كنت أتابع أخبار إنتهاء ولاية المستشارة الألمانية (أنجيلا ميركل) ، أول إمرأة شغلت هذا المنصب في ألمانيا بعد أربع ولايات متتالية ، واحدة من أطول مدة شغلها مستشار ألماني ، لقيادة واحدة من أعظم البلاد في العالم إن لم تكن على الإطلاق ، تأملتُ ملامح وجه هذه السيدة السّتينية ، الخالي من أي مكياج ، بملابسها البسيطة ، فلديها بضعة بدلات ترتديها بصورة دورية ، تتزين عادة بعقدٍ بسيط خالٍ تماما من الذهب والأحجار الكريمة ، تصفيفة واحدة وبسيطة للشعر ، تعطينا درسا في التقشف وهي قائدة لأغنى بلد في العالم ، وأتأمل بأزدراء ، وجوه سياسيينا ، بأبتساماتهم الصفراء وهم يزفون الينا خبر هزيمة الأرهاب منذ 18 عاما ، بل وكأنهم شامتون من أنهار الدم اليومي في مسلخ اسمه العراق ، قادتُنا أفقروا بلدا غنيا صار مثيرا للشفقة أمام العالم ، بنوا وأغتصبوا قصورا بل أحياءً فاخرةً بأكملها ، ذات بذخٍ جنوني ينافس قصر (فرساي) إلا أنه يفتقر للذوق ! ، وبالمقابل هذه السيدة التي رفضت سكنا وظيفيا راقيا مخصصا من المستشارية ، وآثرت السكن في شقتها المتواضعة مع زوجها في آخر طابق لمبنىً من 4 طوابق عمره أكثر من 100 عام ، جلّ سكانه من كبار السن ، يقف على بابه شرطي واحد ، على شارع خالٍ تماما من أي أسوار أو حواجز ، بينما يكمن سياسيونا دخل أسوار هائلة تناطح السماء ، تحرسها حواجز تفتيش لا تُعَد ولا تُحصى ، يختبئ خلفها قادةً لأكثر دولة ضربت الأمثال العالمية في الفساد والتخلف والفشل في العالم .
وقد حُسِبَ عليهم (حسب المدرسة التي يدّعون الإنتماء لها) أن يعيشوا في زهدٍ وتقشف ! ، يتباهون بملابسهم وأكسسواراتهم الفاخرة رجال ونساء مثقلات بالذهب وفساتين باذخة مثل (قارون) ، تتراكض جيوش حماياتهم أمامهم ، لقد ملّت صالات عمليات التجميل من وجوههم ، لكنها لم تنجح في إخفاء قبحهم ، جميعهم على الأطلاق ، وكأن الزمن الأغبر قد عاد بهم الى الوراء ، أقارن بين صورهم بالأمس ووجوههم الأن ، وكأنهم عادوا شبابا ، منهم مَنْ صبغ شعره ، بل منهم مَنْ أختفى (الصلع) من رأسه ، زالت التغضنات من سحناتهم ، ثم يقترن بفتاة (أوأكثر) أصغر من بناته .
وهذه السيدة بدت وكأنها أكبر من عمرها بكثير ، بل وكأن عمرها قد أزداد ثلاثون عاما منذ أن بدأت بقيادة هذا البلد العظيم ، كان بأمكان هذه المرأة أن تلجأ لعمليات التجميل ، خصوصا وانها قائدة لألمانيا ، أكثر بلد متطور في جميع الأصعدة ، أقتصاديا وصناعيا وطبيا ، فجميعنا يفخر أن لديه سلعة ما ، تحمل دمغة Made in Germany)) ، هذه السلعة ، كبرت أم صغرت ، مضرب مثل في كل العالم في جودة وعبقرية الصناعة الراقية ، المقترنة بالدقة والأخلاص والتفاني والنزاهة ، بحيث تعود معظم الأختراعات في العالم الى علماء ألمان ، يكفي ان أحدهم (البرت اينشتاين) .
هذه السيدة تعطي إنطباعا بميلها للعملانية الصارمة ، حاملة شهادة الدكتوراه في الفيزياء من جامعة (لايبزغ) شرق ألمانيا ، وجُلّ سياسيونا من أصحاب الشهادات المزورة ، حتى وصل عددها إلى 27 ألف شهادة مزورة ، في فضيحة طالت كبار السياسيين ، لكن الفضائح الكبرى كمثيلتها من الجرائم الكبرى ، تبرد مع الأيام وتكون نسيا منسيا ! .
أنا أعلم ان النوم يجافي هذه السيدة ، لأنها تحس بثقل الأمانة الملقاة على عاتقها ، كونها تقود ارقى بلد في العالم ، وتعازينا الحارة لكم ايها العراقيين فأنا أعلم ، ان سياسيينا ينامون ملء الجفون ، على جثث من الأبرياء وقد فرمتها ماكنة الأرهاب والحرمان والفقر بسبب تقصيرهم ، وأنهماكهم في السرقة والتخلف والأرهاب والتآمر ، وتركوا الهرم والشيخوخة تأكل شبابنا العاطل عن العمل ، والمسحوق والمُحبط ، وصاروا أهدافا سائغة لماكنة الأرهاب والفساد ، أو تبتلعهم مياه الغربة في محاولات مريرة وأسطورية للهرب خارج أسوار الوطن .
ميركل الإنسان ، هي الوحيدة من بين كل زعماء أوربا ، قد خفضت جناح الرحمة للمهاجرين من بلاد نتنة ومتخلفة بسبب حكامها الفاسدون والإنتهازيون والخونة والسراق ، حتى أسموها تحببا (العمّة ميركل) ، بينما أقفلت الأبواب الحديدية على أسوار الدول “الإسلامية” العربية الغنية بوجه موجات المهاجرين المحرومين ، وفُتحت على مصاريعها للصهاينة ! .
مكتب هذه السيدة من زجاج في مبنى المستشارية لأنها أمِنَت أحجار الرجم ، يحاكي التجسيد الحي للشفافية ، يمكن لأي مواطن ألماني رؤيتها من بعيد داخل هذا المبنى ، وبإمكانه رؤية كل نشاطاتها ، على عكسنا ، فدهاليز المنطقة الخضراء ، ومنازلهم خارجها ، هي غرف مظلمة بحق ، وتمرر خلالها كل صفقات التآمر والسرقة .
لستة عشر عاما ، قادت هذه السيدة البلد في أكثر الفترات إضطرابا ، من الكساد الإقتصادي والاوبئة ومشاكل الهجرة والحروب ، قادت بلادها بمنتهى المهارة والتوازن ، ولم تكن السيدة ميركل لتنجح لوحدها في إدارة دفة بلادها لوحدها ، فهي تقود شعبا واعيا ، بضمائر لا يمكن شرائها بأموال الدنيا كلها ، لا يوجد من يتزلّف لها أو يتملّقها ، فبالتأكيد هي ستحتقر أي سياسي من هذا الطراز ولن تأخذ برأيه وهم كُثرٌ لدينا ، والمكافأت وصعود السّلم من نصيب هكذا إمّعات ، الألمان لا يصدحون بالقول والقصيد بحب وطنهم فقد جسّدوه عمليا وواقعا ، لكن حبنا للوطن لم نفهمه غير مجرد كلمات صدحت بها حناجرنا ، فالفرق بيننا وبينهم ، أن في ألمانيا مليون نموذج من (ميركل) بعد مغادرتها لسدة الحكم يطمئن له الشعب ، لكن بلدنا قد خلا تماما من نموذج واحد من هذا الطراز ! ، الديمقراطية لديهم أمرٌ مفروغ منه وليس فيه جدال شأنه شأن كل البلدان الأوربية ، بلدهم في المحافل أسمه (جمهورية ألمانيا الإتحادية ) ولم يضيفوا له كلمة (ديمقراطية) ، لأن المفارقة أن كل حزب أو دولة ، عربية أم أجنبية إلا ما ندر ، إن أضافت كلمة (ديمقراطية) على تسميتها ، فأعلم أنها بعيدة كل البُعد عن الديمقراطية ! .
عليّ إبن أبي طالب ، بمدرسته الراقية في مباديء الحكم والسياسة ، فضلا عن شخصيته الباذخة المفرطة كما وصفه يوما الدكتور عدنان إبراهيم ، وهو ليس بمبالغ في هذا الوصف على الإطلاق ، يقول في حقه أحمد بن حنبل (كل مَن جلس على كرسي الخلافة ، زانتهُ الخلافة ، إلّا علي ، فقد زان الخلافة) ، كان ينظر إلى الخلافة على أنه حمل ثقيل ، ورغم ذلك فقد كان مستخفا بها ، والدليل وصفه إياها على أنها (عفطة عنز) ، بل أن نعاله (أحب إليه من الإمارة) ، الوحيد الذي حملته إلى الخلافة ، إنتخابات عفوية جماهيرية إلى درجة الفوضوية ، فقال وهو يصف فوضى دخول الجماهير لبيته لحمله على الخلافة (حتى إنشقّ عطفاي ،ووطيء الحسنان) ، وليس بقرارٍ من غرفة مجلس الشورى ، هو نفسه مَن قال (الإنسان إذا مَلَكَ ، إستأثرْ) ، وعلى طيلة تاريخ السياسة العربية ، كان عليّا هو الإستثناء الوحيد لهذه القاعدة ولحدّ الآن ! ، بل إن أبشع مثالٍ على الإستئثار بالمنصب ، مَن وصفوا أنفسهم بأنهم من مريديه ! ، بل منهم مَن وصف بعضا ، بأنه كعلي إبن أبي طالب ، حاشاه ! ، وسيستأثر بالكرسي ولو إحترق البلد بأكمله ، وهو يعلم أن هذا الكرسي ما هو إلا (عفطة عنز) ! ، فمتى يفهم السياسي بأن لا يمنّ علينا بدينه فهو شأنه مع الله ، وإن كان زائفا وتجارةً ، بل نريد آثارا في هذه الدنيا ، لا نطمح أن تكون كآثار السيدة (ميركل) .
تُرى ماذا سيكون موقف هذه السيدة إن خسرت أحدى الإنتخابات ؟ ، بالتأكيد ستحترم قرار إستبعادها وستنصاع بروح عالية لإرادة الشعب ، وستلملم أشياءها من مكتبها وستغادره عن طيب خاطر وبأريحية ، بلا ضجيج ، بلا ماكنة إعلامية فهي لا تمتلكها ، لا توجد في بلدها “غرف مظلمة” تلجأ إليها للإلتفاف والتآمر على قرار الشعب بمعية بضعة أوغاد فهي تحتقرهم ، لكن التاريخ سيذكرها بحروف من نور ، وسترتاح في أيامها الباقية وهي في حلّ من (عفطة العنز) ! .