18 ديسمبر، 2024 9:18 م

السياسة الأمريكية وإحياء نظرية المؤامرة

السياسة الأمريكية وإحياء نظرية المؤامرة

ليست نظرية المؤامرة التي شاعت في عقود النصف الثاني من القرن العشرين بين شعوب بلدان العالم الثالث ، بعيد مرحلة نيلها ما يسمى (بالاستقلال الوطني) في صيغتها النهائية ، سوى نمط من أنماط التوجهات الاستعمارية الرامية إلى خلق وتكريس الانطباع المفبرك لدى شعوب تلك البلدان ، ليس فقط إزاء الأسباب الفعلية لما تعانيه من أزمات سياسية وتوترات اجتماعية وصراعات دينية ، بل وكذلك حيال السبل التي يتوجب عليها انتهاجها لمعالجة تلك المشاكل والمصاعب المتفاقمة . أي بمعنى آخر حملها على الإيمان بواقع إن العوامل الخارجية (تدخلات سياسية ، وتبعيات اقتصادية ، وارتهانات إيديولوجية) ، وليس العوامل الداخلية (انقسامات قومية / اثنية ، وانشطارات جغرافية / مناطقية ، وخلافات دينية / مذهبية) ، هي ما يحول دون وحدتها الاجتماعية ، ويمنع تنميتها الاقتصادية ، ويعيق نهضتها الحضارية . بحيث تبدو الأمور على الجبهات الوطنية / الداخلية نموذجية لا تشوبها شائبة ولا يعكر صفوها طارئ ، لدرجة تتولد قناعة لدى الشعوب المستهدفة من أنها ستكون قادرة على إدارة زمام أمرها بذاتها ، فيما لو تركت تعتمد على نفسها دون وصايا إقليمية أو املاءات دولية ، إنما أس الشرور التي تمسك بخناقها وتكبل طاقاتها وتشل إرادتها ، تكمن في السياسات التي تتبعها والاستراتيجيات التي تخطط لها تلك القوى / الخارجية التي تمارس تأثيرها من خلف الحدود .

وهكذا تكون اللعبة قد انطلت على حكومات بلدان العالم الثالث فيما يتعلق بنظرتها لواقع حال الشعوب التي تقودها والحكومات التي تتزعمها ، بحيث تساق للوقوع بفخ التهوين من المشاكل المتراكمة والإشكاليات المستعصية التي ما انفكت تعصف بأركان أنظمتها السياسية ، جراء مظاهر الفشل المستمر في السياسات والتخبط المتواصل في الممارسات . وهو الأمر الذي تتصور معه إن الشعوب التي تحكمها باتت تتمتع ؛ بالاستقرار السياسي ، والتجانس الاجتماعي ، والتناغم الثقافي ، والتوافق الوطني . ومن ثم تعتقد أنها أضحت تمتلك المبررات الشرعية المسوغات الأخلاقية التي تمنحها الحق في الاهتمام ؛ (بتوثين) الدولة على حساب (تحصين) المجتمع ، والانهمام بحق (القوة) بدلا”من الاحتكام لقوة (الحق) ، وتغليب مصالح (السلطة) على حساب (تغييب) حقوق (المواطن) ، وتفضيل الممارسات (الدكتاتورية) بدلا”من المشاركات (الديمقراطية) . كل ذلك تحت ذريعة الخشية من تبعات (نظرية المؤامرة) على سلامة ما يزعم الأنظمة (الوطنية) ، التي لم تبرح (تناضل) لبناء أوطانها المستباحة وتنمية مجتمعاتها المعاقة .

ولعل هناك من يعترض علينا بالقول : وهل في ذلك من شك إزاء ما تتعرض له شعوب هذا العالم الغارق في الجهل والمعتق في التخلف ، بسبب التآمر (الامبريالي) و(الصهيوني) لإجهاض أية محاولة تستهدف إقالة تلك الشعوب من عثراتها المزمنة ، وإفشال أي مسعى يستهدف مساعدتها على النهوض من كبواتها المتوطنة ؟! . الحقيقة إن هدف هذه المقالة لا يرمي – كما قد يظن – إلى نفي وجود مثل تلك (المؤامرة) بالمطلق ، كما لا يروم التقليل من شأنها والتهوين من أمرها بخصوص الدور التخريبي الذي مارسته سابقا”– وتمارسه لحد الآن

– إنما تتوخى تسويق رأي وترويج فكرة مفادها : إن معظم ما تعانيه شعوب بلدان العالم الثالث سواء قبل فترة (الاستقلال) السياسي أو بعدها ، ناجم عن أسباب (داخلية) كانت بمثابة عوامل جذب وعناصر استقطاب للقوى (الخارجية) الطامعة ، لكي تشرع باحتلالها العسكري واستغلالها الاقتصادي واستغفالها السياسي ، ومن ثم العمل على تكريس وترسيخ مظاهر انقسامها القومي / الاثني ، وتفككها الاجتماعي / الطبقي ، وتشظيها الديني / الطائفي ، وتذررها الثقافي / الحضاري ، وتصدعها القيمي / الرمزي ، كما هو حاصل الآن .

هذا وكان عضو البرلمان البريطاني المعارض لسياسات الغرب والمتعاطف مع القضايا العربية (جورج غالاوي) ، قد لخص هذه المسألة من خلال برنامج حواري عرضته أحدى القنوات الفضائية سابقا”، عندما أوضح لإحدى المعترضات التي حاولت ربط تخلف بلدان العالم العربي بتآمر الولايات المتحدة وربيبها الكيان الصهيوني فقال ما معناه ؛ انتم العرب غالبا”ما تحاولون التملص من مسؤولية الأوضاع المزرية التي تعيشها أوطانكم وتعانيها شعوبكم بإلقاء تبعة ذلك على غيركم ، دون إن تكلفوا أنفسكم – ولو لمرة واحدة – عناء نقد الذات واكتشاف عيوبها . ماذا يمكن لأمريكا وإسرائيل – والكلام ما زال لغالاوي – والعالم الغربي من ورائهما أن تفعلا ، فيما لو توحدت كلمة العرب ازاء قضية من القضايا المطروحة ؟! . انتم أيها العرب من سمح لأمريكا وسواها من تسبب لكم بهذا الكم الهائل من المصائب والنوائب ، عبر انقساماتكم وتناحراتكم وصراعاتكم ، بحيث تمسكتم بالفروع ونسيتم الأصول ، وشغلتكم الأطماع الآنية على حساب المصالح الوطنية ، وفضلتم ما هو طارئ وعابر على ما هو مصيري ومستقبلي ! .

وهكذا فان السياسة الأمريكية حيال المحنة العراقية الحالية لا تخرج عن هذا الإطار ، إذ على الرغم من مواقفها المرائية وأساليبها الثعلبية إزاء استشراء ظاهرة الإرهاب التي عمت دول المنطقة بشكل عام والعراق على نحو خاص ، فإنها تعلم إن العالم يعلم إن أول من يتصدر قائمة الدول الراعية للإرهاب العالمي والداعمة له بالمال والسلاح ، هي الحكومة الأمريكية وثلة من حلفائها سواء من العرب أو الغرب . لا بل أنها تتعمد في بعض الأحيان تسريب ما تراه يسهم بإثارة الشبهات حول دورها في هذا الأمر ، لأجل أن توقع الأطراف المتصارعة في كمين (نظرية المؤامرة) ، التي فقدت الكثير من بريق سلطانها ووهج جاذبيتها ، أثر تعرضها للكثير من حملات النقد والتجريح من قبل غالبية التيارات السياسية في بلدان العالم الثالث . لاسيما بعد انهيار الخصم التقليدي للولايات المتحدة الأمريكية (الاتحاد السوفيتي) السابق ، وتفكك منظومة المعسكر الاشتراكي / الشيوعي وانتهاء مرحلة الحرب الباردة . حيث أماطة اللثام عن الكثير من العيوب والمثالب التي كان ستار الصمت يسدل عليها من قبل أنظمة تلك البلدان ، خشية افتضاح أمر انحرافها عن المسار الوطني ، وبالتالي تعرض شرعيتها السياسية للمساءلة العرفية والدستورية .

وعلى ما يبدو فان الحكومة الأمريكية نجحت – للمرة الثانية – في استمالة بعض الأطراف العراقية للاعتقاد بان تردي الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية ، على خلفية تمدد الجماعات المسلحة داخل فضاءات الجغرافيا العراقية ، ناجم عن دور أمريكا وحليفتها إسرائيل الرامي إلى تقسيم العراق جغرافيا”وتمزيق اجتماعيا”وتفكيكه حضاريا”، بحيث لم تعد – من وجهة نظر تلك الأطراف – عوامل الكراهيات القومية والصراعات الطائفية والمناكفات القبلية والحساسيات المناطقية ، مطروحة على جدول أعمالها كأولويات لا تحتمل التأجيل والتسويف

ينبغي أن تعالج وتحل ، قبل أن يصار إلى إلقاء التهم جزافا”على هذا الطرف الإقليمي أو ذاك ، أو هذه الجهة الدولية أو تلك ، متعكزين بذلك تارة على (نظرية المؤامرة) ، وتارة أخرى على (نظرية الفوضى الخلاقة) ، حيث انه بموجب هذا النمط من النظريات الاستعمارية يستحيل الأشرار إلى تقاة وأبرار ، وينقلب الشياطين إلى قديسين وملائكة !! .