قالوا عن السياسة الكثير ، منهم من وصفها بالفن الممكن ، ومنهم قلدها وسام الحكمة والحنكة كوسيلة للوصول الى الاهداف ذات الابعاد البعيدة بالعقل المعتمد على الشفافية والصبر على تجاوز التعقيدات ، وبدوري لا أجد حرجا ولا خجلا حين اسميها عالم غريب مجرد من قيم الالتزام ولو بجزء بسيط من الوفاء والتعهدات ،فهي عالم تضع المصالح فوق كل اعتبار ولا تقيم وزنا معينا لطبيعة اهدافها ، فنراها تنقلب بسرعة البرق بمجرد ظهور خيط أمل تنجيها من الوقوع في المآزق..
لذلك نجدها في العراق اليوم انها عالم غريب اضافت لها صراع المصالح الشيء الكثير من الغموض لنفسها ،حتى غدت السياسة عندنا في بحر مضطرب ، لا نفهمها ولا نعرف شيئا عن طبيعة الخطابات المطروحة والاجندات السياسية التي تتسابق مع بعضها ، وتحاول اصحابها كسب جولاتها الساخنة التي تثير المخاوف من الوقوع في الاخطاء ، خصوصا خلال الفترة الاخيرة التي اشتدت فيها حدة الصراع مع حكومة اقليم كوردستان حين اغلق السيد نوري المالكي كل الابواب بوجه تهدئة الاوضاع ، و تأخير تشكيل قيادة قوات دجلة لحين ايجاد بدائل تنهي حالة التوتر القائمة بينهما ، والذي رفض استغلال كل الفرص جملة وتفصيلا حين استند على المشورات المقدمة له من قبل من تمرسوا على فنون العدوان قبل عملية سقوط النظام وبعده ، والذي هيأ لها كل مستلزمات الزحف( المقدس) نحو كوردستان ، ورسم خارطة انتشار عسكرية جديدة في كركوك والمناطق المحيطة بها على غرار خارطة الانتشار التي سبقت عملية سقوط النظام ،لوضع الاقليم تحت ضغوطاته السياسية والاقتصادية والعسكرية نتيجة تنامي قدرة ومكانة حكومة كوردستان على المستويين الاقليمي والدولي ، وتمتعها بقدرة دبلوماسية تفوق حكومة المركز بأشواط كبيرة التي دفعته ان يتخذ تلك الخطوات باتجاه ادامة ضغطها المباشر على الاقليم ، وكانت منها الكثير ، و اخرها محاولاته الجادة بتقليص الميزانية المقدمة لكوردستان التي اثارها وقدمها كمشروع غير قابل للمساومة للبرلمان للبث بها وفق مبادئ(مصلحتها الوطنية) والتي اصطدمت بجدار الرفض الكوردستاني التام ، الا انها عادت لتؤكدها كحق مشروع من حقوق حكومة الاقليم كوردستان كاستحقاق ثابت غير قابل للتغيير ، فيما اعتبرتها كوردستان بانها غير متوازنة مع الواردات العامة التي تخطت (100) مليار دولار امريكي هذا العام…
لقد فشل المالكي وفشلت قيادة قوات دجلة في فرض نفسها كطرف في حسم الخلاف مع حكومة اقليم كوردستان ، فيما فشل ايضا في مشروعها المقدم للبرلمان بخصوص الميزانية المقدمة ، وبقيت حكومة اقليم كوردستان تتمتع بقدرتها على المناورة السياسية ، بل ولم تتأثر الاوضاع هناك رغم كل الضغوطات التي اراد بها المالكي ان تعيد الاجواء في كوردستان الى سابق عهدها لايام النظام البائد…
موجة الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في الرمادي والموصل وديالى والفلوجة قصمت ظهر الحكومة ووضعتها في أحرج المواقف خصوصا حين ابدت القيادة الكوردية تعاطفها التام مع مطالب المتظاهرين ووصفتها بالشرعية التامة ، ولابد للحكومة ان تتبنى تنفيذها بسرعة تفاديا من ان تتحول الى بركان شديد الانفجار من الصعوبة احتوائه، والتي تتزامن الى الآن مع قرب انتهاء الوضع السوري الذي يشهد فصوله الاخيرة هناك ، وهي خطوة مفاجئة اربكت حكومة المالكي تماما لأن التأييد الكوردي سيوسع من رقعة الاوراق الضاغطة عليه التي تمهد السبيل للمزيد من الضغوطات التي ربما سيدفع به الى التنحي في ظل ازدياد رقعة المعارضة لسياسته القائمة على التفرد بالسلطات ، لذا فلا غرابة في القول ان سر المفاوضات دولة القانون التي يتزعمها نوري المالكي مع حكومة اقليم كوردستان هذه الايام لها صلة مباشرة بطبيعة الخطوة التي اتخذها حكومة اقليم كوردستان وحواراتها المباشرة مع الاطراف المؤيدة للتظاهرات ، والتي وضعت كل ثقتها بحكومة الاقليم لإدامة ضغطها المباشر بهدف سحب البساط من تحت قدمي المالكي الذي وضع نفسه في زاوية ضيقة خطيرة حدت من حركته السياسية تمكنه من الوقوف بوجه الاصوات الداعية لتنحيه عن السلطة ، وهذا يعني حسب اعتقادنا ان المالكي استطاع اخيرا ان يكسب بعض الوقت من خلال تلك المفاوضات الجارية التي تجريها ائتلاف دولة القانون مع حكومة الاقليم ، وهي خطوة ذكية لقطع الطريق امام المزيد من معارضيه لتوحيد صفوفهم لتشكيل جبهة معارضة قوية تسبب في زواله السياسي عن الساحة ، فبالعودة الى تصريحات بعض من نوابه من اربيل نجد الفرق الشاسع في طبيعة تلك التصريحات وتصريحاتهم السابقة التي لا تدل الا على حجم الخطأ السياسي الذي وقع فيه ائتلاف دولة القانون حين ارادت ان تشوه صورة الكورد وتضحياتهم عند الشيعة ، واعتبار السيد مسعود البارزاني طرفا مسببا في تقسيم العراق ، بل واتهامه واتهام حكومة الاقليم بنهب ثروات العراق بهدف تغطية انتكاساته السياسية وفضائح حكومته التي تتزايد يوما بعد يوم….
ومن هنا أصبح لزاما على الكورد ان لا يفرط بهذه الفرصة التي جاءت بها مصلحة حكومة المالكي لفتح الحوار مع كوردستان ، وان يدرك بإتقان طبيعة اللعبة التي يلعبها المالكي للتشويش على الحقائق الموجودة على الارض ، وضرورة عدم الوقوع في الاخطاء التي سببت لنا الكثير من الانتكاسات السياسية منذ عشر سنوات تحديدا تلك التي تتعلق بحقنا المشروع في عقد الاتفاقات مع الشركات العالمية للتنقيب عن النفط والثروات الباطنية الاخرى ضمن رقعة حدود كوردستان ، وعدم القبول بالإساءة الى ضخامة التضحيات التي قدمناها نحن الكورد على طريق الكرامة والحرية الوطنية والقومية ، بل وضرورة حد امام البعض الذين يرون في تصريحاتهم اللامسوؤلة بحق استحقاقنا الدستوري والقانوني نشوة انتصار للعقلية المتوترة التي يمتلكونها ، ولا تدل الا على قصر سياسي ومبدئي ، بل والتأكيد ان كل ما يستحقه أي طرف لنا بمثله ، وان النهضة العمرانية والاقتصادية التي تشهدها كوردستان لم ينتزعها الكورد من حق احد وهي ليست على حساب اي طرف من الاطراف ، وهي جهد وجهاد كنا بأمس الحاجة اليه منذ قرون ، الا ان العقليات التي حكمت بلادنا ارادت لنا ان نكون خاضعين لسياساتهم الشوفينية ، واذلاء لنوازعهم الشيطانية التي ما كانت تدور الا فلك طمس وجودنا القائم على الادلة والثوابت التاريخية ، ولهذا فان الفرصة المؤاتية بحاجة الى حزم أكبر لتثبيت حقوقنا المشروعة التي يحاول كل طرف ان يفرض وصاياه وشروطه ، وتشويه صورة الفدرالية المشرقة التي أضافت نقلة نوعية للصورة الكوردي المثابر حين تتهيأ له الظروف ان يكون بمستوى طموحه القومي والوطني ،