18 ديسمبر، 2024 6:07 م

السياحة الدينية في العراق خسارة فادحة

السياحة الدينية في العراق خسارة فادحة

قال تعالى في سورة الإسراء/29 (( وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُومٗا مَّحۡسُورًا)).
تعتمد كثير من دول العالم على السياحة بشكل عام كمصدر رئيس لإيرادات الدولة، مثلا قضى السياح في فرنسا (322) مليون ليلة للفترة من شهر نيسان ولغاية ابلول من العام الماضي، وكان عدد السواح (11.6) مليون سائح رغم جائحة كرونا، وفي تركيا بلغ عدد السياح اكثر من (40) مليون سائح، وبلغت الايرادات (46) مليار دولار عام 2022. وعلى مستوى الدول العربية بلغ عدد سواح مصر (3.4) مليون سائح، جاءت الجزائر افي المرتبة (52) عالميا في السياحة، وعلى الرغم من جائحة كورونا فقد ازداد عدد السياح حسب منظمة السياحة العالمية عام 2022 (900) مليون أي ما يعادل ضعف السياح عام 2021. وهذه النسب في بعض الدول لا تمثل العدد الحقيقي بسبب الجائحة، مثلا في زيارة لفرنسا تحدث لي أحد المسؤولين الفرنسيين عام 2018 بأن عدد السياح تجاوز (89) مليون سائح حسب الإحصائيات الرسمية، وأكد بأن وزير السياحة غير راضِ على هذا العدد، ويأمل بتجاوز (100) مليون سائح خلال السنة القادمة. تأتي اسبانيا بعد فرنسا في عدد السياح، فقد بلغوا عام 2018 ما يقارب (83) مليون سائح، رغم انها قريبة من فرنسا وأقل جمالا منها، لكن لا يوجد بلد يرتاح فيه السائح تفسيا اكثر من اسبانيا وتليها فرنسا بسبب طباع أهلها الجميلة وتعاملهم الطيب مع السياح، على العكس تماما من تركيا، فجمالها يعكره غلاظة وخشونة أهلها واستغلال السياح سيما في اسطنبول، وهذا ما ينطبق على ايطاليا والمانيا. وهذا الكلام ناتج عن عدة زيارات لتلك البلدان.
السياحة الدينية
تعتبر الزيارات الدينية من أقدم انواع السياحة في العالم وهي تتعلق بزيارة المناطق المقدسة عند أصحاب الديانات السماوية والوضعية، وهذا الأمر يشمل معظم الديانات، ولعل ابرزها زيارة مكة والقدس والمعابد في الهند والصين وبعض البلدان الآسيوية، وميزة السياحة الدينية ان الحكومات هي التي تأخذ على عاتقها تنظيمها، واحيانا حصرها في فترة زمنية محددة وتهيئة مستلزماتها، وهناك أماكن مفتوحة يمكن للسياح زيارتها في أي وقت، فالزيارة لمكة لأغراض الحج والعمرة محددة في أوقات معينة، حيث تأخذ السلطت السعودية على عاتقها مسؤولية تنظيمها والمحافظة على أمن وسلامة الحجاج، وتوفير كافة مستلزمات الحج، وتقوم المملكة بتوفير فرص الحج للدول حسب حصص معينة لتلافي الإكتظاظ والإختناق خلال موسم الحج بشكل خاص.
يوجد في المملكة العربية السعودية (6300) موقع أثري، واهمها المدينة المنورة والمسجد النبوي وجبل أحد والمسجد الحرام ومقبرة البقيع. وتحقق المملكة ايرادات كبيرة من زيارة الحجيج، حيث يزيد عددهم عن (2) مليون حاج، ويبلغ متوسط نفقات الحاج الواحد (2500) دولار، وقد قدم ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مشروعا هائلا لتنظيم الحج خلال عام 2030 من خلال التوسيعات في المدن والفنادق والخدمات لإستضافة (30) مليون حاج ومعتمر، مما سيوفر للملكة ايرادا قدره (50) مليار دولار سنويا، اي ما يعادل نصف وارداتها النفطية عام 2021 والبالغة (119) مليار دولار. سيكون ايراد الحج في السعودية منافسا لتصدير النفط علاوة على بقية الإستثمارات الإقتصادية التي حولت الإقتصاد السعودي من أحادي الجانب الى متعدد الأطراف.
لنأتي الى الطامة الكبرى حول السياحة الدينية في العراق
يوجد في العراق عدد كبير من المناطقة السياحية والمهيئة للسياحة وتقدر بحوالي (12000) معلم سياحي وأثري، لكن مع الأسف لم تأخذ جميع الحكومات قبل وبعد الغزو الإهتمام بهذا الجانب المهم، وأهمها مدينة أور التي بناها الملك السومري (أور نمو) والتي زارها قداسة بابا الفاتيكان فرنسيس، وهي أول زيارة يقوم بها بابا الفاتيكان الى أور. كانت أور المعروفة بزقورتها عاصمة السومريين، وهي مولد النبي إبراهيم الخليل (ع) والتي يعتقد انه ولد فيها بين 2000 ـ 1700 ق.م. ومنها مدينة نمرود عاصمة الآشوريين وتقع في مدينة الموصل، وتعود الى شلمنصر الأول في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وتوجد فيها مجسمات الثيران المجنحة إضافة إلى بقايا قصر آشور ناصربال الثاني. ومدينة الحضر التي تحتوي على معابد مزخرفة وتعود الى العصر البارثي، واعتبرتها منظمة اليونسكو من مدن التراث. ومدينة نيبور، في منطقة عفك وتقع على هضبة، وهي العاصمة الدينية للبابليين، وتضم مكتبة كبيرة وملعب رياضي ومعابد وآثار مهمة. ومنها مدينة سامراء التي بناها الخليفة المعتصم، وتضم الجامع الكبير الذي بناه المتوكل، وفيه مئذنة المليوية التي يبلغ ارتفاعها (52) مترا، علاوة على قصور منها قصر العاشق والمعشوق الذي بناه الخليفة المعتمد، وقصر الخليفة المعتصم. علاوة على مئات المناطق الاثرية كالجنائن المعلقة والمدرسة المستنصرية ومقامات النبي جرجيس ويونس والكفل وغيرها من المناطق الأثرية والدينية.

السياحة المذهبية في العراق
تتعلق هذه الزيارات بالأضرحة والعتبات الشيعة وأهمها مرقد علي بن أبي طالب في النجف، والحسين والعباس في كربلاء والعسكريين في سامراء، ومرقد الكاظم في بغداد، ومسجد الكوفة، وغيرها من المراقد والعتبات يؤمها الشيعة من العراق والدول التي تضم شيعة سيما ايران وباكستان وافغانستان ولبنان ودول الخليج العربي، ولا توجد معلومات صحيحة عن عدد الزوار، فغالبا ما يبالغ فيها والا كيف نفسر ان عدد الزوار يترواح ما بين 2 ـ 12 مليون زائر حسب التصريحات، علما ان كربلاء لا تسع حتى المليوني زائر، والغرض من ذلك منافسة مكة في عدد الزوار، مع ان الدين الشيعي يعتبر زيارة كربلاء أفضل من حج الكعبة (بمغالاة ايضا) ما بين 100 حجة الى مليون حجة. والحقيقة انه كلما زاد عدد الحجيج الشيعة (تسمية إمامية للزوار) لكربلاء كلما تعاظمت المشكلة وخسارة العراق، لأن السياحة الدينية في العراق تكبد الدولة وشيعة العراق المليارات من الدولارات التي تنفق على الزوار الشيعة، فالسياحة الدينية في العراق هي السياحة الوحيدة في العالم التي تكبد البلد الخسارة.
الزوار الايرانيون مثلا غالبيتهم بأتوا مشيا من المعبر الحدودية في مندلي والشلامجة وبدرة وزرباطية، البعض منهم لا يحمل نقودا، فكرم البلاهة والإستحمار هما من يغطيا نفقات حجهم في العراق.

مرحلة السخاء الأولي
تبدأ قبل دخول الحجاج الأجانب الى العراق، حيث الكرم الخرافي، فسمات دخول العراق مجانية، ولا يحتاج الزائر الى جواز سفر او وثائق تثبت شخصيته، ولا يوجد تفتيش للزوار في نقاط التفتيش الحدودية، لمعرفة ما يحملوه معهم، البعض منهم يحمل مخدرات معه، ذكر لي أحد ضباط الحدود ان أحد الزوار الإيرانيين كان يحمل قرآنا كبيرا وعندما أخذ ليقبله وجد فيه رائحة غريبة، وتبين انه محفور الأوراق من الداخل ومعبأ بالمخدرات، وشاهدنا البعض جاء راكبا الدرجات الهوائية.

مرحلة السخاء الثاني:
ما ان تطأ أقدام الزوار أرض العراق، حتى تبدأ مرحلة السخاء الشاذ، حيث تؤمن للزوار خياما للنوم مع المأكل والمشرب، بل حتى غسل الأقدام وتدليكها، ومع الأسف تقبيلها من قبل بعض المستحمرين والجهلة، ويستمر الحال نفسه طوال الطريق من الحدود العراقية الى العتبات الشيعية، وهناك باصات تؤمنها وزارة النقل العراقية لنقل من يرغب ركوب الباص مجانا، ويمكنهم زيارة سامراء والكاظم بباصات الدولة مجانا أيضا.
حساب تخميني لإيرادات ضائعة
لو حسبنا ان عدد الزوار الأجانب على أقل تقدير (2) مليون، وان كلفة سمة الدخول (100) دولار، وان ما ينفقه الزائر (1000) دولار خلال مدة الزيارة، فتكون ايرادات سمات الدخول (100) مليون دولار، وايرادات الزيارة (2000000000) دولار فقط خلال شهر محرم فقط، ناهيك عن بقية الزيارات، والأغرب منه ان بعض الزوار الايرانيين يجلبوا معهم اضافة الى المخدرات سجاد وبضائع ايرانية يبيعوها في العراق، فتكون زيارة وتجارة رابحة معا.
ان عدم حمل الزوار الأجانب جوازات سفر واوراق ثبوتية خلال زيارتهم للعراق يعني فسح المجال امام الارهابيين لدخول العراق في ظل الفوضى العارمة في المراكز الحدودية، سيما ان قيادات تنظيم القاعدة الإرهابي يقيمون في ايران، وعلاقة النظام الايراني بالدواعش جيدة. والدليل ان داعش لم تنفذ اية عملية ارهابية في ايران، وعندما طلب منهم النظام الايراني الابتعاد عن الحدود العراقية الايرانية لمسافة (40) كم، نفذوا الأمر بحذافيره. سبق أن صرح قائد القوات البرية في الجيش الإيراني (أحمد رضا بوردستان) عام 2015 ان ايران ارسلت خمسة الوية من جيشها على الحدود العراقية خشية من تنظيم داعش، ثم سحبت هذه الألوية ” بعد أن التزمت داعش بخط الـ 40 وصرح الجيش الإيراني يومها بأنه لا ضرورة لاستمرار حالة التأهب على الحدود الغربية مع العراق بعد التزام داعش بالابتعاد عن الحدود”. (موقع ديكر بان)
ويمكن القاء نظرة على واردات العراق من زيارة الشيعة الأجانب الى العتبات في الماضي القريب ” أن مجموع ما أنفقه سلاطين العجم وملوك الهند من الشيعة على هذه المساجد يناهز عشرة ملايين ليرة. والشيعة تقصد زيارة المراقد الطاهرة من ديار قاصية فيأتي إلى العراق كل عام نحو مائتي ألف شيعي من الهند وثغور فارس وسواحل الخليج وبخارى وخيوه والصين لزيارتها وتقديم الطاعة الدينية لها فإذا أن متوسطة ما ينفقه كل زائر خمسة جنيهات كان نصيب العراق سنوياً لا يقل عن مليون ليرة فهناك القومة والحجاب والمرشدون إلى آداب الزيارة والعلماء المجتهدون يعيشون من هذه الزيارات وعددهم يقدر بالألوف ومنهم من لا يقل ريع أحدهم سنوياً عن بضعة آلاف من الليرات وقد كان في النجف قبل حوادث فارس الأخيرة والحرب العامة نحو ثمانية آلاف طالب علم يقتاتون طوال السنة بما يربحونه في بضعة أيام من الزائرين ولو كان في البلاد خطوط حديدية لكثر عدد السياح والزائرين واستفاد العراق أضعاف ما يستفيده اليوم وفي استطاعة أهل الحل والعقد أن يمدوا خطاً حديدياً من خانقين إلى النجف ماراً بكربلاء فإن خزائن الأئمة المملوءة بالمجوهرات والعقود الثمينة تكفي للقيامة بأعظم من هذا الخطة وحينئذٍ يرتبط العراق بفارس ربطاً محكماً ويتدفق سيل الثروة على الأمة العراقية من كثرة ورود المتدينين إلى زيارة العتبات الشيعية”. (مجلة المقتبس/مجلد 4/ جزء 11 عام 1911). قارن هذه الحالة بما يجري اليوم في بلد تبلغ فيه نسبة الفقر 40% من السكان.
السياحة الدينية لو استغلت بشكل عقلاني وحكمة ووطنية، وليس بشكل عقائدي فقط، لكانت مصدر ربح وليس خسارة للعراق، وهذه الخسارة تفاقمت بعد عام الغزو 2003، وتسلم الشيعة دفة الحكم في العراق.
تصور شيعي أجنبي يأتي لزيارة العراق ولا يحمل قرشا واحد، ويأتي بمخدرات وسجاد ومواد أخرى يبيعها في العراق ويستلم المال ويعود به الى بلده، يأتي العراق مفلسا ويغادره محملا بالمال. يصدق القول على العراق:
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم.