السيدة أيام
صمت رهيب يغطي المكان عدا صوتُ نباحٍ لكلابٍ قادم من أقصى المدينة. فجأة سرت في أعماقي رعدة جعلتني أغمض عينيَّ من التأثر.لا أدري لماذا هبت على روحي رياح من الحزن ضاعفت تعاستي أضعافًا مضاعفة. كانت أنفاسي تتردد في الصمت العميق ثم تداعيت إلى فراغِ يأسٍ قاتل. الحقيقة شعرت بدبيب دموعٍ حبيسة تزحف إلى مسالك عينيّ وكأنني أحترق شوقاً لشيءٍ مجهول. ولكي أزيل رعب الصمت الذي اجتاح روحي بلا هواده. وضعتُ سماعتين لجهاز الموسيقى الذي أحمله معي أينما أذهب. إنطلق صوت أحد المطربين العالميين في سكون الليل حيث أغنيته التي أعشقها بجنون ” : سِرْ معي خلال هذا العالم وأذهب معي أينما أروم الذهاب. شاركني أحلامي لأنني بحاجةٍ ماسّه اليك. في الحياة نبحثُ عن شيء والبعض الأخر يجد ما كنا نبحثُ عنهُ. بحثتُ عنكِ زمناً طويلاً جداً. والأن وجدتك. تعالي خذي يدي كي نسير سويةً في هذا العالم”.
بلا تردد كتبتُ الرسالة التالية للشخص المجهول وبعثتها عبر الأثير وأعلن هاتفي النقال عن نجاح إرسال الرسالة” أنا كئيب. جالسٌ في الظلام تحت شجرة سدرٍ عملاقه في مكان عملي ولا أستطيع النوم. أشعر بالقرف من هذا الوضع الذي وضعتُ فيه نفسي.” بعد عدة دقائق جاء الرد” سأتحدث اليك بعد الواحدة والنصف”. نظرتُ إلى ساعتي التي كانت تعلن عن وصولها إلى الواحدة وثلاث دقائق. أعدتُ قراءة الرسالة أكثر من مرة. كنت أحدث نفسي” عن أي شيء سنتكلم؟ وماذا سيحدث بعد الكلام؟ كم دقيقة ستستمر المكالمة؟” بلا توقع رنّ هاتفي النقال وبقلب نابض بالترقب نظرتُ إلى الرقم المجهول” ولو انه مالوف بالنسبة لي”. هل أجيب على الشخص المجهول أم أتراجع في اللحظةِ الأخيرة وأعلن انهزامي إلى الأبد؟أم أقتحم جدار التردد. وجاء القرار صافياً في زمن التردد” نعم من المتحدث؟”. انطلق صوت من الجانب الأخر. صوتاً رقيقاً كسمفونية تعزف لحناً ناعماً في محيط من الرومانسية وشفافية الروح . ” السلام عيلكم. أنا صاحبة الرقم. دعني أتحدثُ عن نفسي. أشكرك لأنك حدثتني عن أشياء كثيرة تخصك ولا أدري لماذا قلت لي كل تلك الأشياء؟” تنهدتْ بصوت مسموع بعدها أردفت قائلة ” أنا سيدة قذف بها الزمن إلى عالم من الترقب والضياع وضاقت بي كل السبل رغم بحبوحة الحياة التي أرفل في عزها. إرتديتُ ثوباً مزقته عواقب الزمن والأقدار. لا أريد الإسهاب في القول عن نفسي كي لا تقول عني أحاول التصنع وإحتذاب الأخرين. قبل أن أُكلمك بقليل أرسلت لك صورة شخصية عن طريق البريد الإلكتروني وأتمنى أن تشاهدها حينما تتوفر لديك الفرصة . أنا الأن وحيدة في هذا العالم الدامي. فقدتُ قسماً من أعزائي في ظرفٍ مفاجيء لم يكن في الحسبان. عمري واحد وثلاثون عاماً. جئتُ من لندن قبل سنتين وعملت مدرّسة في إحدى كليات بلدنا المنهار.”
سكتت قليلاً بعدها أردفت بصوتٍ حزين ” كانت حياتي شعلة متقدة وحماس لا ينقطع. تزوجت عميد الكلية التي أعمل فيها على الرغم من أنه يكبرني بخمسة عشر عاماً . كان رجلاً فريداً من نوعه. يحب الحياة والطلاب والجامعة. مثقف لدرجة لاتخطر على ذهن أي إنسان. رزقتُ منه طفله تشبه وردة الصباح عند انبثاق الفجر. خرجنا يوماً لتناول طعام العشاء في أحد مطاعم العاصمة. دون سابق إنذار انفجر المطعم واسودت الدنيا أمامي. لم أفق إلا بعد شهر أو أكثر في إحدى مستشفيات العاصمة. تمزق جسد ابنتي إلى شظايا صغيرة وطار جسد زوجي في الفضاء ولم نعثر إلا على جزءاً من نظارته وأجزاء قليلة من ربطة عنقه الأنيقه. أنا الآن مقعده.”. أخلدتْ إلى الصمت مره أخرى. كنت أسمع نشيجاً متقطعاً أعطاني دليلاً قاطعاًعلى أنها كانت تبكي وتندب حظها الضائع، بعدها استطردت قائلة” : الحمد لله على كل شيء. نظري لايزال سليماً ويداي كذلك. جالسة الآن على كرسي متحرك. لدي بيت كبير وثلاث سيارات مارسيدس مختلفة الألوان. لو خيرني شخص ما بين بيتي الكبير وسياراتي وأموالي مقابل القدرة على السير مجددًا لوافقت على التنازل عن كل ما أملك. لايعني هذا أنني متذمرة أو فاقدة الإيمان ولكن هذه هي الحقيقة. الإنسان لايعرف معنى السعادة التي كان فيها إلا حينما يفقدها. لايعرف معنى النعمه الإلهية العظيمة التي أغدقها الله سبحانه وتعالى عليه إلا حينما يفقد عضوًا من أعضاء جسده. لقد ضحكتُ كثيرًا مع نفسي حينما أخبرتني بأنك تحلم بأمتلاك سيارة من الطراز القديم. لديك أشياء أحسدك عليها وأتمنى الحصول عليها. وقتي الأن موزع بين القراءة ومشاهدة التلفاز. تقدم لي أحد الأقرباء للزواج ولكني رفضت ذلك بشدة. هذا الشخص يحاول الإقتراب مني كي يستحوذ على الثروة الطائلة التي أملكها. من حقه أن يحلم بهذه الثروة كما تحلم أنت بالحصول على سيارة قديمة. شيء مضحك هذا الزمن الصعب. أحدهم يحلم بسيارة والأخر يحلم بساق ٍ سليمة. أنا لا اريد أن أستدر عطفك ولا أن أغلفك بغلافٍ من الحزن والإستعطاف. طالما أنت بدأت لعبه كي تقضي وقتاً ما في مكانٍ ما ، عليك أن تستمر فيها لحين إنتهاء جميع الأشواط المقررة لهذه اللعبة. من الجبن أن تنسحب الأن”.
بدأت تسعل بصوتٍ مسموع وكأنها أُصيبت بأختناق مفاجيء. عادت للحديث وهي تطلب المعذرة لهذا الإنقطاع المفاجيء. ” لماذا لانجعل هذه اللعبة مفيدة لكلانا؟ من يدري قد أستفيد منك وقد تستفيد مني؟ هذه هي الحياة أخذ وعطاء. عفواً هل تريد الإستمرار في هذه اللعبة، عفوًا أقصد هذه المكالمة؟ أم نؤجلها إلى زمن أخر؟ الوقت أصبح متأخر ولديك عمل غداً. الحقيقة هذا ما أفضله أنا لأنني بدأت أشعر بالإرهاق. إذن إلى اللقاء”. أغلقتْ الهاتف دون أن تسمع مني ردًا بالرفض أو القبول. كان ذهني مشوشًا لدرجة كبيرة جداً. هل أن ما قالته هذه السيدة يمت للواقع بأي صلة؟ أم أنها كانت تريد أن تلعب معي بنفس الطريقة التي بدأتُ بها أنا هذه اللعبة؟. لم أصدق أي كلام من حديثها الغريب. علمتني الحياة أن لا أُصدق كل ما يُقال أمامي. يجب أن أتحرى بعض الشيء قبل التصديق. قلبي كان مضطربًا ممزقاً بين الواقع الإنساني الذي أدعته هذه السيدة وبين الواقع الفعلي للحياة. لم أشعر بالوقت الذي كان يمر بسرعةٍ فائقه. تقدم الليل وبدأ يزحف نحو الفجر. اشتد البرد فجأة وأصبحت أطراف يدي ترتعش من شدة برودة الطقس الثلجي. من بعيد ظلت أصوات نباح الكلاب تأتي اليّ من خلال الصمت الذي كان يلف المكان. نهضتُ بتثاقل وتوجهت نحو الطابق الثاني في البناية الشاهقه حيث المكان الذي أهجع فيه. كانت الغرفة قد أصبحت مكاناً رتيباً مملاً بسبب تصرفات أؤلئك الشباب الذين لايكفون عن صياحهم وصراخهم الذي يمزق الأعصاب. دخلت الغرفة عند الفجر وكانت تسبح في ظلامٍ دامس فقد أطفأ الشباب أنوارها. فرحت في داخلي وأنا أتحسس طريقي في الظلام نحو فراشي الوثير. في اللحظةِ التي حاولت فيها إغماض عيناي المرهقتان إنسلت الى مسامعي دمدمة رتيبة في الظلام” آه..إنه الفتى النحيف القادم من أعماق اللاشيء. هو يتحدث الى صديقته العاهرة عبر الهاتف النقال تحت البطانية . حاولت أن أركز على ما كان يقوله لصديقته….آه..ياللقرف، إنه يسألها أسئلة تخدش مسامعي وتحيل روحي إلى بؤرة من الغضب والحنق والحقد على كل شيء في حياة أؤلئك الشباب. إعتاد هذا الفتى على الحديث مع عاهرته كل ليلة بعد منتصف الليل حتى الصباح. لو أنه كان يبذل كل هذا الجهد وهذا الزمن في مطالعة بعض الدروس المفيدة لكان الأن من عباقرة التاريخ. قررت في داخلي أن أنهض وأنقض على عنقه والغي حياته من هذا الوجود إلى الأبد ولكنني تراجعتُ في اللحظة ألأخيرة كي لا أدمر حياتي وأفقد عملي الذي عانيتُ الكثير من أجل الحصول عليه.
سحبت البطانية فوق رأسي أفكر من جديد في حديث تلك المخلوقة الأنثوية التي دخلت حياتي بسبب لعبة سخيفة اخترعتها في لحظة حزن. الغريب أنني بعد لحظات وجدت نفسي غارقًا في نومٍ عميق أنساني معاناة النفس والأرواح التي فُقدت في لحظة من لحظات الزمن الغادر. انغرستُ في عملي الطويل المرهق لدرجه أنني نسيتها بعض الشيء. في الساعةِ العاشرة ليلاً من اليوم السادس دق هاتفي النقال وجاء صوتها من جديد يعزفُ لحنًا حزينًا في ليلةٍ متربة ” : هل لديك وقت للحديث؟”. دون تردد قلت لها بأنني مشغول جداً في تلك اللحظة وطلبت منها أن تكلمني عند منتصف الليل. كنت أود الإستعداد لها ولحديثها.
يتبع………..