ولاحظنا السيد رئيس الحكومة في تصريحه مؤخرا كان واضحا في تشخيص مرتكزات الفساد وعمالقته، وتوعد بمقاتلتهم وهزيمتهم وصرح بعده السيد رئيس مجلس النواب في أسبوع النزاهة الوطني، والذي تكلم عن استراتيجية لمحاربة الفساد، واني استغرب، هل لا زلنا نخطط لأنشاء استراتيجيات لمحاربة الفساد والعراق سرقت من أمواله أكثر من ثمانمائة مليار دولار في عهد الحكومة السابقة وقائدها الضرورة؟
ولا زالت السرقات مستمرة على قدم وساق، ولا زلنا نبحث عن استراتيجيات وتشكيل مجالس لمكافحة الفساد، ولدينا قوانين فعالة ومنتجة ومؤثرة؛ لا تحتاج الا لقضاء فعال ونزيه ومحمي، وبدون اغراق الدولة بهياكل إدارية لم تكن فعالة في محاربة الفساد كهيئة النزاهة والمفتشين العمومين واللتان ارهقتا الدولة بمصاريف ورواتب ونثريات كبيرة، وقيمة الأموال التي استردتها هذه الهيئات والهياكل الإدارية لا ينسجم ومصروفاتهم، مما تستدعي الضرورة ان تتجه نحو الغاء هذه المؤسسات والحلقات لا تشكيل مجلس لمكافحة الفساد، ونقول للسيد العبادي بان يضع في قوس خطته في محاربة الفساد، جملة أمور وقوانين مهمة تساعده في حملته المزعومة، وان صدقت النوايا وتم فعلا استفراغ الوسع وبذل الجهد لأجل إيقاف عجلة الفساد المخيفة، لأننا الان في طور إيقاف عجلة الفساد وبعدها اجتثاثه؛ لان دوران عجلة الفساد مخيف ومدمر، وتلك القوانين إضافة لما ورد في قانون العقوبات العراقي المرقم 111 لسنة 1969 النافذ، هي :
القانون الاول: قانون معاقبة المتآمرين على سلامة الوطن ومفسدي نظام الحكم رقم 7 لسنة 1958 النافذ.
فهل تعلم يا سيادة رئيس الوزراء ان اهدار الثروة الوطنية والقومية من جرائم الخيانة العظمى؟
بعد سقوط النظام الملكي في العراق وانبثاق الجمهورية، سارع النظام الجديد الى القاء القبض على رموز النظام ومحاكمتهم وفق (قانون معاقبة المتآمرين على سلامة الوطن ومفسدي نظام الحكم رقم 7 لسنة 1958) الصادر عن مجلس السيادة والمتكون من 23 مادة والذي لا زال نافذا.
ان المادة 2 من قانون معاقبة المتآمرين على سلامة الوطن ومفسدي نظام الحكم رقم 7 لسنه 1958 واستناداً الى احكام الفقرات (ج) و(د) و(ز)و(ح) و(ط) حيث نصت على:
((يعتبر مفسدا لنظام الحكم كل من كان موظفا عاما وزيرا او غيره وكل من كان عضوا في مجلس الامن او مجلس أمانة العاصمة او المجالس البلدية او الادارية على اختلاف انواعها وعلى العموم كل شخص كان مكلفا بخدمة عامة ارتكب او شارك في ارتكاب امر من الامور الاتية:
جـ- التدخل او التأثير في اعمال السلطة القضائية او التنفيذية لحملها على اصدار الاحكام او القرارات او الاوامر او لحملها على اتخاذ الاجراءات التي تتنافى او تتناقض مع احكام القانون الاساسي او التشريعات المرعية.
د -التدخل في حرية الانتخابات العامة او تزييفها او تزويرها لمصلحة فرد او فئة.
ز- تبديد الثروة القومية بصرف نفقات لا تفتضيها طبيعة المشاريع او التعامل المتعارف عليه او لا تتناسب مع كلفتها الحقيقية او بالصرف على مشاريع وهمية او غير ضرورية او تعريض اموال الدولة للتلف.
ح – التهاون في تحصيل اموال الدولة في الداخل او الخارج او المساعدة على التهرب من دفع ما تستحقه الدولة من اموال كالضرائب والرسوم والعوائد او عدم استعمال الطرق القانونية لتحصيل هذه الاموال.
ط – قبول الاموال من الدول او الاشخاص خلافا للمصلحة العامة)).
كانت المحكمة التي شكلت في حينها؛ لأجل تطبيق قانون معاقبة المتآمرين على سلامة الوطن ومفسدي نظام الحكم في بداية الستينيات قد حوت على قاعة تسع لخمسمائة متفرج وفيها مكان للمترجمين (يقومون بترجمة ما يقال مباشرة على الهواء) ومراسلي الصحف ووكالات الانباء العربية والأجنبية، وشغلت المحكمة مبنى المجلس النيابي المنحل واتخذت من قاعته الكبرى قاعة للمرافعات.
والعراق الان يحتاج لمثل تلك المحكمة التي تكافح الفساد من خلال تطبيق قانون معاقبة المتآمرين ومفسدي نظام الحكم الذي لا زال نافذا ونصوصه تنطبق على كافة وجوه الفساد الموجودة الان، وتطبيق هذا القانون وغيره ذات العلاقة؛ بقوة يضع الحكومة امام مفترق طرق للتعاون مع الشعب لوقف الفساد وحماية المال العام وبقوة الدستور والقانون، والمال العام من أسباب قوة البلاد، فالواجب هو حراسته وصونه من الضياع.
القانون الثاني: ان قانون المحكمة الجنائية العليا رقم 10 لسنة 2005 النافذ قد جعل جريمة تبديد وهدر الثروة الوطنية من ضمن الجرائم الداخلة باختصاصها …. وساواها بجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وغيرها ونصت ((تسري ولاية المحكمة على مرتكبي احدى الجرائم الآتية:
اولاً : التدخل في شؤون القضاء او محاولة التأثير في اعماله.
ثانياً : هدر الثروة الوطنية وتبديدها استناداً الى احكام الفقرة (ز) من المادة الثانية من قانون معاقبة المتآمرين على سلامة الوطن ومفسدي نظام الحكم رقم(7) لسنة 1958.
ثالثاً : سوء استخدام المنصب والسعي وراء السياسات التي كادت ان تؤدي الى التهديد بالحرب او استخدام القوات المسلحة العراقية ضد دولة عربية وفقاً للمادة الاولى من القانون رقم (7) لسنة 1958.
رابعاً: لا يعفى الرئيس الاعلى من المسؤولية الجنائية عن الجرائم التي يرتكبها الاشخاص الذين يعملون بأمرته، إذا كان الرئيس قد علم او كان على وشك ارتكابها ولم يتخذ الرئيس الاجراءات الضرورية والمناسبة لمنع وقوع هذه الافعال او ان يرفع الحالة الى السلطات المختصة بغية اجراء التحقيق والمحاكمة)).
لو طبقت هذه النصوص كم مسؤول سيبقى لا تطاله هذه النصوص؟ خاصة إذا اجري تعديل على قانون المحكمة الجنائية العليا وجعل ولايتها تسري على الجرائم المرتكبة بعد الاحتلال.
إذا كان من ثمة إصلاح حقيقي وجدي، فيجب أن يبدأ من تنفيذ وتطبيق هذه القوانين العراقية وموادها وفقراتها التي لا زالت سارية المفعول، ضد الساسة المجرمين من سارقي المال العام ومن ممثلي الإرهاب السياسيين.
القانون الثالث:
المادة 19 من قانون هيئة النزاهة رقم 30 لسنة 2011، اعتبرت اي زيادة في اموال الموظف او زوجه او اولاده التابعين له بمثابة كسب غير مشروع ويخضع للحساب وفق قاعدة (من اين لك هذا)، وتطبيق هذا المبدأ سيكون أحد الوسائل الكفيلة بالتصدي للفساد المالي والاداري والوقوف بوجه المفسدين.
فلو قامت هيئة النزاهة بتطبيق الحكم الوارد في هذه المادة على الموظفين والمسؤولين من خلال رفع امر الموظف الذي ظهرت زيادة في امواله او اموال اقاربه المذكورين الى قاضي محكمة تحقيق النزاهة الذي يطالب هذا الموظف بإثبات المصادر المشروعة للزيادة التي ظهرت في هذه الاموال واذا عجز الموظف عن اثبات المصادر المشروعة للزيادة في هذه الاموال بما لا يتناسب مع الموارد المالية فإنه يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على خمس سنوات وبغرامة مساوية لقيمة الكسب غير المشروع او بإحدى هاتين العقوبتين مع مصادرة الاموال التي اعتبرت كسبا غير مشروع، وهذه العقوبة يتم فرضها حتى في حالة تخلف الموظف عن الحضور امام المحكمة للإجابة عن اسباب زيادة الاموال اذ يعتبر تخلفه بمثابة اعتراف بالتهمة.
والموظف الذي تضخمت موارده بدون وجه حق يبقى متهما حتى يثبت براءته طالما كانت هناك زيادة في موارده لا تتناسب مع قيمة راتبه؛ أي ان القاعدة الدستورية (ان المتهم بريء حتى تثبت ادانته) لا تطبق على الموظفين في الكسب غير المشروع حيث يعتبر الموظف متهما حتى تثبت براءته ويبقى تحت هذه الصفة حتى انتهاء حسم الدعوى لصالحه.
وحسب تقرير دولي صدر العام الماضي عن مركز النزاهة المالية العالمية حول “تهريب الأموال إلى الخارج”، كشف أن العراق يحتل المرتبة الـ 137 من حيث حجم تهريب الأموال للخارج من بين 143 دولة.
ان هيئة النزاهة غير فعالة في محاربة الفاسدين والسراق الكبار ومعها المفتشين العموميين، وبسبب ذلك بدت القوانين تبدو للوهلة الأولى أنها قوانين براقة بفعل عناوينها، لكن على مستوى عمقها فهي قوانين فارغة ولا يمكنها أن تحارب الفساد والقضاء على المفسدين، لان الجهات والهيئات المعنية بمحاربة الفساد متهمة بانها سيست هذه القوانين وإنها حاولت إيجاد او وجدت تخريجات قانونية لهم لتبرئة ذمتهم.
ان رئيس الحكومة السيد العبادي في جميع تصريحاته، أعلن ضمنا بأنه يملك لوائح بأسماء سراق ومهربي المال العام إلى الخارج وحجم المبالغ المهربة، لكنه لم يستطع رغم التحديات الاقتصادية والمالية ومطالب المتظاهرين والمرجعية منه بكشف الفاسدين؛ أن يكشف عن هذه اللوائح، ولا نعرف كشف الاسماء رهين بموافقة من؟
ان المسؤولين وحيتان الفساد من رجالات الحكومة السابقة والحالية لا زالوا يمتنعون عن الاستجابة لمطلب استرداد الأموال المنهوبة، بل بلغ النهب والتهريب مستويات قياسية، ولا زالوا يمنعون دخول العراق في الاتفاقيات التي تسمح له باسترداد الأموال المنهوبة والموجودة في بنوك الغرب والدول العربية، ولا زالوا يتبجحون بأنهم يشدون على يد الدكتور العبادي للضرب بيد من حديد على الفاسدين وصراخهم هذا طبعا لم يكن من منظور الدفاع عن مصالح الكادحين والغيرة على المال العام، بل محض مزايدات تدخل في إطار لعبة إضعاف الحكومة وفت عضد الدولة العراقية قصد إفقادها المصداقية.
لا يجب التعويل على أحزاب تحسب نفسها وطنية واسلامية من أجل النضال لاسترداد أموال العراق المنهوبة والمهربة إلى الخارج، فهذه الأحزاب ومعها الفاسدين متخلفة ترى في النهب والفساد وسائل رئيسية لمراكمة رؤوس أموالها، فهي اغلبها أحزاب إسلامية برجوازية خانعة ولها مليشيات وغير شفافة تفضل تهريب الأموال إلى الخارج بدل استثمارها في تصنيع البلد والمراهنة في استثمارات بعيدة المدى تراها غير مضمونة الربح ومحفوفة بالمخاطر في بلد تعصف به الفوضى في كل شيء منذ احتلال العراق.
ولا زال الشعب ينظر الى خطب السيد العبادي في محاربته للفاسدين وتوعده لهم، بانه يعكس فشلا في محاربة الفساد، ولجؤه إلى «استجداء الفاسدين ومهربي وسارقي الأموال»، بخاصة، يأخذ جميع السراق وقتهم لتبييض الأموال غير المشروعة في انتظار إعادتها بعد تطهيرها وغسلها.
نريد ان يكون تصريح السيد العبادي الأخير هو رسالة طمأنة للشعب الثائر والمرجعية من خلال تطبيق مبدأ من اين لك هذا بصيغة قانونية ونقله من مجال التصريحات إلى مجال القضاء والمؤسسات.
وأخيرا نختم مقالنا بقول الامام علي عليه السلام: (ان هذا المال ليس لي ولا لك وانما هو فيء المسلمين وجلب اسيافهم فان شركتهم في حربهم كان لك مثل حظهم والا فجناة ايديهم لا تكون لغير افواههم).