18 ديسمبر، 2024 6:10 م

السياسة الجنائية الحديثة لمعالجة الانحراف والاجرام

السياسة الجنائية الحديثة لمعالجة الانحراف والاجرام

السياسة الجنائية بصفة عامة هي  مجموعة الوسائل والتدابير التي تحدثها الدولة في حقبة زمنية معنية لمكافحة الجريمة وحفظ الأمن والاستقرار داخل أقليمها ، والسياسة الجنائية  ذلك الإطار النظري المحدد لكيفية حل الصراع الحتمي بين الجريمة والمجتمع.  النظرية الحديثة للسياسة الجنائية تهدف  إلى رؤيا شاملة لظاهرة الإجرام بالبحث والتقصي عن أسبابها ودوافعها من خلال دراسات إحصائية هادفة لكل منطقة داخل الدولة وإيجاد الحلول والتدابير الناجعة للحد من تفشيها ومحاربتها واجتثاتها من جذورها للحفاظ على استقرار المجتمع، وما تطوير النصوص التشريعية بالتغيير والإتمام والإلغاء إلاّ خطوة لنقل العقوبة من مرحلة الانتقام الى مرحلة اصلاح المجرم. يسعى القانون الجنائي إلى الحماية التشريعية للمصالح والحقوق الخاصة أو العامة، وبالتالي يجب أن يبين بوضوح أهم المبادئ أو المبررات التي ينبغي أن تستند إليها الشرعية الجنائية كما ينبغي أن يبين حدود المصالح التي تقتضي الحماية التشريعية، لأنه بدون بيان هذه المعطيات الجنائية لا يمكن القبول بدور السياسة العقابية في تطوير القانون الجنائي لما هو أفضل  ، حيث ستخرج عن نطاق هدفها الذي هو تحقيق العدالة والمساواة من جهة وإعادة إدماج الجاني من جهة أخرى.و تتوخى السياسة الجنائية تطوير القانون الجنائي الوضعي في مجالات التجريم والعقاب والمنع وذلك بتوجيهه في مرحلة إنشائه وتطبيقه، فخلال مرحلة تشريع  القواعد الجنائية ينبغي للمشرع الاهتداء بمبادئ السياسة الجنائية ، أما خلال مرحلة التطبيق فينصرف التوجيه إلى القاضي الذي يتعين عليه الإلمام بآخر المستجدات والتطورات التي تعرفها السياسة الجنائية ليستعين بذلك في تطبيق النصوص وجعلها تلائم أهداف المشرع وغاياته. فالسياسة الجنائية لا تطور النصوص التشريعية فقط وإنما تعمل أيضا على تطوير تفسير هذه  النصوص بواسطة كل من الفقه والقضاء. ومن المؤكد أن الحقوق تصبح في مأمن كلما حافظت السلطة على حرية أفراد المجتمع، وليس هناك ما هو أخطر على هذه الحرية من أن تُنتهك بواسطة العقوبات وباسم الدفاع عن الأمن العام، لذلك لا بد أن تكون الجرائم والعقوبات محددة بدقة، وأن يصبح القاضي حكما بين السلطة التي تتهم وتحدد طبيعة الانتهاك الذي تعرض لـه العقد الاجتماعي، والمتهم الذي يبقى بريئا أمام القاضي لحين ان تثبت إدانته من خلال محاكمة عادلة . ولا بد للقاضي أن يدرك تمام الإدراك أن أي عقوبة تتجاوز الحد المقرر تصبح عقوبة مضافة إلى العقوبة الأولى الأصلية، وعليه وهو يبحث عن عقوبة عادلة أن يعي جيدا أن القسوة تتعارض مع العدالة، ومن هنا فإن العقوبة تصبح غير عادلة عندما تتصف بالقسوة غير المبررة.  وتعد إجراءات مكافحة الجريمة من أهم وأخطر المراحل التي تتحقق من خلالها مفاهيم العدالة الجنائية ، حيث أثبتت التجارب العملية أن فاعلية جهاز الضبط القضائي تساعد بطريقة فعالة فى مكافحة الجريمة ، وذلك بتقليل فرص ارتكاب الجريمة أو الإفلات من العقاب وبالتحريات الجادة وتجميع العناصر والأدلة المادية التى تثبت وقوع الفعل الإجرامي وتحدد مرتكبه حتى يستطيع القضاء توجيه تحقيقا بالشكل الذي يصل إلى الحقيقة ويتمكن القاضي من تنفبذ القانون بشكل يحقق العدالة الجنائية.  ومهما حددنا من أهداف كبرى لبناء سياسة جنائية واضحة المعالم، و تحديث القواعد التي تقوم عليها أنظمة العدالة الجنائية، فإنه بدون تقريب هذه الهوة بين المواطن و القضــاء، و جعل العدالة شأنا مجتمعيا و قيمة من قيم المواطنة، فإننا سنكون بعيدين كل البعد عن تحقيق ذلك التوازن في العلاقة بين الإنسان كفرد أو ذات مستقلة ، و بين ما تتطلبه الحياة الإنسانية في ظل قيم مجتمعية تعارف عليها مجموعة من الأفراد. أي بعبارة أخرى تحقيق التوازن بين ضرورة حماية حقوق و حريات الفرد، و بين ضمـان المصلحة العامة التي يقوم عليهـــا المجتمع و الدول.                                                                        
لمواجهة الخطورة بنوعيها الاجتماعي والجنائي لابد من اتخاذ تدابير وقائية استباقية، وأخرى منعية تنفيذا لسياسة الدفاع الاجتماعي التي تهدف إلى القضاء على العادات الانحرافية والعوامل التي تهيئ المناخ الملائم لارتكاب الأفعال الضارة التي تعكر صفو الأمن والسكينة والاستقرار، ومن تم وجب العمل على تطوير المجتمع في نظمه الاجتماعية والقانونية وترسيخ القيم الفاضلة، وعلاج المنحرفين بقصد العودة بهم على حظيرة المجتمع بواسطة تأهيلهم وتقويمهم وتربيتهم التربية الصالحة، باعتبار أن الجريمة ظاهرة اجتماعية تتغلغل في بنية وتركيب كل مجتمع من المجتمعات، بسبب خلل في بنية العلاقات الإنسانية والقيم الأخلاقية السائدة في هذا المجتمع.                          
تعكس السياسة الجنائية المصالح الواجب حمايتها في الدولة والقانون هو الذي يحدد المصلحة الجديرة بالحماية من بين المصالح المتناقضة ، ولما كانت السياسة الجنائية هي السياسة التشريعية في مجال القانون الجنائي و توجه المشرع في اختياره للمصلحة الواجب حمايتها ، فقد تأثرت السياسة الجنائية بالفكر الفلسفي الذي ساد كل مرحلة .                                              
تتحدد المصالح الجديرة بالحماية الجنائية وفقا لظروف واحتياجات كل مجتمع وتتأثر بتقاليده ونظامه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ,وإذا استقرأنا التطور التاريخي للمصالح التي يحميها قانون العقوبات، سوف يتضح لنا مدى تأثرها بنظام المجتمعات البشرية ومقومات حياتها، فالتغيرات الاجتماعية تعكس بوجه عام التحولات التي تلحق بهيكل القيم الاجتماعية، وهذه القيم تمثل في جوهرها مجموعة المعتقدات وأنواع السلوك التي يقبلها المواطنون في بلد معين، وتبدو مظاهرها في وسيلة حياتهم والتعبير عن آرائهم. وحتى تتحدد طبيعة كل تغيير اجتماعي فمن الضروري إقامة علاقة بين قواعد السلوك في مجتمع معين وهيكل العلاقات الاجتماعية في هذا المجتمع، فقاعدة السلوك الاجتماعية تمثل وضعا مقبولا لدى الجماعة أو المجتمع الذي أنشأها.                                               
 يعتبر القاضي   الجنائي   هو   المسؤول عن اختيار العقوبة   وفق   الإجراءات   المنظمة   للخصومة   الجنائية، هدفه   في ذلك إثبات   حق   الدولة    في العقاب   وتطبيق العقوبات   بشكل عادلة، فالقاضي يكمن   دوره في تطبيق القانون تحت رقابة   سلطة   عليا   متمثلة في المجلس الأعلى، حتى   لا يتعسف في استعمال الحق  تحت ذريعة   السلطة التقديرية   للقضاء، وهذه   الرقابة العليا   من شأنها   أن   تعطي   ضمانة    هامة    لحماية   المتقاضين   من التجاوزات   وتعسف القضاة  .  وتعطي السياسة الجنائية في النظم القانونية المقارنة أهمية قصوى لمنع جنوح الأحداث، لأنه يهدد مستقبل المجتمع، وفي هذا الإطار تتوجه الدول المتقدمة إلى توفير عناية فائقة للفئات الفتية ، وتقدم لهم كل وسائل المساعدة الاجتماعية، لتجنب سقوطهم في براثين الجريمة والانحراف، وخاصة أولائك الموجودين في ظروف غير مستقرة. إن إشكالية تفعيل الدور التربوي والاجتماعي للمؤسسة الاصلاحية ، يقتضي تدعيم جسور التواصل مع فعاليات المجتمع المدني، من هيئات ومنظمات حقوقية وتربوية ذات الاهتمام بشؤون السجون ، بهدف النهوض بوتيرة الإصلاح وفق برامج ومخططات مشتركة، ترمي إلى الحد من الانحراف، وتوفير سبل ناجعة ميدانية، كتوفير العمل مثلا للحاصلين على شهادات مهنية من المفرج عنهم، حسب تخصصاتهم، وذلك بالتدخل لدى أرباب العمل وإقناعهم بتشغيل خريجي مراكز الإصلاح والتهذيب ومؤسسات السجون، على أساس أنهم أصبحوا أشخاصا أسوياء، مما يؤدي إلى تعويض  المفرج عنه  من خلال إحساسه بالمساعدة على إمكانية الحصول على مورد للعيش، ودخل يمكنه من بدء حياته من جديد مما نعتبره تدبيرا وقائيا جديا للحد من الانحراف. وتسعى تدابير الوقاية إلى حل المشاكل الاجتماعية المختلفة ومعالجة العوامل والأمراض المولدة للجريمة كالبطالة والفقر والتفكك الأسري، أو التي تساعد على نمو الشخصية الإجرامية أو انحراف الشخصية السوية، فالوقاية الناجحة تعتبر أحد أهم أهداف السياسة المنعية، وهي تتطلب اتخاذ تدابير وإجراءات مناسبة لمواجهة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية بعد تشخيصها، باستنتاج الاتجاهات والدلالات، عن طريق تحليل ودراسة المعلومات التي توفرها الإحصاءات الجنائية، ومن ثمة التنبؤ بالمتغيرات الاجتماعية. ولا ريب أن لكل مجتمع نظامه القانوني الذي يجسد الروابط التي يرتضيها ذلك المجتمع في علاقته الاجتماعية التي تمثل الأخذ والعطاء والمسؤولية والجزاء، ومن الملاحظ بصفة عامة اختلاط القواعد القانونية بالقواعد الأخلاقية، إضافة إلى ذلك أن المجتمعـات ليست ثابتة الأحوال وإنما هي متحركة ومتغيرة، وهذا ما يمليه علينا دأب العمل وتطور الحياة الذي اتسم بظاهرة التغيير بحيث أصبح التغيير وليس الثبات هو الطابع المميز لمختلف أوجه حياة الأفراد وعلاقاتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، لذلك لا بد من استخدام المنهج العلمي التجريبي للوصول إلى القوانين التي تحكم هذا المجتمع. وعلى ذلك فالمجرم يتطور بتطور العلم وتطور القيم الاجتماعية ومقتضى ذلك أن المجرم في العصر الحديث لم يعد غافلاً عن الوسائل العلمية التي تتبعها أجهزة الشرطة وأجهزة مكافحة الجريمة في تتبع المجرمين وتضييق الخناق عليهم واثبات التهمة في حقهم , بل قد تتجاوز قدراتهم أحيانا في تجنب هذه الوسائل قدرات القائمين باستخدامها ( 1). المجرم في العهود الماضية لم يكن في الواقع في بحاجة إلى الاستعانة بالعلم لإخفاء آثاره وتيسير فرص ارتكاب جرائمه ما دام المستوى العام للمجتمعات في ذلك الوقت لم يكن يستلزم قدرات علمية من المجرمين لارتكاب جرائمهم , ولم تكن الوسائل العلمية لكشف الجرائم والمجرمين قد عرفت بعد , ولكن يبدو أن مدى التطور في العلم يجاوز عادة قدرة المجرمين على الاستفادة من العلم , أي إن الوسائل التي يكشف عنها العلم لمكافحة الجريمة تبقى فترة غير قصير من الزمن خافية على المجرمين حتى يتنبهوا إليها في النهاية فيواجهوها بما يبتكرونه من وسائل. وفاعليه الأهداف تتحقق أيضا من واقع مدى واقعيتها واداركها لكافة المتغيرات والعوامل المؤثرة ,  والخصائص العامة لبيئة التنفيذ ,  ومن هنا فان كانت مسؤولية الأجهزة المتخصصة في التخطيط تتمثل في انتهاج الدراسات العلمية المستمدة من البيانات الصحيحة الواقعية والتنبؤات الرشيدة حول كل خطة على حده ,  فان مهمة الشرطة في هذا المجال تنصرف إلى توفير المعلومات المستمدة من الملاحظة والتحليل والربط بين الأحداث ,  القدرة على التعرف على العامل أو العوامل الاستراتيجية المحققة لفاعلية الخطط وحاسة التوقع التي تنتج البديل المرن لمواجهة أي متغير حال.  ذلك أن تحقيق الأهداف الأمنية قد يواجه العديد من العوامل والمؤثرات التي قد تخرج عن إطار سيطرة الشرطة لارتباطها بأحداث سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ذات طابع فجائي ومن هنا كانت أهمية ضرورة أن تتسم الخطةط بالواقعية(2).
1.            لطفي جمعه ، دور الشرطة في حفظ السكينة والنظام ، مجلة الأمن العام المصرية ، العدد 24 ، ص9
2.            جميل فرج الله ، التخطيط من مهام القيادة الشرطية ، مجلة الأمن العام المصرية ، العدد 116 , ص30 وما تلاها