تعتبر أمريكا واحدة من أكثر الدول في العالم التي تهتم بالاستراتيجيات وتخصص الأموال لمراكز الدراسات والمعاهد المتخصصة لإعداد البحوث الخاصة بذلك، ويصعب ان تقدم الحكومات الامريكية بغض النظر عمن يسكن البيت الأبيض على اية عملية بدون وضع استراتيجية واضحة تحدد الحالة النهائية المتوخاة، وعادة تكون معلنة ليتم مناقشتها واثرائها من قبل المختصين والتأكد من انها تحقق أهدافها في كل مرحلة من مراحل التطبيق التي تتوزع على اهداف قريبة المدى او متوسطة او بعيدة. فالاستراتيجية قابلة للتطوير اثناء التنفيذ ايضا.
فيما يتعلق بالاستراتيجية الامريكية في أفغانستان فإنها جاءت بعد احداث 11 سبتمبر وكان الهدف واضحا، اسقاط نظام طالبان والانتقام من القاعدة بعملية عسكرية كبيرة، فتم ذلك في وقت قياسي، فأمريكا قوة عسكرية جبارة وبإمكانها اسقاط أي نظام حكم. ولكن بعد الإطاحة وجد المخططين العسكريين أنفسهم امام هدف سياسي (بناء أمة) او بناء دولة على أنقاض حكومة طالبان تؤمن بالقيم المدنية وحقوق الانسان بما في ذلك حرية المرأة وحرية الراي والمعتقد الى آخره من هذه الأسطوانة المشروخة. فبدأت الأموال تضخ لتحقيق ذلك. فشاهدنا منظمات المجتمع المدني وهي تحاول نشر هذه الثقافة الجديدة التي محورها الانسان أولا وأخيرا. لكن حسابات البيدر ليست دائما نفسها حسابات الحقل، فعندما بدأت العمليات العسكرية في 2001 لم تجد القوات الامريكية اهداف عسكرية ذات قيمة عالية في أفغانستان تستحق القصف. فأفغانستان دولة بدائية وشعب قبلي عنيد، شعب بدون تطلعات الى المستقبل فهم غارقون في الماضي دينيا وحضاريا. بالتالي بدأت العقيدات من هنا… وكان واضحا ان تغيرا حقيقيا في المجتمع الافغاني لن يكون سهلا ويحتاج لأموال وبرامج متنوعة. لم يبخل الامريكان في هذا المسعى أي جهد، لكن في المقابل كانت هناك جهود أخرى تبذل باستمرار بأدوات ووسائل بسيطة لا بل متخلفة اغلب الأحيان لمنع ذلك. فكان سهلا على طالبان استهداف الارتال الامريكية وقوافل الدعم اللوجستي وزرع العبوات الناسفة او القيام بالتفجيرات الانتحارية سواء بالأحزمة الناسفة او بالعجلات المفخخة وهكذا بدأ صراع من نوع آخر … صراع بين استراتيجيتين، استراتيجية أمريكية يعدها خيرة المخططين الاستراتيجيين من خريجي كليات الحرب والدفاع الوطني وهارفرد، واستراتيجية أخرى تقف خلفها أناس متخلفون لكنهم عنيدون يحبون الموت كما يحب الطرف الاخر الحياة. وخلال هذا الصراع كان النجاح دائما من نصيب العمليات التكتيكية التي تقوم بها القوات الامريكية بمساعدة التكنولوجيا واستخبارات الإشارة او الجيوفضائية. لكن سلسلة النجاحات التكتيكية الامريكية لم تؤد في النهاية لإنجاح الاستراتيجية الامريكية بل استنزفتها. وهنا وقعت الكارثة. فالمخططين الاستراتيجيين الأمريكان كانوا يغيرون بالخطط والمناورات لتحقيق اهداف الاستراتيجية كما معد لها حسب الخطة. لكن نسب الإنجاز كان دائما قليلا وهشا. فخلال عشرون عاما من الخسائر البشرية والأموال والجهود وجدت أمريكا نفسها امام هدف مستحيل التحقيق وإنها عالقة وسط رمال متحركة مليئة بدماء الامريكان والافغان. وكان التساؤل المنطقي حول الجدوى من كل ذلك؟ وهل المضي بتطبيق استراتيجية مكلفة ضعيفة النتائج مقبولة عقلا ام آن الاوان للتفكير ببدائل أخرى؟ الخطوة الاولى والاسهل كانت في التفكير بالتفاوض مع طالبان للبحث عن مخرج مقبول للانسحاب من أفغانستان. وهذا القرار “العار” اتخذته الإدارة الامريكية بكل وقاحة، ضاربة عرض الحائط مصير أمة بأكملها، غير مهتمة بإضاعة عشرون عاما في هذا المسعى شبه المستحيل، وترك أفغانستان لمصيرها الاسود. وبايدن يدعو الأفغان الى التعايش مع طالبان! خلاصة ما اريد قوله ثلاثة أشياء محددة ينبغي ان ننتبه لها جيدا:
التوجيه السياسي الفاسد لا يمكن إصلاحه مهما كانت الاستراتيجية معدة بدقة ومهما كانت الموارد متوفرة من أموال ورجال وسلاح.
لا يمكن للتعبية اصلاح ما تفسده الاستراتيجية.
ارتدادات الانسحاب الأمريكي ستكون خطيرة على المنطقة وسنحتاج لـ (200) سنة للتخلص من آثارها.
فهل بعد كل ذلك نقول شكرا لأمريكا ام نلعن طالبان ام حضنا العاثر.