23 ديسمبر، 2024 6:30 م

السياسة الخارجية… التحدي الاصعب للحكومة العراقية

السياسة الخارجية… التحدي الاصعب للحكومة العراقية

مر على وزارة الخارجية العراقية اكثر من 40 وزيراً (وذلك بالعودة الى عام 1924 وتولي ياسين الهاشمي اول حقيبة لوزارة الخارجية في العراق)، شهد خلالها الكثير من الازمات والصراعات والحروب، واختلفت فيها الرؤى والأيديولوجيات التي حكمت العراق بين ثلاث انظمة (النظام الملكي والجمهوري والبرلماني)، فيما تباين فيها اداء وزارة الخارجية المسؤولة عن رسم السياسة العامة للعلاقات الخارجية للعراق مع بيئتها العربية ومحيطها الاقليمي والدولي بين السلب والايجاب، والذي ارتبط بشكل مباشر مع اداء الحكومة والنظام القائم في كل حقبة، اضافة الى تأثير الجو العام الذي حكم طبيعة العلاقات الدولية بشكل عام.

ويرى الكثير من الخبراء، ان الفترة الحالية من تاريخ العراق السياسي تمر بأصعب ظروفها لعدة اعتبارات:

1. سقوط النظام الاستبدادي السابق (عام 2003) واحلال نظام اخر (برلماني ديمقراطي)، في وسط انظمة شرق اوسطية (خصوصا العربية منها) لم تعتد على هكذا تحولات، الامر الذي ادى الى افتعال العديد من الازمات الداخلية والخارجية للعراق لمنعه من ممارسة دوره الطبيعي، واعاده اندماجه في وسطه العربي والاقليمي (بعد الاخفاقات السياسية والتركة الثقيلة التي خلفتها السياسيات السابقة لنظام صدام)، خوفا من انتقال ما وصفوه “عدوى الديمقراطية”، والتي فرضت على العديد من الانظمة، لاحقا، من خلال مجريات الربيع العربي عام 2011.

2. سيطرة الاعراف السياسية بدلا من تغليب المصالح الوطنية في حكم العراق من قبل الكتل والشخصيات السياسية النافذة (والتي تشبه الى حد كبير طريقة توزيع المناصب التي تجري في لبنان منذ انتهاء الحرب الاهلية 1975-1991، وتوقيع اتفاق الطائف) والتي تجري على اساس توزيع الحقائب الوزارية بين الكتل الكبيرة الفائزة (حساب عدد النقاط).

3. تعرض العراق على مدار عقد من الزمن (منذ عام 2004) لهجمة قوية من قبل التنظيمات الارهابية والجماعات الجهادية ذات الفكر الاسلامي المتطرف (وذكر باحثون ان أكثر من 20 تنظيم ارهابي تواجد على ارض العراق كان أبرزها تنظيم القاعدة والدولة الاسلامية)، والتي تطلبت جهود خارجية استثنائية لمنع تحول العراق الى ساحة للحروب والصراعات (سيما وان العديد من الدول الاقليمية دعمت بعض الجماعات المتطرفة لأغراض سياسية وتنافسية) التي جرى اغلبها “بالنيابة”، الا ان جميع هذه الجهود فشلت دون تحقيق اهدافها.

4. الفساد الكبير (غالبا ما يتصدر العراق المراتب الاولى في الفساد الاداري والحكومي والمالي عالميا حسب احصائيات دولية لمنظمات عالمية) والمحسوبية في اغلب مرافق الدولة (وطبعا وزارة الخارجية ليست استثناءً من ذلك)، والذي انعكست سلبا على الاداء الخارجي للعراق، واقتصاره على العمل الحكومي الروتيني.

بداية الازمة

بالرجوع الى دستور العراق الذي تمت صياغته عام 2005، والضجة الكبيرة التي احدثتها المادة (3) منه حول طبيعة الانتماء القومي للمواطن العراقي او “عروبة العراق” كما اطلق عليها (بعد ان كان مقترح المسودة لا يتناول مسالة الانتماء العربي على حد وصف المعترضون)، والتي تم استدراكها بتعديل لاحق لتصبح “العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وهو عضو مؤسس وفعال في جامعة الدول العربية وملتزم بميثاقها وجزء من العالم الإسلامي”، والمفارقة ان وزير خارجية العراق، في تلك الفترة، هو السيد هوشيار زيباري (من القومية الكردية)، وكانت له وجه نظر حول هذه الخلافات اوضحها قائلا “إن العراق قدره انه جغرافيا وثقافيا في قلب العالم العربي والإسلامي ولا يمكنه أن ينفك أو ينعزل عن محيطه”، واضاف “أيضا هناك إشكال دستوري، فيجب الاعتراف بأن الشعب العراقي مختلف عن أي بلد عربي آخر، فهو يضم قوميات ومذاهب أخرى ولا بد من الاعتراف بهذه التعددية والآخر، فلا يمكن إجبار 6 ملايين عراقي من أكراد وآشوريين وتركمان علي أن ينتموا للعروبة، هذا هو الخلاف، والمعالجة القانونية كانت لمراعاة هذا الواقع العراقي المتنوع”.

قد تكون وجهة نظره صحيحة، لكن وكما عبر السيد زيباري “قدره انه جغرافيا وثقافيا في قلب العالم العربي”، يفرض عليه ان يتعايش مع هذا المحيط، وبعبارة أخرى، ان العراق كان يحتاج بعد عام 2003 الوجه العربي الذي يمثله على المستوى العربي، ليقنع الاخرين بضرورة قبول تغير النظام والسياسية العامة للعراق، او على الأقل إعادة ترتيب وتصحيح الأوضاع السابقة، وقد اعتبر الكثير من قادة العالم العربي والمحيط الإقليمي، ان تولي وزير من قومية غير القومية العربي (خصوصا في تلك الفترة الحرجة)، هو استفزاز للمشاعر القومية، وانسلاخ العراق من محيطة الطبيعي، مثلما اعتبر سنة العراق عدم ادراج عبارة “العراق جزء لا يتجزأ من الوطن العربي” استفزازا لمشاعرهم وانتمائهم العربي.

من جانب اخر، فان الاكراد عانوا كثيرا من الحكومات العربية (التي مرت على حكم العراق)، وتعرضوا لعملية إبادة جماعية ابان حكم صدام (في عملية الانفال الشهيرة وغيرها)، واليوم هم يتمتعون بحكم ذاتي له امتيازات استقلالية كبيرة، ويحتاجون الى الدعم والتواصل مع المجتمع الدولي من اجل اقناعهم بضرورة إقامة دولة تجمع أبناء القومية الكردية من الشتات (منتشرين بين تركيا والعراق وايران وسوريا)، وهو ما عبر عنه صراحة السيد مسعود بارزاني (رئيس إقليم كردستان) ومن قبلة عبد الله اوجلان (المعتقل في تركيا)، وطبعا فان افضل وسيلة لتحقيق هذه الغاية يتم عبر وزارة الخارجية وامكاناتها التواصلية الهائلة التي قد تخدم القضية الكردية اولاً ومن ثم باقي القضايا تقف في الصف الثاني من سلم الاولويات، واعتقد ان الأداء الخارجي للعراق في العقد الماضي (باستثناء القضية الكردية والتي أتت اكلها بعد تهديد داعش لحدود إقليم كردستان ومدى التفاعل الدولي الذي حصل لدعم حكومة الإقليم حتى على حساب البلد الام) كان أداء ضعيفا للغاية ولم يحصد أي نجاحات تذكر.

عقيدة جديدة

العقيدة تختلف عن الكاريزما، فالعقيدة توصف بانها “مجموعة الأفكار والمبادئ التي يؤمن الفرد بصحتها”، بينما توصف الأخيرة بانها “قدرات غير طبيعية (بمعنى استثنائية) في القيادة والإقناع”، ويحتاج العراق توفر الصفتين في أي شخص يتصدى لمهمة رسم السياسية الخارجية للعراق، فلا يكفي الإخلاص او النزاهة او الثقافة وغيرها من الصفات الجيدة في إدارة العمل الخارجي، بل يجب التأكيد على تبني العقيدة الصحيحة وكيفية تطبيقها ومن ثم النجاح في تطبيقها، إضافة الى توفر القدرات الاستثنائية في القيادة والاقناع، وهما امران ضروريان لتغيير القناعات وكسب الأصدقاء والنجاحات الخارجية.

اعتقد ان المهمة الأصعب، للحكومة العراقية الحالية، والتي مضى على تشكيلها ثلاثة اشهر، هي العمل على تغيير قواعد العمل الخارجي الموروثة من السابق بقواعد جديدة تتماشى وحجم التحديات التي يواجهها العراق حاليا ومستقبليا، وان الاعتماد على الموروث الفكري والبشري للخارجية العراقية سيكون أحد عوامل فشل السياسية العامة على المدى المتوسط، فالبراغماتية مطلوبة بقوة في هذه المرحلة، وهو امر طبيعي تلجا اليه حتى الدول العظمى من اجل إعادة تقييم الخطط والاستراتيجيات العامة لسياستها الخارجية في حال اثبتت فشلها او عدم نجاعتها.

توصيات

هذه التوصيات مقدمة في المقام الأول الى وزير الخارجية العراقي (الدكتور إبراهيم الجعفري) كمقدمة لتصحيح الأوضاع ومضاعفة فرص النجاح المتوفرة حاليا، والى كل من يسهم في صناعة القرار الخارجي والعلاقات الدولية مع العراق:

1. اختيار العناصر الكفؤة (وبالأخص المستشارين)، التي تتمتع بقدرة على هضم المعطيات وتقديم أفضل الحلول والسيناريوهات المحتملة والبديلة، لإعطاء قدرة أكبر لصناع القرار للمناورة واختيار البدائل الصحيحة بين الخيارات المتاحة، سيما اوقات الازمات والأوضاع الحرجة.

2. الانتقال من (التفكير المحلي) الى (التفكير العالمي)، وهو مطلب مهم جدا، اذ ان القضية العراقية تم تدويلها (مع رغبة العراق او من دونها)، وان التعامل معها على أساس التفكير المحلي الضيق لا يتناسب وحجم القضية، بمعنى اخر، انه يتعين على الخارجية العراقية قراءه المشهد بصورته العالمية والتعاطي معه على أساس ذلك، كمقدمة لتحصيل النجاحات المحلية، وليس العكس صحيحا.

3. اتباع دبلوماسيا التهدئة (او الهدوء) بدلا من التصعيد (بكل انواعه)، حتى مع الدول التي اضرت بالعراق سياسيا وامنيا، ومن ثم اللجوء الى الحوار والتسوية على قاعدة (تصفير الأعداء وكسب الأصدقاء)، باستخدام وساطات دولية ومفاوضات (علنية وسرية).

4. ضرورة العودة الى المحيط الخليجي أولا والعربي ثانيا، وان تكون عودة قوية ومؤثرة، إضافة الى كونها عودة مقنعة تبدد ازمة عدم الثقة المتبادلة، عبر تقديم مبادرات تثبت حسن النوايا، ويتم ذلك عبر التنسيق الدبلوماسي (الفردي والجماعي) مع الدول العربية.

5. انشاء مراكز دراسات وابحاث والتعاون مع مراكز ومعاهد بحثية متخصصة في مجال (السياسة، الاقتصاد، الاجتماع، حقوق، اديان…الخ)، من رفد أصحاب القرار السياسي بالدراسات والتحليل والبحوث المهمة، إضافة الى تقييم السياسية العامة للخارجية وتقديم المشورة والنصائح العامة كل حسب اختصاصه ووجه نظره.