مقدمة الرواية هي خارطة ورقية لمدينة النجف القديمة بشوارعها الضيقة ووسطها الذي يشغله الضريح مع محيطها العجيب الممتد من المقبرة إلى البحر .
هذه الخارطة هي شكل مفترض لبناء أفقي في مدينة مليئة بالتناقضات والحكايات التي يختلط فيها امتزاج الحياة المعاشة على الأرض مع ما تحمله دواخلها من أكداس لا متناهية لجثث الموتى وهي تعبر عن سر الدهشة في البقاء المثيولوجي لتلك الأجساد التي ستبعث من جديد في عالم الفردوس الآلهي والتي لا تدخله إلا بمباركة الشفيع الذي يتوسط ضريحه المدينة بقبابه المذهبة وأيقونات الكريستال التي تبهر العيون وتجعلها وعاءا للدموع والتشفع لأرواح الموتى الذين تمتد جثثهم المتناسلة عبر القرون والقادمة من شتى أصقاع الأرض في محيط دائري يلتف حول الضريح في متوالية عددية من الموت الأزلي الذي لانهاية له ولا بقاء أو خلود بعده منذ كلكامش الذي بحث عنه طويلا حتى عثر على عشبته التي سرقتها منه الأفعى في لحظة شرود عابرة على ساقية ماء ليتحول إلى فان من الفانين .. ولكن كلكامش أدرك سر الحقيقة في محتواها وهي إن الخلود لا يكمن في بقاء الجسد على مر الزمن وإنما ما يتركه الفرد للأجيال القادمة من حضارة لا تنسى ، فبني أسوار أوروك التي ما تزال بقاياها شاخصة إلى الآن ولم تقم القيامة بعد .
ما تذكره ( معينة ونظمه وواحدية ) بنات السيد خنصر علي وحفيدات السيد أصغر أكبر عن بزوغ الفجر مع صوت أول ( جلجلي ) و( الجللجي ) هو من ينادي أمام الجنازة ( جل الله .. لا أله إلا الله .. جل الله ) هذه السيمفونية الثابتة النغمات هي الخارق الأول لسعادة النوم التي تستمتع بها العوانس الثلاث حفيدات السيد أصغر أكبر وهو صوت الجللجي ونداء جل الله لا اله إلا الله .. وما أن يسمعن صوت الله وجل الله حتى يبادرن إلى شتم الجللجي إلى سابع جد ( وبعد أن أفزعنا بجلجلته العظيمة كسرت أختنا واحدية عظام أجداده السبعة بشتائم ثقيلة ثم تأففت وأضافت أجدادنا السبعة إلى أجداد ذلك الجللجي ) ( الرواية ص14 ) .
الذين يسكنون النجف يعرفون سر اللعبة ولكنهم لا يبيحون بها .. مرة قلت لأحد الدفانة ..
– كيف يمكن لهذه الأرض الصغيرة أن تستوعب هذا الكم الهائل من الجثث وعلى مر الزمن ؟
قال لي وبالحرف الواحد .
– الجثة في الأرض لا تمكث أكثر من سنتين حتى تتحول إلى كومة من العظام .
– ماذا تقصد ؟
– كل قبر أمامك هو ملاذ لأكثر من خمسين جثة .
– معقول ؟
– لا تحدثني بالمعقول وغيره .. أنا كسبت هذه المهنة عن عاشر جد عمل دقانا في هذه الأرض .
فلا غرابة أذن أن تلعن واحديه ابنة السيد خنصر علي وحفيدة السيد أصغر أكبر الجللجي والدفان وكل من يتاجر بعبث الأجساد الميتة في أرض كتب لأهلها النجاح في كونهم قريبون من الولي ويجيدون لغة التجليل والبسملة وذكر قائمة الأولياء الذين تذكر أسماءهم عند رأس الميت عندما يوضع في لحده .. ثنائية غريبة في البقاء والموت .. الميت خسران في كل الأشياء والذي يدفن جثته مستفيد في كل الأشياء ابتداءا من أول جلجلة في الغبش وحتى النداء الذي يهمسه عند رأسه من يهيل عليه آخر ذرات من التراب وهو يقول .
– يا ابن آدم إذا جاءك الملكان لا تنسى أن تقول لهما .. الله ربي ومحمد نبيي وعلي أمامي والحسن إمامي والحسين إمامي وعلي ابن الحسين إمامي ..
وحتى آخر لفظة في الأنتظاراللامحدود حيث الغائب المنتظر شفيع الكل وإمام الكل .
السيد أصغر أكبر المدفون في قاع السرداب الذي تسكن في بيته العلوي العوانس الثلاث ( معينة ونظمه وواحدية ) واللائي لم تنقش أسماءهن بخيوط الإبريز على القماشة الخضراء التي تغطي قير السيد أصغر أكبر والتي نقش على وجهها أنساب شجرة العائلة من الفحول فقط .. أما شمخة زوجة خنصر علي ووالدة العوانس الثلاث فقد حرصت أن تطرز أسماءهن في قفا القماشة الخضراء بخيوط من الوبر خوفا أن يلاحظ الرجال التلاعب بشجرة العائلة في أصافة النسواين إليها .
( كي لا يلاحظ أبونا ذلك فيعنفها ويقرص أذنها كعادته ، وتظل تموء من الألم طوال الطريق من النجف إلى بغلة عباس في مواسم الزيارات .. خمسين ألف مرة قلت لك .. ألف مرة قرصتك يا شمخة لا تلعبي بشجرتنا ، لا تصيفي لها أسماء النساوين ) ولكنها تقول له ( أنا أتبرك بقماشة السيد ورجائي أن يتزوجن قبل أن أموت ) لكن أبانا يستمر في تعنيفها ( أفهمي يا مرة الزواج قسمة ونصيب نحن لا نزوج بناتنا العلويات إلى عوام الناس ، بنات السيد خنيصر لا يركبهن العوام ) ( الرواية ص14 )
ولكن لما تموت شمخة ويموت السيد خنصر علي يموت ،لا تنفع خيوط الوبر التي طرزت بها شمخة قفا القماشة الخضراء بأسماء بناته اللائي أصبحن ينتظرن الآن المحامي حسين تموزي ليحصي لهن ما تبقى من أرث السيد أصغر أكبر كونهن الوريثات الشرعيات له
( بعد أسابيع من مراجعتها المضنية في دوائر الطابو والمحاكم والتسجيل العقاري استطاعت واحديه أن تستل محاميا شابا من بين جوقة من المحامين ، كانوا يذرعون سلالم المبنى درجتين درجتين ، قالت بأنه مهذب وحباب وفي رأسه كيس دهن بحجم الإبهام ، يمكن حسب رأيها أن تعتبره خصية ظلت مكانها واستقرت في رأسه .. لكنه أفضل من سيخدمنا ، لا يبدو متطلبا ولا بصاصا يطرد العين ولا يجلب الأثر حينما يتردد على دارنا .
في دائرة التسجيل العقاري تعرف عليها مقدما نفسه ( حسين ظافر محمود تموزي ) وكما سيتضح انه مد لها أسمه حتى يبلغ اسم جده الذي نفي إلى الهند مع الثوار في الأحداث التي أعقبت حصار النجف واجتياح البريطانيون لها عام 1918
– انتم أذن من ؟
– بغلة عباس
– بغلة عباد ؟
– بغلة عباس بالسين ألم تسمع بها ؟
– لقد عاشت عائلتي هنا منذ قرون .. لم أسمع ببغلة عباس أبدا
– إنها قرية صغيرة على كتف البحر
– على كتف البحر؟ ) ( الرواية ص22 )
إذن بغلة عباس قرية صغيرة على كتف البحر لا وجود فعلي لها على مر القرون وهي قرية افتراضية أنشأها مرتضى كزار على غرار المدن المفترضة في الروايات العالمية ( يوكنا باتوبا ) مدينة فوكنر في روايته الصخب والعنف والتي تقع بالقرب من بوسطن الحقيقية ومدينة ( موكاندو ) التي أنشأها ماركيز في روايته مائة عام من العزلة .. ومرتضى أراد سببا وجيها لتأسيس هذه المدينة المفترضة .. عندما رست سفينة الكابتن عباس المحملة بالجثث المراد دفنها في النجف والقادمة من الهند والأهواز.
وسفينة الكابتن عباس التي يأتي وصفها في ص27 من الرواية كما يلي ( في أخر شهر من سنة 1871 الميلادية رست سفينة الكابتن عباس على شاطئ بحر النجف ….. هذه السفينة التي لا يعدو طولها ثمانين قدما وعرضها ثلاثين قدما والتي يسمى نوعها بغلة في قواميس البحر ومسافن الخليج )
ومن ذلك التوقيت جاءت تسمية المنطقة التي رست عندها السفينة باسم بغلة عباس وهي قرية أو مدينة مفترضة كما اشرنا سابقا .
السفينة أو البغلة كانت تقل إضافة إلى جثث الهنود المراد دفنهم في النجف ، نسابة الخيول الشهير السيد أصغر اكبر الذي كان يلف جسده بأنواع أدوات الخيول من ألجمه وكراكيش وسروج وحدوات يعلقها على رقبته ويربطها حول بطنه .. الأرض التي سيتجه نحوها السيد أصغر أكبر هي أرض النجف التي يعرف عنها الكثير وهو يوضح معالمها وتضاريس أرضها إلى الكابتن عباس الذي يبدو انه يقدم إليها لأول مرة .. النجف التي أصبحت المستقر والمكان الآمن للسيد أصغر أكبر الذي يؤسس للأجيال القادمة في أشجار أنسابه المستوحاة من نظرية خاصة به يؤسس على ضوئها تلك الأشجار التي يطلبها منه الآخرون .. هذه النظرية التي تدونها فيما بعد العوانس الثلاث في بيت الشرايك وهو البيت الذي أورثه السيد أصغر أكبر إلى حفيداته ليصبح محورا لأحداث الرواية في نسيجها السردي المتميز الذي يخلط الواقعي مع ألغرائبي في ذكر أشياء معقولة وعير معقولة كما في المشهد السردي في ص177 من الرواية ( السؤال الأبعد كان هذا : كيف استطاعت شمخة أن تخفي عشفها لمخرج مسرحيات ورئيس جماعة مخبولين وتحبسه بين قلبها ومطبخها ؟
السؤال الذي يخطر في بال واحديه الآن كيف صعد انكيدو النخلة ؟
بعد أن كبرنا عرفنا لماذا لم يكن مطبخها معقدا مثل مطبخ الجدة رومية ، أما لماذا كانت يد ياس السرابي مشعرة ، فهذا كنا نعرفه منذ البداية ، فالكثير من الناس أياديهم مشعرة ، والفرق إن نهاب أمنا كانت يده الأخرى جرداء ، لأنها صليت في أحدى محاولات إزالة الشعر بعد أن فشل في العثور على ممثل مناسب يؤدي دور سمخا , فقرر وقتها أن يحتفظ بالدور لنفسه .. هل يكفي هذا يا واحدية ؟ )
هكذا مشاهد سردية وغيرها تمتد على طول النسيج الروائي جعل من هذه الرواية التي تأثر كاتبها كثيرا بالأعمال الغرائبية والسحرية لكتاب أمريكا اللاتينية ابتداءا من خوان رولفو وماركيز وبورخس وحتى أخر رؤيا يكتبها مرتضى كزار في ختام روايته ( السيد أصغر أكبر) حيث يذكر في تلك الرسالة المفترضة التي أرسلها الجندي وهو يقاتل في مقبرة النجف ضد المقاومين العراقيين في حربهم الأخيرة مع قوات الاحتلال الأمريكي أبان غزوه للعراق عام 2003 والتي بدايتها في الصفحة 183 من الرواية والتي تبدأ بعنوان ( القاعدة الأندلسية ) وفيها (من ادغار باشيرو إلى تيبانتوس أراغونيس .. أكتب إليك من القاعدة الأندلسية في النجف )
وفي هذا الفصل الختامي يرتقي مرتضى كزار إلى قمة الغرائبية والسحر والدهشة حيث يلخص لنا من خلال هذه الرسالة موجز كامل للرواية على لسان مقاتل اسباني يقاتل في مقبرة النجف تلقى معلوماته من مترجم عراقي شاب أهدى له كتاب ألفه مدير بلدية النجف أو بالأحرى مسؤول حكومي كبير ليوجز لنا من خلال هذا الكتاب وهو في أوج محنة يواجهها في معركة قاسية حيث نعرف من خلال رسالته إلى صديقه في اسبانيا من هو السيد أصغر أكبر وكيف وصل إلى النجف مع بحار مخمور وكيف عمل نسابا للأشخاص بدلا عن الخيول وهو يرسم أشجار عوائل الآخرين ومنه عرفنا أيضا قصة شمخة مع مخرج مسرحيات الشوارع ومصير الشقيقات الثلاث مع الاعتذار لتشيخوف اللائي متن جميعا ودفنت أجسادهن في أحد سراديب المقبرة ليستمني جندي اسباني على شاهدتهن التي نقشت عليها أسماءهن جميعا بعد أن عملن فترة طويلة في رسم شجرة عائلة الرئيس .. هذه الأحداث وغيرها وتداخل أزمنة الرواية عبر القرون ولملمتها للأحداث الجارية عبر نصف قرن من تاريخ العراق الحديث إضافة إلى الماضي البعيد جعل الروائي مرتضى كزار يتقن فن اللعبة ويغور في أعماق غرائبية سحرية جميلة لاتخلو من الدهشة والانبهار . وهي رواية ترتقي إلى مطاف الأدب العالمي دون شك .