23 ديسمبر، 2024 3:44 م

استوقفت على كلمة قالها رئيس اوروغواي “خوسيه موهيكا”: “من يعشق المال لا مكان له في السياسة”.

وقبل ان اعلق على هذا النص ، لابد من تعريف يسير بهذا الرئيس، لأن الكلمات لم تعد مصدر ثقة لدى الشعوب، ما لم ترافقها فعال حقيقية ، وقد أدمن على سماع الكلام المفعم بالنزاهة والحرص على المال العام، فيما الواقع فساد في فساد ، لذا لم يعد بالامكان ان تغشنا العبارات او تخدعنا الكلمات ، ما لم نلمس خطوات ذلك عمليا.

الذي اود ان تعرفه ان الرئيس موهيكا يوصف بأنه:”افقر رئيس في العالم”، بعد ان اتخذ نمطاً في حياته ، جذب انتباه العالم اليه منذ توليه رئاسة البلاد في عام 2010، حيث انه لم ينزل في قصر من قصور الرئاسة، ولم يضع لونا لمنطقته التي يسكنها ، ويطوقها بالرجال المدججين بالسلاح، والكتل الكونكريتية ، والاجهزة التفتيشية الالكترونية، وانما إكتفى بالسكن في منزل متواضع يقع على طريق ترابي، نعم ترابي، لعله يريد ان يذكر نفسه انه من تراب، او يحاول ان يذكرها بالمناطق والاحياء التي يعيشها شعبه ، حتى لا يتميز عنهم، او ربما تكن دافعا لقيادة حملة إعمار، لكن ليس على شاكلة الحملة التي وعدنا بها قبل 11 سنة، وأقيض من دبش، كما انه يقود سيارة من نوع “بيتل” طراز 1987، ويتبرع بـ90% من راتبه للفقراء ، فيما يحسن مورده المعيشي من   بيع الزهور التي يزرعها مع زوجته العضو في مجلس الشيوخ.

لاأدري عندما يقرأ مسؤول من مستواه، او من هو دونه، في بلادي، سيرته، ماذا سيقول عنه، بالتأكيد سوف لن يراه أنموذجاً يحتذى به، أو أسوة يتمنى أن يكون مثله، ولعله يسخر منه، ويصفه بالقشمر، لأن السلطة من وجهة نظره ليست وظيفة ومسؤولية، وإنما جاه ومال، هذه، بعكس الرئيس موهيكا الذي لم يدر في خلده أن يحول المنصب الذي يعتليه الى منجم من ذهب، يضعه في مصاف رجالات العالم الأكثر ثراءً ، وانما إستشعر عظم المسؤولية الى حد التنازل عن جل راتبه، وبحث لنفسه عن مورد آخر من غير السياسة، ليحسن به دخله ، لذا فهو قشمر في نظر الفاسدين، وتجار السياسة.

ومن هنا، تتضح القاعدة التي وضعها لتحديد وظيفة رجل السياسة والسلطة، فهي ليست لجني الاموال، او الثراء من خلال المنصب، كما انها ليست الوسيلة للبقاء على الكرسي، او ادامة تدوير ولايته، مرة بعد اخرى، باستخدام سلطة القرار السياسي ، وكذلك القضائي والامني ، وهلم جراً.

ولرب “متنطع” يرى حالة الافقار ليست دليل رقي وتقدم، خصوصا عندما يكون على مستوى رئيس دولة.

قد ترانا نتفق بعض الشيء مع هذا القول، لكن من يعطي الحق للرئيس في العيش بمستوى يختلف عما يعيشه شعبه؟.

غير ان الخطأ الفادح عندما يتصور اصحاب هذا الرأي ان حالة الغنى من متطلبات الوجاهة، التي يمثلها قصر فاره ، وموكب  طويل من سيارات الدفع الرباعي، وطوق  امني لا عد له ولا حصر.

من المؤكد ان الرئيس موهيكا لم يشعر لحظة بفقدانه هيبة المنصب لمجرد سكنه في منزل صغير، قرب شارع ترابي، كما لم يقلل من شأنه ذلك الوصف بأنه الرئيس الافقر في العالم، بل العكس زاده ذلك شرفا بين الشعوب ، بدليل انه اصبح ظاهرة للقياس والمقارنة مع حكام آخرين، اتخذوا من المصب وسيلة للثراء، مثلما اتخذوا من فقر شعوبهم وسيلة للقهر والتسلط، على قاعدة (جوّع شعبك يتبعك).

لا نريد تعميم تجربة موهيكا على واقعنا ، بل لا يمكن ان يظهر موهيكا في نظامنا السياسي الحالي، في ظل لجة الصراع على المنصب والكرسي، لكن دعونا نمني النفس ان لا تتحول السياسة الى تجارة رابحة، رأس مالها ابن البلد.

الفساد ظاهرة اخذت بالتضخم والاتساع، برغم وجود هيئات ومؤسسات نزاهة ورقابية عديدة، لان الفساد خرقها  وخرق كل المنظومة السياسية، وبالتالي يصبح تحذير موهيكا “من يعشق المال لا مكان له في السياسة”،   الخطوة الاولى لمكافحة الفساد وتقليص ترتيبه بين الدول الاكثر فساداً.