-1-
المعروف انّ مواقف الدول وقراراتها تدور –في الغالب- مدار مصالحها، والنتيجة الطبيعية لذلك ، أنْ تكون ” الاخلاق” أول ضحايا هذه “الاستراتيجية” ..!!
والسياسة على ما قيل – لا قلب لها – …!!
-2-
والغريب أنْ يحتذي السياسيون المحترفون، حَذْوَ الدول في تغليب (المصالح) على (المبادئ)، خلافاً لما تقتضيه الموازين الشرعية والقانونية والاجتماعية ..!!
ومن هنا يمكن القول :
اننا أمام خطّ بيانيّ شديد التذبذب يصوّر زئبقيتَهمُ ..!!
-3-
انّ أشد المعارضين لاقامة (الأقليم) –بالأمس- عاد اليوم ليكون في رأس قائمة الداعين الى إقامتها !!
وانّ المتشدقين بوجوب مقاومة القوات الأجنبية الموجودة على تراب الوطن ، بدأ صوته يلعلع بضرورة توجهها لأراضينا اليوم ..!!
والأمثلة في هذا الباب ، كثيرة معروفة لا حاجة الى استعراض المزيد منها .
-4-
ولعلّ هذا المنحى الحافل بتذبذب المواقف هو الذي أشاع القول بانّ المتغيرات في السياسة أكثر من الثوابت ..!!
-5-
وليست هذه الحالة ، حالة التذبذب في المواقف ، بجديدة على الاطلاق …
انها ظهرت منذ بداية عشرينات القرن الماضي ، في العراق .
-6-
ظهر التذبذب في المواقف على لسان العديد من الشخصيات العراقية البارزة
هذا الزهاوي – جميل صدقي – الشاعر الفيلسوف ، رثى الأبطال الشهداء في ثورة العشرين فقال :
ماذا بكثبان الرميْثة مِنْ غطارفةٍ جحاجحْ
ولِمَنْ أُقيمتْ في البيوت على كرامتها المناوحْ
ديوان الزهاوي /ص320
وحين وصل (السر برسي كوكس) الى بغداد في 11/11/1920 وقف الزهاوي مُرحبّا به ليقول :
عُدْ للعراق وأصلحْ منه ما فَسَدَا
وابثثْ به العدلَ وامنحْ أهلَه الرغدا
الشعب فيه عليك اليوم معتَمِدٌ
فيما يكون كما قد كان معتمدا
ديوان الزهاوي ص 176
وفي هذين البيتين من الملق والمجاملات الرخيصة على حساب الشعب والوطن ما فيهما ..!!
وأين هذا من ثنائه الحار على الابطال الشجعان ثوار الرميثة ابطال ثورة العشرين – ؟!!
-7-
واذا كان (الزهاوي) شاعراً يجري على ما جرى عليه الشعراء الذين قيل في شعرهم :
(اَعذبهُ أكذبُه)
فان هناك من هو أكبر من (الزهاوي) مكانة وشأناً ، تذبذبت موافقه أيضا
هذا النقيب الكيلاني عبد الرحمن : سألتْه (المس بيل) عن رأيه في اسناد عرش العراق الى أحد أنجال الشريف حسين أمير مكة فردّ عليها قائلا :
” أما بالنظر الى الحكومة العراقية فان مَقْتي للادارة التركية الحالية معروف لديكم إلاّ أني أفضّل عودة الترك ألف مرّة على أنْ أرى الشريف أو أحد انجاله يحكمون هذه البلاد “
تاريخ الوزارات العراقية/ج1/ص39
فالرفضُ لمجيء الشريف أو أحد أنجاله – وكان المرشح فيصل الاول بالذات – رفضٌ مطلق لا مجال فيه لمراجعة أو مداولة ..!!
ولكننا نقرأ في جواب (الكيلاني) على برقية أرسلها له الشريف حسين بتاريخ 17 حزيران /1921 ، بشأن قدوم ولده فيصل الى العراق ،شيئا آخر ، يُغاير كليّاً ما أجاب به (المس بيل) حين سألته عن رأيِهِ في الشريف!!
قال الكيلاني في الجواب :
” لحضور صاحب الشوكة والعظمة جلالة الملك حسين سلطان الحجاز أيد الله شوكته لقد أخذت بيد التكريم والاجلال برقيتكم المشعرة بتوجه سمو الأمير ، ذي القدر الخطير ، الأمير فيصل حفظه الله الى العراق، وقد ابتهجنا سروراً من هذه البشارة، ودعونا له بالسلامة، وصرنا ننتظر قدومه ساعة فساعة شوقا للقياه ،
فَبِمِنّه تعالى عند قدوم سموه ينادر الى القيام بالواجب علينا من خدمته ،
حيث اتحاد النسب والحسب القديمين يقضيان بذلك على الداعي .
وأما الأمر السامي الملوكي لهذا الداعي ، بالسعي جميعا فيما يستلزم راحة البلاد ، فهو واجب الامتثال ، على كل حال ، لاقتضاء الحس الوطني ، ونسأل الله التوفيق ))
إنّ (النسبة) بين جواب الكيلاني عن سؤال (المس بيل) والبرقية الجوابية التي بعث بها الى الشريف حسين هي (التباين) – على حد تعبير المناطقة – فمن الرفض المطلق الى الترحيب المطلق ، والعمل (بابتهاج وسرور) الى (القيام بالواجب) ..!!
-8-
ولعل هذا التذبذب في مواقف السياسيين المحترفين، هو الذي أدّى الى انخفاض مناسيب التفاعل معهم اجتماعياً، فثمة حاجز كبير يحجزهم عن النفاذ الى قلوب الناس، ووجدان الجماهير ، ذلك ان الجماهير تعشق المبدأييِن المُضحين لا الانتهازيين المتذبذبين ..
-9-
وشتان بين السياسة في أفقها الرسالي، حيث تكون بمثابة العبادة، وبين السياسة في أفقها الاحترافي، حيث تكون وسيلة للحصول على المكاسب والامتيازات الشخصية والفئوية ….