22 ديسمبر، 2024 10:41 م

السيادة الوطنية ودائرة الولاءات

السيادة الوطنية ودائرة الولاءات

اكتشف الجميع فجأة, بعد زيارة الرئيس الامريكي دونالد ترامب قوات بلاده المتمركزة في قاعدة الأسد في غرب البلاد, خلسة, بأن السيادة الوطنية العراقية منتهكة. وكأنها لم تكن مستباحة منذ حرب احتلال الكويت والحصار الدولي بعدها. فقد كانت فرق التفتيش تصول وتجول في انحاء العراق حتى دخلت المكان ( الأكثر حرمة سيادية ) الا وهو مخدع الدكتاتور.
الوضع تغير بعد اسقاط النظام في 2003 واصبحت حدود العراق اكثر استباحة والغيت كل مظاهر السيادة الوطنية, بحل الجيش والاجهزة الامنية ورفع الرقابة على الحدود وتعطيل مؤسسات الدولة, وفتح استيراد السلع من الخارج على ابوابه بعشوائية مريبة, فأصبح الوطن ساحة لكل من هب ودب… من المخابرات الاجنبية الى عصابات الجريمة المنظمة ومهربي السلاح والنفط والآثار والمخدرات ناهيك عن الارهابيين المتحالفين مع ايتام البعث الذين وجدوها فرصة سانحة للتحرك…
وقد تمنى العراقي ان يكون نهج الدولة الجديدة بديل حقيقي لنهج دولة القمع والحروب, الآفلة ونهاية العنتريات القومية معه, لكنه ايقن بأن البديل الجديد ليس أقل خيبة من سابقه مع بدء حقبة الخناقات الطائفية والعرقية.
وبدل من اعادة تجميع ما تساقط من مقومات السيادة المتمثلة بأمساك الدولة بكل السلطات العليا والهيمنة الكاملة على الأرض والمؤسسات والأفراد والثروات في اطار دستور وقانون حاكم وملزم التطبيق, تبنت القوى المهيمنة نهج المحاصصة الطائفية – العرقية كنظام لأدارة الدولة, وبذلك جرى تقسيم عناصر هذه السيادة الوطنية فيما بينها, بتوزيع الوزارات والمراكز السيادية والأقطاعيات على احزابها كغنيمة, وفي تشكيل المؤسسات العسكرية والشُرطية على اساس تحاصصي مع اطلاق تكوين ميليشيات حزبية موازية لها يمنعها الدستور, وتوزيع الثروات بشكل ظالم بين قادة احزاب وميليشيات المكونات, مما ادى الى تمزيق نسيج المجتمع العراقي, وتراجع مشاعر الولاء الوطني, مسبباً تمترساً طائفياً عرقياً مسلحاً, انحدر بالبلاد ومواطنيها في أتون حرب طائفية دموية, ثم الى بروز نزعات الانفصال القومي.. كل هذا جرى مع دعم وتدخل سافرين من هذه الجهة الاقليمية او الدولية او تلك, وهي تسعى لتخريب اكبر للبلاد وانهاك اكثر للمواطن العراقي, وظهور علاقات تبعية واستزلام ذليلة للأطراف الخارجية المتدخلة بالشأن الداخلي العراقي والمنتهكة لسيادته واستقلاله..
استمراء ترامب طريقة دخوله العراق ثم الخروج منه بهذا الشكل دون اعتبار للأعراف الدبلوماسية والأصول البروتوكولية, كان لتوفر قناعة لدى ادارته بعدم وجود ضرورة لأوجاع الرأس وتقديم طلب من الحكومة العراقية, لأن الولايات المتحدة صاحبة الفضل الأول في اسقاط النظام السابق وهي التي اجلست قيادات هذه الاحزاب المهيمنة على كراسي السلطة, في الوقت الذي تشهد فيه بأم أعينُها المجردة والألكترونية كيف تحول العراق الى ” خان شغان ” تدخله كل يوم شخصيات غير ذات شأن بالمقارنة مع شخص رئيس بلادها الولايات المتحدة الامريكية صاحبة الفضل عليهم.
يمكن تفهم ردود الفعل الشعبية الغاضبة على هذا الانتهاك الفض للسيادة الوطنية, لكن ما يتعسر تصديقه هو مواقف الأطراف الحكومية والأحزاب السياسية المهيمنة وقادة الميليشيات, المبالغ فيها… ليس لعدم وجود خرق وانما لأن مطلقي التهديدات لترامب ب ( تأديبه فيما لو تجرأ مرة اخرى على انتهاك السيادة العراقية ) هم من مهدوا لخرق وانتهاك السيادة طوال سنين طويلة من ممارساتهم السياسية وكرسوه عملياً على الارض, من خلال السماح لحلفائهم بالدوس على هذه السيادة كما يحلو لهم.
ثم اتبعوه بقصف بعض فصائلهم لمحيط السفارة الامريكية في بغداد في المنطقة الخضراء, وهذا ما يمكن اعتباره انتقاصاً من السيادة الوطنية التي يدينون انتهاكها, بمصادرة دور الحكومة ذات الحق الحصري في متابعة الأمر ( قدم السيد رئيس الوزراء عادل عبد المهدي تبريراً متأخراً, في ملخصه الأسبوعي, لم يحض بقناعة الكثيرين من متابعي الشأن العراقي ), وبأستعمال سلاح الدولة الرسمي لأغراض غير قتال الأرهابيين, في خرق واضح للقانون العراقي.
لايخفى على أحد ولاءات هذه الجهات واهداف الغيرة المفاجئة على السيادة العراقية ومقدسات العراقيين التي يجب ادراكها في اطار عملية الصراع المحتدم على مناطق النفوذ وبالخصوص بين ايران وامريكا, لاسيما وان هذه القوى نفسها لم تنبس ببنت شفة عندما تسلل سفير الدولة الأسلامية الأيرانية في بغداد ” ايرج مسجدي ” منسحباً من احتفالية اقامتها قيادة الحشد الشعبي بمناسبة ذكرى الانتصار على داعش… وبسبب دعوة للوقوف دقيقة حداداً على ارواح شهداء العراق… والكل يعرف ما يعنونه في خطابهم الاعلامي, عندما يتحدثون عن شهداء العراق, فهم يعنون بالتحديد شهداء الفصائل المنتمية للحشد الشعبي والميليشيات الاسلامية الاخرى بالخصوص وليس كل شهيد عراقي سقط في قتال داعش. فالسيد السفير الأيراني, بتسلله المستهجن, لم يحترم قدسية حتى شهدائهم الذين يصرح يومياً, بأن دولته اول من ساعدتهم.
ان صيانة السيادة الوطنية تكون بقيام الدولة بمسك كل خيوط مقوماتها وممارسة دورها كاملاً, ونبذ تحاصصها, وبفرض القانون على الجميع بدون استثناء.