السيادة المفقودة أم الوصاية المنقذة؟ أموال النفط العراقي بين الفساد والرقابة الدولية

السيادة المفقودة أم الوصاية المنقذة؟ أموال النفط العراقي بين الفساد والرقابة الدولية

في الوقت الذي يُنظر فيه عادة إلى سيادة الدول على مواردها المالية كجزء أساسي من استقلالها ، تشكل الحالة العراقية نموذجاً معقداً يخرج عن هذا الإطار النظري . فعلى الرغم من أن العراق بلد نفطي غني ، إلا أن عائدات هذا النفط لا تخضع لسيطرة عراقية كاملة ، بل تُودع في البنك الفيدرالي الأميركي وتخضع لرقابة مشددة من قبل وزارة الخزانة الأميركية ، الأمر الذي يبدو لأول وهلة وكأنه انتقاص مباشر من السيادة الوطنية . لكن عند التمعن في طبيعة النظام السياسي العراقي وسلوك طبقته الحاكمة منذ 2003 ، يمكن قلب زاوية الرؤية ؛ إذ يظهر أن هذا الإجراء الرقابي ليس مجرد وصاية دولية مفروضة ، بل ضرورة لحماية أموال الشعب العراقي من العبث ، تماماً كما يُحجَر على “السفيه” في الفقه الإسلامي حفاظاً على ماله من التبديد.
لقد أثبتت السنوات الماضية أن الحكومات العراقية المتعاقبة ، بمختلف ألوانها وتوجهاتها ، لم تكن مؤتمنة على إدارة الثروة الوطنية ، بل تصرفت بقدر كبير من اللامسؤولية ، حيث استُنزفت الموازنات في عقود وهمية ، ورواتب مزدوجة ، وتمويلات مشبوهة لكيانات خارجة عن الدولة ، ومشاريع فاشلة لم تضف إلى البنية التحتية سوى المزيد من الخراب والديون . لذلك ، فإن الرقابة التي يفرضها البنك الفيدرالي الأميركي على عائدات النفط العراقي لم تكن عبئاً على المواطن كما يُشاع ، بل مثلت –بشكل غير مباشر– كابحاً لتغوّل الفساد ، وضمانة لبقاء جزء من هذه الأموال في الداخل ، ولو على شكل رواتب شهرية تحفظ الحد الأدنى من الأمن الاجتماعي والاقتصادي.
ولو لم تكن هذه الأموال تحت هذا النوع من الإشراف ، لكان من المحتمل أن تتسرب بشكل كامل إلى جيوب الأحزاب والميليشيات ومشاريع التبعية الخارجية ، التي تستهلك مقدرات الدولة وتعيد توجيهها نحو مصالح فئوية ضيقة . صحيح أن الفساد لم يتوقف ، وأن التبديد ما زال قائماً ، لكن وجود قيد دولي على الأموال خلق نوعاً من التوازن القسري بين شهية النخبة للنهب ، وضرورة توفير جزء من الموارد لتسيير حياة الناس . وبالتالي ، فإن ما يُعدّ شكلاً من أشكال الانتقاص من السيادة ، هو في حقيقته شكل من أشكال الحماية للشعب نفسه ، الذي ظل لعقود ضحية لتلك السيادة المُفرغة من المعنى ، حين كانت الدولة تملك المال دون حسيب أو رقيب.
إن التجربة العراقية تؤكد أن السيادة ليست مجرد شعار مرفوع ، بل مسؤولية تتطلب مؤسسات نزيهة وكوادر مؤهلة وإرادة وطنية صادقة . وما لم تتوافر هذه العناصر ، فإن أي سيادة مالية مطلقة ستكون مجرد فرصة أخرى لتمكين الفاسدين من مزيد من النهب ، لا خطوة نحو الاستقلال الحقيقي .

أحدث المقالات

أحدث المقالات