عاش السياب حياة قصيرة قاسية امتدت لستة وثلاثين عاما، قضى أيامها الأخيرة مشلولا وعاجزا عن أي شيء في مدينة الأدب والشعر والتراث. ولكنه – على الرغم من كل ذلك – كان في بداية حياته الشعرية منصتا إلى ذاكرته وهي تستعيد ما أنجزه أجداده في الشعر والقراءات المتنوعة للقران الكريم وتفسيره، إضافة إلى ذلك النشاط الثقافي الحي في المساجد والأسواق ومنعطفات الطرق وهي تسجل وجهات نظر جريئة عن الحياة والدين واتخاذ العقل أساسا في التفكير والتفسير.
ولم يكتف السياب بالثقافة العربية والشعر العربي، بل إنه استثمر معرفته باللغة الأنكليزية ليطلع على إنجازات الشعر العالمي والثقافة العالمية في مجال الأدب، وليتسنى له بعد ذلك أن يشعل شعلة التجديد والحداثة في الشعر العربي مع مجموعة مثقفة من الشعراء العراقيين والعرب.
لقد تحرى السياب مظاهر التجديد في حياتنا المعاصرة، في تلك الأنساق الخفية التي تومئ للتغيير في كل مناحي الحياة الثقافية والاجتماعية والروحية، في وطنه وفي الوطن العربي الكبير.
وكان مشاركا فعالا في الحياة السياسية في العراق إبان نهاية الأربعينات وبداية خمسينات القرن العشرين في المظاهرات والانتفاضات ضد أنظمة الاستبداد وهي تقمع بقوة السلاح، إضافة إلى الانفتاح على الثقافة العالمية بما يتوفر في المكتبات العربية من كتب اجنبية. كل ذلك سجل هاجسا قويا كي يندفع هو وأقرانه من المبدعين لإشعال نار الحداثة في الشعر والأدب والحياة،.
وقد تجسد ذلك في شعره، وفي ممارساته النضالية في بداية حياته الضاجة بكل جديد. فقد كان السياب ينشد للثوار وهم يسجلون احتجاجاتهم ضد العسف والجور والفقر، عبر قصائد كان يقرأها أمام المتظاهرين، وأخرى كانت تلحن وتغنى في السجون والمعتقلات لتزرع الأمل والتفاؤل في حياة جديدة قادمة.
وفي الوقت نفسه، كان يسهم في تجديد الشكل الشعري للقصيدة الحديثة، في قصائده المعروفة: المومس العمياء وحفار القبور وأنشودة المطر وغيرها.
يصف الشاعر يوسف الخال شخصية بدر وشاعريته قائلا: “وللتعويض عن افتقاره إلى الحسن، صقل شاعريته ما استطاع ، وشهرها في سبيل الحب والحنان .. وظل الأجمل فيه شغفه بالجديد وانفتاح صدره على المدهش والمستحيل في كل شيء فعاش كأنما إلى الأبد، شروقا يلاحقه غروب، وكان، حين تلقاه شبح فارس في بريق الظلمة تتأمله فإذا الجراح العربية وقد لفها الضماد”.
ولذا فإن قراءة شعر السياب بعد خمسين عاما على رحيله، ينبغي لها أن تحذف مظاهر الضعف والوهن في مواقفه السياسية والفكرية الشعرية وأيضا، في الفترة التي اشتد عليه المرض فكان سببا واضحا في توجهه نحو الشكوى واستجداء العطف، وأن تتجه القراءات إلى متون قصائده الشامخة وحياته في كامل عافيته، لتكتمل صورة الشاعر الذي تجاوز عصره، فأصبح جذرا قويا في الحداثة الشعرية العربية، وقامة شعرية عملاقة نتباهى ونفخر بها.
لقد عاش السياب فترة من أشد الفترات السياسية والاجتماعية العراقية حراجة، وهو يعيش عصرين متجاورين أحدهما النظام الملكي الذي هجاه السياب في قصائد كثيرة، وثانيهما النظام الجمهوري الذي كان ينتظره والذي سبب له أزمة عميقة في الانتماء وفي التباس وجهة نظره السياسية التي كانت وراء تقلبات مواقفه السياسية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. وقد سبب ذلك عزلة الشاعر عن أصدقائه اليساريين بشكل خاص، وانتقاله بين كتل سياسية قومية متطرفة.
ولعل رسالة الدكتور صفاء الحافظ التي بعثها من برلين إلى هيئة تحرير الثقافة الجديدة في بداية سبعينيات القرن العشرين تلقي ضوءا على الأزمة التي شكلت إحدى الإشكاليات في حياة السياب الفكرية والشعرية. فهو يقول فيها إنه وجماعة من الشيوعيين التقوا بدرا في بيروت وحذروه من التعامل مع مجلتي حوار وشعر وكادرها لأنهما من المجلات المدعومة من أمريكا، لكنه رفض تحذيراتهم، مما دفع الدكتور صفاء إلى القول بأن بدرا قد مات منذ ذلك التاريخ، ثم يسرد مجيء بدر إلى مقر جريدة اتحاد الشعب التي أصدرها الحزب الشيوعي في بداية ثورة 14 تموز 1958 ليهنئهم بالثورة وصدور الجريدة ولكنهم – كما يقول الدكتور صفاء – قابلوه ببرود وعدم اكتراث مما دفعه للخروج من بناية الجريدة حزينا.
لكن الدكتور صفاء الحافظ يعلق على هذا الموقف قائلا كنا حزبا وكان فردا مما يعني أن هذا الموقف كان قاسيا على شاعر مرهف كالسياب مما دفعه بعد ذلك إلى التشهير بالحزب عبر مقالاته الغاضبة التي نشرها بعنوان “كنت شيوعيا”.
أخيرا يظل السياب قامة من قامات الحداثة الشعرية العربية ورائدا من روادها، ولذا ينبغي علينا قراءة منجزه الشعري، قراءة ثقافية تنحو إلى توثيق العلاقة بين ثقافته وتطلعاته الفكرية والإنسانية بمنجزه الشعري الجديد، الذي لم يكن طفرة أو نزوة من نزوات الشاعر بل كانت عصارة حياة تحمل أحلام التغيير في الواقع المعيش وفي الشعر.