18 ديسمبر، 2024 6:42 م

السياسة المعاصرة والدين

السياسة المعاصرة والدين

من الخدع التي روجها الشيطان على السنة العلمانيين او الملحدين وبعض المتنطعين في عالمنا الإسلامي .ان الدين محله المعابد وانه لا يجب خلطه أو تدخله بالسياسة والا فسد وفسدت ، ودليلهم في ذلك “علمانية الغرب” الناجحة و”ديموقراطيته” ، ونحن المسلمون والعرب -منذ اصبحنا دولة وأمة على يد نبينا الأعظم وصحابته- لدينا انموذجان فقط في الحكم لا يصعب على المهتم تتبعهما وهما :الحكم بالدين والشريعة والحكم بغيرهما “من عسكر ومدنيين” ،
والتاريخ يصدمنا بالنتيجة ويجعل من الاعتراض على الحكم الديني او على خلط الدين بالسياسة اعتراضا أحمقا لا يصدر إلا من غافل عن التاريخ او جاهل في السياسة او عدو للدين .فعندما كانت السياسة تدار بالدين سادت الدولة العربية والامة الإسلامية العالم قرونا حتى بالتداول بين الاعراق المختلفة من ترك وسلاجقة وكرد وافغان وعرب وآخرين ، وعندما حكم الدين او الصبغة الدينية الشعوب المنضوية تحت راية الإسلام ودولته تصدر مواطنوها المشاهد العلمية والأدبية وامسكوا الريادة في الفلك والرياضيات والطب والهندسة والكيمياء والشعر والفلسفة والنقد والفن والأدب ،
وما زالت ثلاثة ارباع النجوم والكواكب المعروفة تحمل اسماء عربية “كما تقول ناسا” ،
ومازالت الارقام المستخدمة في الخوارزميات التي تدير تكنولوجيا اليوم تسمى الارقام العربية “Arabic numerals” والتي نقلها البابا سلفستر من جامعة القرويين في المغرب فسموه عرفانا له “بابا الارقام” بعد ان أخرتهم الارقام اللاتينية التي لاتصلح لأي عملية رياضية ، وما محمد بن موسى الخوارزمي الا عالم مسلم عاش في كنف دولة دينية لم تمنعه عن إبداعه بل دعمته ، ويقول احد علماء الغرب : “لو لم يرم هولاكو كتب بغداد في دجلة لكنا اليوم نتنقل بين الكواكب” !
والأمر لا يقتصر على العلم بل ان السياسة التي يصبغها او يديرها الدين كانت الأنجح وصارت تدرس في جامعات العالم بعد ان سطر اسسها وتفاصيلها علماء مسلمون كتبوا في “الإمامة الصغرى والكبرى” وفي “نظام الحكم في الإسلام” و ” الأحكام السلطانية والولايات الدينية” و “غياث الأمم في التياث الظُّلَم” و “ادب القاضي” و”السياسة” و”منتخب الاحكام” و “درر السلوك في سياسة الملوك” و”رسل الملوك ومن يصلح للسفارة” و “التبر المسبوك في نصيحة الملوك” و “آداب الحسبة” و “نهاية الرتبة في طلب الحسبة” و “تهذيب الرياسة وترتيب السياسة” و “وظيفة الحكومة الإسلامية” و “تحرير الاحكام في تدبير اهل الإسلام” و” حسن السلوك الحافظ دولة الملوك” و “الطرق الحكمية في السياسة الشرعية” و “كتاب الخراج” و”نظم الجباية”
وغير ذلك مئات بل آلاف المؤلفات كلها في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والحكم والتي ثبت بالبحث ان كثيرا منها سرقها المفكرون السياسيون الغربيون او اخذوا افكارها دون احالة الى الأصل ، وكل مؤلفيها هم علماء دين مسلمون مثل الامام ابن القيم والامام الغزالي وابن خلدون وابن رشد والفارابي والسبكي والموصلي وكثير منها لشيخ الاسلام. هذا فضلا عن كتب القوانين والدساتير الإسلامية التي استقى الغرب الحديث منها اغلب قوانينه كما يبين القانون الاساسي الفرنسي والامريكي ونسبة اعتمادهما على الفقه الاسلامي دون إنكار ، والغربب اننا عندما اعدنا اخذه منهم -حديثا- صرنا نقول : اقتباسا من القانون الفرنسي !
وانا لا اريد هنا ان ابين منهجا تفصيليا لحكم الدولة إسلاميا فالمقام لايتسع وكذا فقد قام الكثيرون قبلي بذلك ، والذي منه راي مختصر يقول ان “الدين هو شأن الفرد أما العلمانية فهي شأن الدولة، بمعنى أن من حق الفرد في الدولة أن يقول “أنا مسلم أو أنا بوذي أو أنا يهودي لكن ليس من حقه أن يقول أنا علماني، لأن العلمانية ليست دينا أو معتقدا، إنما هي جزء من منظومة الحكم، وهي اختصاص حصري وشأن خاص بالدولة” فإذا كانت العلمانية الغربية جاءت ردا على هيمنة الكنيسة على السلطة ونجحت في تحرير الدولة من الدين -المحرف والمستغَل-وسطوته؛ فإن نظاما إسلاميا ناجح المنهجية ممكن أن يحرر الدين من الدولة وهو عكس مافعله الغرب ، ويجعل أحكام الدين هي الحاكمة وليس الافراد المتلبسين به المستغلين له ، وأمامنا نماذج معاصرة ناجحة لدول كبيرة يحكمها اسلاميون تغلغلت انجازاتهم الدينية تدريجيا الى مفاصل الدولة وأعادوا الدين إلى الحياة بحكمة وتدريج فلا أحدَ يتوفر على الحد الأدنى من فقه التوحيد يمكنه قبول النظام العلماني الذي يقصد فصل الدين عن الحياة ، فخلطوا الدين بالسياسة ونجحوا وارضوا شعوبهم رغم حملات الغرب المسعورة لإفشالهم واسقاطهم ، فكان خيارهم الحكيم أمام هذا التآمر العالمي هو الالتفاف على مصطلح العلمانية ، فالتسميات غير مهمة -مرحليا- فما يعنينا من الناحية الدينية هو المفهوم والمضمون الذي نحكم عليه من موافقته أو مخالفته للنص الشرعي او مقاصد الشريعة فالنظام العالمي اليوم يفرض على الدول القائمة مفاهيمه الخاصة من خلال مصطلحات سياسية وقانونية ، ويصنف الدول وفق معايير معينة؛ ولكي تكون الدولة الإسلامية بعيدة عن المواجهة الضارة فإنه من الحنكة والسياسة الشرعية إعلان الالتزام بتلك المصطلحات والقبول بها ثم الالتفاف عليها تدريجيا او توطينها لتناسب دولة الإسلام والمجتمع المسلم ولو الى حين لان التجارب السياسية المعاصرة أثبتت أن النظام العالمي “العلماني” لا يسمح للإسلاميين بقيادة بلدانهم ، لذا فلابد من التدرج والمناورة وتهيئة الاجيال،
وقد حكم الإسلام -كأطول الامبراطوريات حكما في التاريخ- مامجموعه 1300 عاما ، واقواها واكثرها ازدهارا الى يوم انتهاء الخلافة العثمانية ، ولايعيب تلك الامبراطورية الممتدة ان ضعفت في بعض عصورها او أصقاعها المترامية فهذه سنة الأمور وتوسع الاراضي واختلاف الاعراق ولايخل الامر من الاطماع البشرية كما في كل شان دنيوي، ومع هذا ظلت جميعها تدين للإسلام وتتسمى به ،
فإذا كانت الديانات الأخرى لا تصلح للحكم ويجب فصلها عن السياسة فلنقص فيها او تحريف او لقصور في منهجها عن التطبيق او لأنها لم تات من اجل ذلك ، وهذا لايعنينا -رغم ان الله تعالى توعد الذين لم يحكموا بالتوراة والإنجيل- وذلك شأنهم ، أما الإسلام فقد جاء ليحكم وقد نجح في الحكم وسينجح دوما بامر الله ، فإن اخل بعض الأشخاص فهذا ليس خلل المنهج وإنما خلل الإدعاء وفشل التطبيق واتخاذ الإسلام وسيلة لخداع المسلمين ،
أما الأصل فان نظام الحكم الإسلامي-ببيعته وبالشورى والعقلاء من اهل الحل والعقد وصالح القضاة وبتداول الاموال وتكافل الطبقات ودواوين الجيش والعطاء والحسبة والتعليم وسنة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وديوان المظالم والحكم بما انزل الله ، بتعديلات تناسب كل عصر وتواكبه – لاشك هو الاصلح ، و واجب التطبيق ،،
﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾