19 ديسمبر، 2024 2:08 ص

السيد السيستاني بين البابا غريغورس وليون والثيوقراطية وبناء الدولة المدنية .

السيد السيستاني بين البابا غريغورس وليون والثيوقراطية وبناء الدولة المدنية .

أمام عرش الله العلي القدير ، سيتم الحكم على رجل ليس من خلال تصرفاته ولكن عن طريق نواياه. اذ ان الله وحده يقرأ قلوبنا.
لا أعرف خطيئة أعظم من اضطهاد بريء بأسم الله
المهاتما غاندي
لقد عانت المجتمعات الأوربية من ويلات الكنيسة وسطوتها المستبدة وعرقلتها من بناء الدولة المدنية ودولة المؤسسات ,بسبب حكم الثيوقراطية والتي تعني حكم الكهنة أو الحكومة الدينية او الحكم الديني ,وتتكون كلمة ثيقراطية من كلمتين مدمجتين هما ثيو وتعني الدين وقراط وتعني الحكم وعليه فان الثيوقراطية هي نظام حكم يستمد الحاكم فيه سلطته مباشرة من الإله، حيث تكون الطبقة الحاكمة من الكهنة أو رجال الدين الذين يعتبروا موجهين من قبل الإله أو يمتثلون لتعليم سماوية، وتكون الحكومة هي الكهنوت الديني ذاته أوعلى الأقل يسود رأي الكهنوت عليها .

قد زعم رجال الكنيسة أنهم شركاء الله في السماء وما يحرمونه في الأرض يحرمه الله في السماء وبموجب هذا التفويض الالهى الباطل أدى إلى ازدياد الضغط والاضطهاد ضد المسيحيين مما أدى بمرور الزمن إلى الإفلاس الكامل للمسيحية , جاء في كتاب معالم تاريخ العصور الوسطى ( أن البابا غريغورس السابع أعلن سنه 1085 ميلادية أن الكنيسة هي صاحبة السيادة في العالم كله وتستمد نفوذها من الله مباشرة وان البابا له مركز فذ في العالم فهو الذي يولى الأساقفة ويخلعهم وله الحق في خلع الأباطرة لأنه سيدهم الذي لايسأل عما يفعل وهم يسألون ) وجاء في الكتاب نفسه (واقسى من هذا أن يعلن البابا حرمان إمبراطور فيضطر أحيانا إلى الوقوف ببابه ثلاثة أيام حافي القدمين عاري الرأس بين الثلوج والأمطار حتى يأذن له البابا ويغفر له ذنوبه. كما فعل الإمبراطور هنري الرابع حين حرمه البابا عام 1076 ميلادية ويضطر أحيانا إلى أن يركع بين يدي البابا كما فعل الإمبراطور فريدريك حين حرمه البابا سنة 1177 ميلادية )

لقد انشق البروتستانت عن الكنسية الكاثوليكية في منتصف القرن السادس عشر وبعد عدة احتجاجات على ممارسات بابوات الكنيسة، ومنها قضية صكوك الغفران. من أقدم دعوات الإصلاح بدأت على يد جيرارد في كنيسة لورين في عام 914م وعاصرتها دعوة أخرى تسمى حركة كلوين. ثم ظهرت في جنوب فرنسا حركتا الكاتاريين والوالدنيين، وتمكنت البابوية من القضاء عليهما. وفي القرن

الثالث عشر ظهرت حركة الرهبان (الإخوان)، ودعت للبساطة وحماية الكنيسة من الهراطقة، وتدعيم البابوية عن طريق الأتباع المخلصين، لكن مع نهاية هذا القرن وقع رواد الحركة فيما حذروا منه، فأصبحوا من الأثرياء، وجر الثراء إلى ما يسوء ذكره. وفي عام 1383م توفي داعي الإصلاح حنا بعد أن طرد وأتباعه، ثم بعده نادى حنّا هس بإيقاف صكوك الغفران التي استعان بها البابا حنا الثالث والعشرون في حربه ضد مملكة نابلي، وقد أحرق حنّا هس حياً عام 1415م.

وفي أوائل القرن السادس عشر نادى آزرم بالإصلاح، واحتفظ بعلاقات طيبة مع الكنيسة والبابا ليو العاشر، ومثله فعل معاصره توماس مور. وفي بداية هذا القرن أيضاً ظهر مارتن لوثر، وهو قس ألماني ذهب إلى الحج في روما طالباً بركات البابا فيها، وفي ذهنه صورة من النقاء والطهر والخشوع. لكنه فوجئ في روما بواقع آخر، فجعل يصيح بأن ليس هذا دين عيسى، وعاد لألمانيا يدعو للإصلاح، وهاجم صكوك الغفران واعتبرها دجلاً، وانضم إليه أتباع سموا بالمحتجين (البروتستانت). ثم تأثر بلوثر الفرنسي كالفن المولود عام 1509م، ثم السويسري زونجلي، وأسس كلفن التنظيم الكنسي البروتستانتي. وقد انتشرت أراء هذه المدرسة الإصلاحية في ألمانيا وأمريكا واسكتلندا والنرويج وهولندا.

عاشت الطوائف المسيحية في أوربا صراعات طويلة فيما بينها،و سلسلة صراعات دامية مزقت أوروبا بين عامي 1618 و 1648 م ، سميت بحرب الثلاثين عام وقعت بين البروتستان والكاثوليك والدول المتحالفة معهم، وكلفت الاوربيين الملايين من الضحايا، وخصوصا في المانيا التي خسرت حوالي نصف سكانها، وكانت المجازر تشمل عمليات القتل والحرق والتهجير بين القرى المتجاورة، بل داخل البلدة الواحدة. وقد اشتركت في هذه الحرب الوحشية تباعا معظم القوى الأوروبية الموجودة في ذاك العصر فيما عدا إنكلترا وروسيا ,تنقسم حرب الثلاثين عام إلى أربع مراحل رئيسية : الثورة البوهيمية ,التدخل الدنماركي ,التدخل السويدي ,التدخل الفرنسي , بدأت اولاً كمواجهة دينية اندلعت عام 1606 في مدينة دوناوفورت الحرة إحدى مدن ألمانيا التابعة للإمبراطور الروماني الكاثوليكي، حيث حاولت الأغلبية البروتستانتية منع الكاثوليك من أداء موكب ديني مسببين اضطرابات عنيفة , مما دعى تدخل ماكسيمليان الأول حاكم (بافاريا ـ جنوب المانيا) مساندا الكاثوليك لإعادة الوضع إلى حاله. هذه السلسة من الأحداث أوجدت لدى البروتستان (الذين ظلوا أقلية في المنطقة) شعورا بوجود مؤامرة كاثوليكية لاجتثاثهم .

لهذه الأسباب ثارت الشعوب الأوروبية ضد رجال الدين وضد الإقطاع ونتج عن هذه الثورة فصل الدين عن الدولة ,حفاظاً على قدسية الدين ورجاله ,والشروع لبناء دولة مدنية تقوم على أساس احترام الإنسان وإنهاء الطبقية والعنصرية وتصنيف المجتمع,وحصل التغيير بأن تأسست الدولة

المدنية وأصبحت الدول الأوربية في مقدمة الدولة العظمى فالاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني انعكس على حياة المجتمع ونموه وازدهاره ,وتطبيق القانون على الجميع دون استثناء بأن تتوسط الكنسية للإفراج عن القتلة واللصوص ,والمجيء بمن لديهم القدرة على العمل والانجاز وفق معايير موضوعية ومنطقية يخضع لها حتى رؤساء الدولة بتسنمهم المنصب,هذا التحول كان بفضل فصل الدين عن السياسة وترك رجال الدين للتدخل بشؤون الدولة .

في العراق الوضع مختلف جداً عن الحكم الثيوقراطية ,فعلماء النجف والمراجع الأربعة وهم السيد السيستاني ,والسيد الحكيم ,والشيخ بشيرالنجفي وإسحاق الفياض ,جميعهم ومنذ اللحظة الأولى التي سقط بها النظام الدكتاتوري أعلنوا في بياناتهم الرسمية الصادرة من مكاتبهم وبختمهم ,أوعن طريق معتمديهم ووكلائهم ,أنهم ليسوا مع تشكيل حكومة دينية وإنما مع حكومة مدنية ودستور يحترم كل مكونات المجتمع ,بل أن السيد السيستاني رفض مراراً وتكراراً ان تكون الدولة دولة اللوبيات والمحاصصات ,وكان ولازال يؤكد ان المرحلة تحتاج لمن هو قادر على تحمل المسؤولية ولديه القدرة على ائتمان من توكل اليه السلطة أو المنصب ,وقد تجلى ذلك في حث المواطنين ومن كافة الأطياف بالذهاب للمشاركة الواسعة بالانتخابات البرلمانية منذ اللحظة الاولى التي بدأت فيها الانتخابات في الثلاثين من كانون الثاني من عام 2005 توجه ملايين المواطنين صوب صناديق الاقتراع للمشاركة في اول انتخابات تشريعية ديمقراطية يشهدها العراق بعد التغيير السياسي عام 2003,وتشكيل حكومة قوية تستطيع إنقاذ العراق من الأزمات والتحديات وايقاف نزيف الدم الذي لايفرق بين اسود وابيض وسني وشيعي عن طريق الإرهاب بالسيارات المفخخة والاحزمة والعبوات الناسفة ,والاغتيالات ,كما أكد على المشاركين في أن يبحثوا ويفتشوا عن سيعطونه صوتهم ,ويغيروا الوجوه التي خانت الأمانة والمجيء بدماء جديدة تضع مصلحة المواطن وكرامته قبل كل شيء ,لادولة المسؤول الذي يجلس وراء الحواجز الكونكريتية .

لقد وفر علينا السيد السيستاني أكثر من 80% ,من بناء العراق الجديد برفضه التدخل بشؤون الحكومة وترك لهم حرية الاختيار بمن يجدونه مناسباً لكل موقع ,بعكس البابا غريغوس الذي زج انفه بكل صغيرة وكبيرة بشؤون الإمبراطورية, بل كان جزء مهم من حرب طائفية حرقت الأخضر واليابس ,فالسيستاني حفظ دماء الملايين وصان وحدة البلد من الانزلاق بأتون الحرب الاهلية وشدد في اغلب بياناته على حرمة الدم العراقي وتولي القضاء مسؤولية محاسبة المقصرين والمفسدين وسراق المال العام في وضح النهار.

فالمشكلة بعدم استقرارالعراق وتردي أمنه واستقراره وانعدام خدماته هي بالسياسيين الذين نقلوا خلافاتهم ومشاكلهم وصراعاتهم داخل البلد ووزاراته مؤسساته مما انتج لنا حكومة ضعيفة ,فضلاً

انهم ليسوا على معرفة ودراية بكيفية أدارة الدولة فعقلية المؤامرة لا تزال تسيطر على بعض منهم ,وانشغالهم بملذاتهم وامتيازاتهم وتركوا ساحة العراق عرض للنهب والسرقة وتوغل الارهاب في أروقة المدن وضواحيها ,وأصبحت سرقة المال العام (الفساد) ثقافة ينتهجها الكثير من ذوي النفوس الضعيفة لتتحول لظاهرة مقبولة ادارياً واجتماعياً والسبب هو غياب العقاب الرادع وان وجد فانه يمرر (على س ويترك على ص) مما شجع الآخرين من الموظفين الصغار للسرقة والنهب وتحت مسميات عديدة ,كان السيد السيستاني واضحاً كل الوضوح في جميع بياناته وما يطرحه على الشعب لانه يريد دولة مدنية لادولة دينية يريد دولة الكفاءات ,دولة يقودها من يجعل البلد وشعبه هو فوق كل شيء, دولة نابعة قراراتها من رحمها لا من دول الجوار,أو تنفذ أجندات معينة على حساب مواطنيها .

على السياسيين الذين فشلوا في ملء مراكزهم وإعطائها حقها ,عليهم أن يوفروا علينا مشقة بناء الدولة ,ان تتركوا مكانكم لغيركم من الجديرين به ,فوضعنا بعد الآن لا يتحمل المنغصات والمعوقات فأمهات ثكلى ويتامى وأرامل وذئاب تريد الافتراس وتقطيع الفريسة لأوصال عدة ,فبدون إحراج تنحوا وجعلوا القيادة لسفانها وربانها الذي يستطيع إيصال العراق وشعبه لبرالأمان .

أحدث المقالات

أحدث المقالات