23 ديسمبر، 2024 10:56 ص

السياسة والأخلاق

السياسة والأخلاق

يتخذ البعض، سواء كانت دول او تنظيمات سياسية، من الديمقراطية شعارا كواجهة زائفه لتغطية الأفكار والممارسات الدكتاتورية بمختلف اشكالها سواء كانت فردية او دينية او قومية، كما هي سائدة في بعض دول الشرق الأوسط الى يومنا هذا. وما يتميز به اصحاب هذه الممارسات من روح شريرة متعطشة لشهوات التسلط والبطش والدمار، هو استخدام شتى انواع الوسائل اللاأخلاقية لتحقيق غاياتهم السياسية.

ان معايير الأخلاق لا يمكن فصلها عن معايير السياسة في الأنظمة الديمقراطية لانها جزء مهم بل رئيسي من بنائها واستمراريتها.

ان لفظ السياسة يعني “فن الحكم” الذي يشمل الأساليب التي يقتضي استخدامها من قبل الأحزاب السياسية والتنظيمات والافراد في ادارة شؤون الدولة او الوصول الى دفة الحكم، ويعتبر كتاب “السياسة” للفيلسوف الإغريقي أرسطو Aristotl (322-384) من المؤلفات الاولى التي تناولت هذا العلم والذي بحث فيه نظام المجتمع وعلاقات الدولة بالأفراد والدول الاخرى.

والجهة المسؤولة عن ادارة الحكم (الحكام)، يقتضي ان تختص في توزيع القيم على المجتمع وإعطاء الاولوية للطاقات البشرية و الثروات الوطنية التي تمكن اي مجتمع من تحقيق امال افراده وإشباع حاجاتهم الاساسية.

واعني بالقيم الاجتماعية، العادات والتقاليد الاجتماعية والمبادئ الاخلاقية والمعتقدات الدينية السائدة في مجتمع ما.

والنظام السياسي سيكتسب قوته ومقدرته كسلطة عليا، متى ما استطاع من كسب ثقة الأفراد بقراراته السياسية التي تخدم مصالحهم ومصلحة الوطن والنابعة عن ضمير انساني يتماشى مع القيم الاجتماعية السائدة.

فرجل السياسة يقتضي ان يباشر نشاطه بفن وحذف واتساع أفق وإلمام تام بالاحداث وتطورات العالم وآفاقه الواسعة والتقدم العلمي والتقني، ويتعين ان يكون هدفه رعاية مصالح المواطن والسعي الى تحقيق ما هو صالح لهم، والتخفيف من معاناتهم الاقتصادية والاجتماعية، وكل ما يعكر متطلبات الحياة، واقرار السلام وفض النزاعات الداخلية والخارجية بالطرق السلمية، والابتعاد عن الحروب، وتوثيق عرى التعاون بين مختلف الشعوب، وان يعطف على مواطنيه عطف الأب على ابناءه، وان يعمل على تحقيق

ما تحتاج اليه بلاده من إصلاح وتعديل لدستورها وسياستها وإدارتها.

اما الأخلاق فهي مجموعة مبادئ يمليها الضمير الإنساني الحر، ويؤازرها المجتمع المحلي والدولي، كاحترام العهود والمواثيق، واستخدام الرأفة في المعاملات، وان الاخلال بهذه المبادئ يثير الرأي العام ضد مرتكبيها.

فالضمير الاخلاقي هو نتاج المعتقدات والعادات والتقاليد السائدة في المجتمع، وبذلك فان الأخلاق هي اصدق تعبير عن احوال الناس ، وتتسم بفاعليتها المستمرة لانها لا تعتمد على أية آراء مشكوك في مصداقيتها، ولا على معتقدات اعتباطية، بل ولا على أية نظرية علمية عرضة للجدل قد يؤدي سقوطها الى تدمير المذهب الاخلاقي، وهي محافظة وليست طوباوية لانها تقتضي من الفعل ان يستند الى الواقع، وهي محددة بدقة ونافذة في تفاصيل الحياة، بحيث تشمل النشاط الإنساني بجميع اوجهه.

والاخلاق قادرة على تحصيل الاجماع وضم العقول والإرادات تحت لواء واحد لانها تبنى على أسس ومناهج موضوعية وغاياتها تقوم أساسا على تحقيق هذا التفاهم الهادف الى جمع الناس على مثل عليا تكون واحدة للجميع.

ومن هنا تثار العلاقة بين السياسة والاخلاق، وعلاقة الغاية بالوسيلة، وماهية الأنظمة التي من شأنها ان توطد مثل هذه العلاقة وبالعكس..؟

فالعلاقة بين السياسة والاخلاق تتوطد سلبا او ايجابا تبعا لطبيعة النظام السياسي السائد في مجتمع ما.

الأنظمة الدكتاتورية توطد العلاقة السلبية بين السياسة والاخلاق، بينما الأنظمة الديمقراطية توطد العلاقة الإيجابية بينهما.

تلجأ جميع الدول الدكتاتورية وبدون استثناء لتوطيد سلطتها على أساس من القوة والمنعة الى اعتماد الماكيافيلية، نسبة الى المفكر الايطالي نيكولو ماكيافيلي achiavelliM Niccolo(-15271469م)، في العمل السياسي والدبلوماسي، والذي اشتهر بمؤلفه “الامير” والذي من خلاله قدم النصح والإرشاد الى رؤساء الدول كأسلوب للعمل السياسي إبان القرون الوسطى التي تميزت بالمؤامرات والدسائس.

وتدور هذه النصائح حول مبدأ “الغاية تبرر الواسطة”، حيث يؤكد على الحكام، بتجاهل المبادئ الاخلاقية في تحقيق اهدافهم، مما ركز ذلك مبادئ الرذيلة في سلوكية الحكام، كالخداع والمراوغة والدهاء والغدر والأنانية والكذب لغرض الوصول الى غاياتهم في توطيد سلطتهم.

ومن نصائحه، ضرورة اختيار رئيس الدولة لبطانته ومستشاريه من ذوي الكفاءات الممتازة أمانة وخبرة، كما على رئيس الدولة ان يغدق عليهم النعم والمناصب ورتب الشرف.

اما علاقة رئيس الدولة بشعبه، فينبغي ان تقوم على أساس الهيبة والرهبة. فعليه ان يختار الخوف ويضعه في المقام الاول. اما علاقته الخارجية فان القوة العسكرية والتهديد هما ضمان الاستقرار

والامان، لذا ليس لرئيس الدولة ان يلتزم بمشروعية الدستور والقوانين والمبادئ الاخلاقية ما دام الهدف يخدم غاياته.

لقد ظهر بعض الكتاب ممن روجو لافكار ماكيافيلي، مثل الكاتب الألماني كارل سمث Smith Caril(1888-1985) الذي قال، بان السياسة لا علاقة لها بقواعد الأخلاق، بل قد تتعارض معها.

وكانت لافكار هذا الكاتب تأثير كبير في الفكر النازي الدكتاتوري.

وظهرت أنظمة جديدة دكتاتورية في القرن العشرين كنظام الحزب الواحد ” كالأنظمة الشيوعية والانظمة القومية والدينية”، وكذلك ظهرت أنظمة دكتاتورية دينية ذات بعد طائفي في القرن الماضي وما زالت قائمة لحد الان، ناهيكم عن الأنظمة الدكتاتورية الفردية التي تعج بها العديد من دول العالم المتخلف.

وهذه الدول الدكتاتورية بمختلف اشكالها، لا مجال فيها لسيادة القانون، وتتدخل في كافة الشؤون المتعلقة بالأفراد في المجتمع.

وبحكم طبيعة الأنظمة الدكتاتورية، فان الحكام يَرَوْن بان الناس يختلفون بطبيعتهم ، هناك صنف من الناس خلقوا كحكام، واخرين كمحكومين، ومن بين الحكام هناك شخص متميز له الصفات اللازمة لتجسيد إرادة الدولة بحيث يصلح ان يكون قائدا فذا او ينوب عن الله في الارض.

يؤكد موسوليني ذلك بقوله “ان الفاشية تنكر ان الأغلبية مجرد كونها أغلبية تستطيع ان تحكم المجتمع الإنساني، وإنما الذي يستطيع ان يحكم هم القلة الممتازة وياتي من بينهم الفرد الممتاز”

وتأكيدا للنهج اللاأخلاقي في سلوكية الحكام الدكتاتوريين، فان هتلر يؤكد في كتابه “كفاحي” على ترويج الاكاذيب الكبيرة لتمرير مخططاته العدوانية عندما يقول “ان الجماهير تميل الى تصديق الاكاذيب التي تألفها وتعتادها).

تلك هي العلاقة السلبية بين السياسة والاخلاق في ظل الأنظمة الدكتاتورية.

اما في ظل الأنظمة السياسية الديمقراطية فان الامر معكوس تماما، فهي تتبنى القيم الاخلاقية السائدة في المجتمع، نظريا وعمليا الى حد كبير.

ان جوهر الديمقراطية التي تمتد جذورها الى قرون عديدة، هو توسيع دائرة الحقوق بين الأفراد بحيث يتساون في فرص الحياة والتأكيد على حقوق الانسان ومحاربة الفاقة ونهوضها بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع.

الديمقراطية تقوم على مبدأ أساسي هو تفعيل وتنمية المواهب والقدرات الكامنة في الانسان واستخدامها في بناء ونهضة المجتمع، مما تحتاج الى إطلاق الحريات الكاملة في التفكير والتعبير عن الرأي وعن العواطف والمشاعر.

اما على الصعيد التطبيقى او العملي، فان النظم الديمقراطية تعتمد الأسس التالية:

١- التعددية السياسية التي تتمثل في تعدد الأحزاب السياسية والتداول السلمي للسلطة فيما بينها.

٢- القرار السياسي هو ثمرة التفاعل بين جميع القوى السياسية ذات الشأن.

٣- احترام مبدأ الأغلبية كأسلوب لاتخاذ القرارات والحسم.

٤- المساواة السياسية في إعطاء صوت واحد لكل مواطن.

٥- مفهوم الدولة القانونية، واهم عناصرها وجود دستور، والفصل بين السلطات، وخضوع الحكام للقانون، وانفصال الدولة عن شخص حكامها،وتدرج القواعد القانونية، واقرار الحقوق الفردية للمواطنين، وتنظيم الرقابة التشريعية والقضائية.

وبعبارة، فان الديمقراطية قيمة إنسانية وحاجة اخلاقية وثورة ضد الظلم والطغيان، يقتضي ممارستها اولا على صعيد التنظيمات، لكي تكون مؤهلة لنقل هذه التجربة الى شؤون الحياة وتصريف شؤون الدولة على مختلف الاصعدة.

فالرقابة الشعبية من خلال الممارسة الفعلية للديمقراطية، كفيلة بإجهاض المخططات التي يسعى اليها بعض الحكام للخروج عن المفاهيم الاخلاقية والقانونية، لان السلطة الحقيقية بيد الشعب، وان مبادئ الأخلاق والقانون فوق إرادة الحكام.

وان الذين مازالوا يعتقدون بان السياسة والاخلاق نقيضان لا يلتقيان، فانهم من المروجين لافكار وممارسات الأنظمة الدكتاتورية .