18 ديسمبر، 2024 10:48 م

السياسي الفاشل : محنة الصرّة السياسية بالعراق !

السياسي الفاشل : محنة الصرّة السياسية بالعراق !

في معالجة مايسمى بالانسداد السياسي الذي اتسم به الواقع العراقي بعد الانتخابات , ينبغي معرفة جذور المشكلة قبل تقديم الحلول الجاهزة التي هي كالعادة تكون مشفقة أحيانآ من الناحية النفسية وتتمثل بالمبادرات من مؤسسات رسمية او شخصيات سياسية لاتتميز بالرؤية الفلسفية الجديثة التي تستطيع بها ان تطيح بأركان التعقيد السياسي الذي وصلت اليه المكونات السياسية بأيديها , ولو توفرت هذه الرؤية لكانت جديرة بالإلتفات اليها وقبول مقترحاتها من قبل الجميع ,
إذ كانت طريقة بناء الأدوات السياسية الأولى التي تستطيع ان ترسم المشهد السياسي غير بنّاءة في تمظهر احزاب تكوّن النموذج الذي يغير كل الفوضى التي حدثت بعد 2003.
وما نفصّله هنا ليس قصة سردية لشخصيات من قرون مضت , بل قصة اجيال كانت بحاجة الى روح التمرد على الفساد بكل اشكاله , إلا انها لم تكن مؤهلة بالتعبير عن التزامها للشعب من خلال ماتقدمه من انجازات تعوضه عن خيبات حكامه الطغاة ولتتميز ,هي نفسها , عنهم بالقيم الإنسانية والعلمية , بل اصبحت النموذج الطليعي السيء الذي خلق الانتكاسات والإنتقادات ليس لها فحسب بل للبلاد يوما بعد آخر, وماتداعيات مشهدها السياسي الحالي إلا صورة لحصاد الفشل الذي جاءت به .
فبعد فترة قصيرة على سقوط النظام البائد بقرار امريكي , تشكلت صرّة للقوى السياسية في خضم الفوضى وعدم الإكتراث من قبل الدولة او القوات المحتلة , وهذه الصرّة كما يراها خبراء السياسة هي خلطة متنوعة من هياكل بشرية غير ذات صلة بأي ايديولوجية , تجمعت من حطام الجياع والمحرومين والمضطهدين , ومن ادباء وتدريسيين واصحاب مهن وهاربين من ظلم النظام البائد وتفالة من بقاياه ومن الأنتهازيين والمجرمين واللصوص الناقصين بالعهود .
جمعت هذه الهياكل افكار ومبادئ وقواعد مختلفة بانت منها , بمرور الوقت , فئات تسعى الى الحكم فحسب لأهداف ذاتية منذ التشكيل ولكن من دون ان تصنع لا باليسر ولا بالعسر شيئآ يجعلها وحيدة من الأشباه في الجانب السياسي العلمي ليرفعها الى مايتمناه الشعب . أما الفئات الأخرى فلها ادوار سنبينها لاحقآ .
ولعل القارئ ينبهنا الى ان هناك مكونآ واحدآ على الأقل فيها , يقف وراءه فيلسوف درس المجتمع العراقي ونبه اتباعه الى ان كل مايؤثر في نفسية الإنسان من قراءات متنوعة ذات صلة بسلوكه كإنسان فإنها اولآ ستصيغ شخصيته نحو الفضيلة بسماتها وهي الصدق والكرم والشجاعة, ثم تنعكس هذه السمات في سياسته وافكاره بالحياة . فكيف إذن تحال الى هذا الشكل من التسمية ؟
الجواب لهذا الجانب هو ان غالبية مكونات هذه الصرّة لاترتبط جميعها بميثاق عمل أو بفلسفة تحيلها الى ان تكون احزاب ذات مخرجات سياسية رصينة تجعل من الشعب مدينآ لها بالمنجزات , لأنها لم تتطور الى انتاج قيادات مستقبلية لا من ذكر ولا من انثى ليتعزز بهم دورها في المجتمع .
في هذا المضمار تزعم الدكتورة اميرة حلمي مطر في كتابها ” الفلسفة السياسية من افلاطون الى ماركس ” ( أن الفيلسوف يأخذ على عاتقه مهمة الكشف عن الحل الأمثل لكل الصراعات والازمات المحيطة بمجتمعه , لأن غاية الفلاسفة هي حسن توجيه الساسة والمشرعين ) .
في هذه الملاحظة تبرز اهمية وجود المرجعية الفلسفية لأي مكون سياسي , لأنها ترى ان السياسة هي فلسفة تحقيق العدل والحرية والمساواة , ولكنها في الصرّة السياسية تجدها غير واضحة بالعنوان .
لذلك لاغرابة ان نرى هذه القوى وقد تأطرت تحت تسمية دارجة هي ” اطراف العملية السياسية ” , ولكن لازال البعض يصر على تسميتها بالمكونات السياسية . فهل ياترى بغضآ بها ؟ أم ماذا ؟
الجواب : بالطبع , كلا .
لا احد يبغض شعبه , اما مفردة المكونات فهي مفردة شائعة دوليآ تطلق على أي هياكل بشرية تساهم في إدارة الدولة , ولكن النهوض بعبء شعب عريق لخلق مشهد سياسي يليق به في زمن الخطوب بهذه الهياكل المتفرقة يكون كالذهاب الى مكتبة بلا كتب , وهذه هي محنة الصرّة السياسية .
اما في دقة الوصف فإنها صرّة او بُقجة كما تتداولها اللهجة العامية العراقية , تشكلت على عجل واظهرت شفاهيآ بعض من نواحيها الأجتماعية العامة التي تنتمي اليها , فضلآ عن عطاءها الإنساني الذي وعدت به انها ستدفع بالمجتمع العراقي الى الامام ليكوّن النموذج الذي ستؤسس على اكتافه بنى الديمقراطية الجديدة ولو بالنمط الذي جاءت به امريكا بعد احتلالها للعراق أو بالنمط الذي دعت اليه منذ عقود جميع شعوب العالم الحر , أما من ناحية عطاءها الأدبي فلا احد من المتفرقين ينتسب الى منهل العلوم العالية .
وليس مستغربآ منطقيآ أو عاطفيآ ان يكون موقف امريكا من هذه الصرّة السياسية هو الرفض من ناحية , والمدافع امامها عن العراق وسيادته لتذر الرماد في عيونها من ناحية اخرى , رغم انها معروفة بكرهها وتحاملها على كل الشعوب التي تدعو الى معارضة سياساتها ومناهجها الإستعمارية الداعية الى الهيمنة وإخضاع الشعوب ومنها بالطبع شعب العراق .
ولكن مع ذلك فقد رأى الكثير من المراقبين ان هناك موقفآ آخر وراء ذلك , إذ عمدت امريكا اولآ الى النظر الى مراحل تطورها والإصغاء الى مدلولات خطابها السياسي , والى قصة دور المكونات في العملية السياسية من اجل دراسة السمات والألفاظ السياسية الخاصة بها ليتسنى لها ان تنسبها الى مصادرها الأصلية البارزة والمخفية لتحديد من يقف ورائها وخاصة بالتمويل , وما هو جوهر نشاطاتها على المستوى الأمني والإقتصادي وتأثير جهودها على مستقبل العملية السياسية الجديدة بشكل عام وعلى مصالحها ومصالح التحالف الغربي الذي تقوده في العراق بشكل خاص , لتأخذ الحيطة والحذر جراء ذلك ,
اما اخطاء الصرّة السياسية فيراها البعض كانت في انشطار بعض مكوناتها عن اصلها في اطوار تطور اختلافاتها البايولوجية ان صح التعبير , والبعض الآخر يرى ان اخطائها مستمرة بالإنتاج وخاصة بالهمج اللصوص منذ 2003 , وفي تبعية بعض المكونات الى جهات اقليمية وانفلات من طأطأ برأسه للصوصية ليخرج هؤلاء جميعآ عن مدارالصرّة .
وقد اصبحت هذه الأخطاء بالنسبة لأمريكا كالدرع الذي يصد عنها مسؤولية التداعيات السلبية في المشهد السياسي العراقي بحجة أن الصرّة تأسست في البيئة العراقية ومن ثروتها البشرية , لذلك فهي تستثمر ذلك لتعمل تحت جناح اخطائها على افساد وتدمير أو على الأقل تأخير كل شيء ينطوي على برامج للتنمية في العراق وخاصة في المجال العسكري , ناهيك عن تعزيز وجودها العسكري غير الشرعي .
بعد توالي حقب الحكومات العراقية العديدة برفقة هذه الصرّة منذ 2003 , لم يرَ أي من المراقبين اي تغيير منهما سواء في التفكير الأستراتيجي او في صنع القرار الذي يخدم البنى التحتية للبلاد على المدى البعيد , بل كل مايراه هو بقاء هذه الصرّة على قيد الحياة فحسب شوكة في خاصرة الحكومات , تارة تنتقد وبخشونة صدور اوامرالحكومة علنا حتى لو ينهال منها رضا الدين والشعب , وتارة هي نفسها لاتعطي مااخذت من غنائم غزواتها على عقارات ومفاصل البلاد لتعزز بذلك صدق المقال في خطابها السياسي الى جانب العدل والوطنية ليكون درسا لقواعدها الشعبية عند الجلوس في اجتماعات الرأي والأدب .
والحكومات التي كانت تحكم البلاد برفقة هذه الصرّة المثقلة بالهياكل البشرية , وجدت بالتجربة ان في الصرّة فصائل مسلحة لاتحترم قراراتها , ولأن الحكومة لا تمتلك الوسائل التي تفرض بها العقوبات عليها لترضخها الى الطاعة , لذلك اختارت التعامل بالمثل وفق مبدأ ” إحترم تُحترم “.
ولكن عندما يكون الأمر بهذا الشكل , فهذا يعني ان الحكومات كانت ولاتزال تسيس الرعية بإستراتيجية الفصل السياسي على وتيرة الفصل العنصري التي كانت سائدة في جنوب افريقيا قبل رئاسة مانديلا , هذا الفصل بين سياسة الحكومة وسياسة المكونات هي التي شجعت الهاربين واللصوص والمجرمين والمنفلتين المسلحين المنخرطين داخل هذه الصرّة للقيام بدور ممارسة مبدأ لاعدالة الدولة في مقابل لاعدالة المكونات التي كانت سائدة بين احزاب المعارضة في جنوب افريقيا فقامت بالقتل والحرق والسرقة , بينما وقفت ايادي كل فرد من افراد الشعب مغلولة , أما لسان الفرد فمعقود عن الإدلاء بالحقيقة او نشرها بالاعلام خوفآ من ان يكلفه ذلك حياته على ايدي هؤلاء .
لذلك يرى المراقب ان مايجري بالخفاء هو لا الحكومة تحترم المكونات ولا المكونات تحترم الحكومة , وقد تمثل ذلك في خرقها لسيادة البلاد مرات عديدة خلال مسيرتها السياسية , ولولا وجود التأثير الأمريكي بشكل خاص والتأثير الخارجي المتعدد بشكل عام لأخلقت سياسة الفصل هذه اسبابآ للحرب بينهما , وقد بدت فعلآ بوادر تلك الحرب بالإستعراضات العسكرية خارج المنطقة الخضراء , وبالهجوم على بيت رئيس الوزراء بسبب معارضتها لقرارات الحكومة في حقبة الكاظمي , إلا ان الذين نادوا ودعوا الى ذلك لم يلقوا صدى لا من الداخل ولا من أي طرف من اطراف القوى المؤثرة .
مما تبين في اعلاه نستخلص ضمنيآ ان صرّة المكونات منذ مرافقتها للحكومات ولحد الآن تريد الإبقاء على قواعد اللعبة السياسية التي تلعبها مقترنة بنظرية المنفعة المتبادلة كما كانت منذ 2003 , اي ترى ان الأمر الذي يدفعها الى احترام الحكومة هو الإشتراك معها بالعقد السياسي الذي تبين فيما بعد انه مبدأ ” المحاصصة ” التي جعلوها حجابآ بينهما لايهتك سواء كان ذلك ظاهريآ او ضمنيآ وهو يختلف عن مفهوم العقد الإجتماعي الذي يكون عادة بين الحكومة وبين الشعب كما هو معروف .
والمحاصصة مفهوم سياسي ضمني معناه ان المكونات هي التي تدعم شرعية الحكومة من خلال التواجد بينها , لذلك ترى تواجد ممثليها في كل مفصل من مفاصل الدولة , فهي تراقب عمل الحكومة مثلما الحكومة تراقب عملها , ولكن اسوأ الأمور التي قامت بها الصرّة السياسية منذ التشكيل هي انها لم تكن مؤهلة في فن إدارة الدولة لأنها لم تعط الفرصة الى العلماء والمفكرين والأدباء ان ينخرطوا بالتحكيم في القرار السياسي الصحيح الذي تتخذه , لذلك جاءت قراراتها من دون منطق كاف في فهم تداعيات اعمالها , وهذا ينطبق تمامآ على الحكومات ايضآ .
لأنها بالأساس , اي المكونات , لاتملك صفحة التأسيس , وصفحة التأسيس نقصد بها النسب الأيديولوجي الذي تنتسب اليه , بل تجد معظم عناصر خلطة المكونات تتبنى الجهل , بينما العلم هو حلية السياسي ولجام النفوس الجامحة وهو كالدين الذي يحكم العقل والغرائز , وذلك بسبب تهميش وتعليق عمل مكون المفكرين والعلماء والأدباء من اداء مهامهم خوفآ منهم اذا إستنهضوهم وقاموا بثقل اعمالهم وخاصة إذا كان الأمر صادرآ عنها , فأن هؤلاء سيرثوهم وما على قادة الصرّة إلا ان يقعدوا مدحورين , وهذا يخالف مايضمرون , أما إذا كان امر استنهاض العلماء والمفكرين صادرآ من جهة خارجية وتبين انها خاضعة لها فتلك هي طامة كبرى على الجميع .
إن مشاهد الجهل بالسياسة كثيره , يراها الشعب والحكومة معآ ولايوجد هناك قائم قوم لهما يرون في مقامه العدل والإنصاف جامع ليشكون اليه محنة الصرّة السياسية سوى المرجعية الدينية الرشيدة , إلا انها رغبت بعدم التدخل بالشأن السياسي الحكومي لعدم جدية المكونات بالعمل الإصلاحي , ولا الصرّة نفسها تبرح مادأبت عليه فتولي وجهها نحو مصالح البلاد بدلآ عن مصالحها , وتكفّ عن رمي سهام العداوة والإتهامات كل يوم على الحكومة من ناحية وعلى بعض مكوناتها وخاصة في ازمات البلاد من ناحية اخرى , وآخر هذه المشاهد هي الإخلاف بالأستحقاقات الدستورية رغم انها من سنّة الأنتخابات التي تمزقت بها احلام الشعب .
لنعود الى امريكا لأن في القول بعضه مؤجل , وموقف امريكا في مجابهة الصرّة السياسية منذ ميلادها والى يومنا هذا كان في تنصيب مرصدها الأممي المتمثل ب جنين بلاسخارت , فهذه المرأة يمكن ان نستدل منها رغم كونها كالضبية القليلة التحرك , لكنها تعكس حالة الشجب والنفور من مشاهد الجهل بالسياسة والفشل في كل مرة بالانتقال من حالة السكون الى حالة الحركة , إذ حتى الصلاة لها وقت محدد وتنقضي ليبحث الإنسان عن رزقه على حد قول احد المفكرين , والمغزى في ذلك ان الإستحقاقات الدستورية التي وقع عليها الجميع يجب ان تحترم مواعيد بدأها وانتهائها .
ولكن هل بلاسخارت تعكس في هذا موقفآ أمريكيآ فتروّج له برسائل موجهة الى فئة سياسية معينة ؟ ومن هي تلك الفئة ؟!
ليس المهم ان يعرف القارئ ماهي وجهة هذه الرسائل , لكن المهم ان يعرف ان بلاسخارت كالممثلين اآخرين في الدول الساخنة , هي مرصد امريكي لجمع المعلومات عن الفشل السياسي الذي يمكن ان تستغله امريكا كما قلنا لتضمن هنا بالعراق أنه في الطريق الصحيح الى التدمير. ولكن هل يرضي هذا المكونات الرصينة في الصرّة السياسية ان تبقى سجينة في وحل المعضلة ام تختار الخروج منها لتبرهن انها ضد مرصد بلاسخارت ورسائلها الموجهة ,
وضد انانية نفسها وتحترم شعبها وتدفع به الى الأمام كما وعدت وتتعاون على الأقل مرة واحدة كل سنة لتدفع عن نفسها محنة وجود السياسي الفاشل بين مكوناتها ؟! أم انها كبعض مكوناتها , لا تريد ان تجتذب لنفسها القرار الذي يحبه الشعب , بل تريد الحفاظ على حجاب المحاصصة ان لا ينتهك ليبقى الذم عليها ككل بينما محنتها في الجزء المتمثل بالسياسي الفاشل الذي يرتع في مسارحها ؟