27 ديسمبر، 2024 1:47 م

السوسيولوجيا الانتخابية .. ملاحظات حول السلوك الانتخابي في العراق

السوسيولوجيا الانتخابية .. ملاحظات حول السلوك الانتخابي في العراق

تفتقر اغلب الدراسات للظاهرة الانتخابية في العراق أو العالم الثالث الى دراسة العامل السلوكي للناخب , مما أنتج فراغا في دراسة السوسيولوجيا الانتخابية وتحديدا السلوك الانتخابي , وهذا يعود الى اسباب عديدة نظرية و عملية , الا ان ذلك يعكس بالمجمل غياب الاهتمام وقلة الاشتغال والانشغال بحقل السوسيولوجيا السياسية , لذا يلجأ الباحثون الى التركيز على العوامل الهيكلية كالقوانين أو الادارة أو البنى المؤسسية للنظام والفاعلين السياسيين , كأن الظاهرة الانتخابية محض متوالية حسابية وصناديق ومقاعد وقوى سياسية , بأختصار اصوات لا مصوتين , من هذا المنطلق تأتي هذه المقالة بصيغة ملاحظات على السلوك الانتخابي في العراق , لأثارة الاهتمام بهذا الحقل , وسواء كانت هذه الملاحظات ذات وصف أنطباعي أو استقراء أولي للسلوك الانتخابي العراقي , وسواء اتفق عليها او اختلف معها الباحثون , جزئيا أو كليا , والافضل الاختلاف لانضاج وتطوير النقاش بصدد هذا الموضوع , الا انها تشكل دعوة لاعادة التفكير في العامل السلوكي للناخب في سياق الاهتمام بحقل السوسيولوجيا الانتخابية عراقيا . وهذه الملاحظات هي :- 
التربة ضعيفة ..  نقصد بيئة السلوك الانتخابي .. لكن بالارتباط مع التقاليد المدنية ربما ينطبق هذا الوصف أكثر على المرحلة ماقبل العام /2003, فبالرغم من طبيعة النظام القهري – الليفثنانث –انذاك , لكن كانت هناك بقايا وان هامشية وبعضها مضمرة من مظاهر مدينية   , لاسباب لا مجال هنا للتطرق لها, قسم منها أيدلوجية , وقسم أخر سياسية ..الخ , الا انه وبعد ذلك العام وعكس المفترض جرى انهاك للتربة بل وتجريف حتى تكاد اليوم تكون ارضا بوار , هنا نتحدث حصرا عن احد اهم مستلزمات الديمقراطية والانتخابات وهي التقاليد المدنية .
مثال : القيم الاقتصادية كان رافعة التطور المدني , في اوربا فأن الراسمالية قادت قاطرة التحديث , وفي العالم الثالث فان النماذج الناجحة هي تلك التي حققت طفرات اقتصادية , في هذا السياق وعند زيارة المنطقة المحيطة بضريح الامامين في كربلاء تتفاجئ بالمستوى البسيط والمتواضع ( المطاعم / الفنادق/ المحال التجارية .. الخ ) الاشبه بالمنطقة المحيطة ببعض مرائب النقل في بغداد , رغم الامكانات الهائلة في تلك الاحياء حصرا, وبمعزل عن الدولة, وفي ظل استقرار امني نسبي قياسا بالمناطق الساخنة في العراق , فحتى القطاع الخاص والاشخاص ليس لديهم الدافع لتطوير مراكز أعمالهم , طبعا مع الاخذ في الاعتبار ان بعض مظاهر العمران الحديث الموجودة في المدن الدينية (كربلاء/ النجف ) لا تقارن بالامكانيات والموارد هناك .  
المكان الذي يمكن أن تصل اليه يتوقف على المكان الذي أتيت منه , لذا من الضروري توصيف الحدث السياسي عام 2003 , لم يكن بالمصطلح العلمي أنتقالا او تحولا أنما كان تغييرا سياسيا , لانه وبكلمة مختصرة كان من الخارج أولا, ومن الاعلى ثانيا , وثالثا ان السيرورة انقطعت منذ أنتهاء العهد الملكي , طبعا التجربة السياسية في العهد الملكي على علاتها وعواهنها . 

الثقافة السياسية .. منظومة القيم والمفاهيم لازالت ذاتها سياسيا, اذا لم تكرس وتتجذر , مثلا في النظام السابق كان السؤال الذي يتكرر عند لقاء رئيس النظام مع اشخاص عن المنطقة والاهل  .. الخ , بعد /2003 نفس السؤال يحكم العلاقات بين الاشخاص , أوبينهم  و السياسيين , اذا استمرت معايير التمايز والانقسام الاجتماعي / السياسي , وهو ما أعيد أنتاجه انتخابيا .

على صعيد الوظيفي , لازال الناخب لا يعرف وظيفة الانتخابات , حيث يتم مقاربتها سلوكيا وقيميا بأعتبارها أما بيعة دينية ” أولي الامر الواجب طاعتهم ” , او مناصرة عشائرية ” أنصر أخاك ظالما أو مظلوما ” , او بعدها استفتاءا على الهوية الأثنية أو الجهوية , بأختصار ينظر للانتخابات كوسيلة للتعبير عن صورة ومكانة الجماعة الاولية وأفرادها , وليس كوسيلة لمحاسبة شعبية للسياسيين , وأعادة تقييم للبرامج الانتخابية , و الاداء المؤسسي للنظام ..الخ , وهذا يمثل تغذية عكسية للمرشحين والاحزاب السياسية بأعادة توظيف هذه القيم في سلوكهم الانتخابي , وكدالة على ما تقدم فقد وجد العديد من المراقبين للانتخابات العراقية أن الكتلة الاكبر من المصوتين كانو من العالم القروي في عدة دورات انتخابية .- الانتخاب الماضوي : – أحدى قيم النهضة الاوربية , والحداثة الاجتماعية , بكلمة اخرى المدنية , أن الانسان سيد نفسه و مصيره , لذا فأن الانتخاب يمثل فكرة المستقبل الذي يصنعه الانسان بنفسه, والمستقبل يرتبط بقيمة التغيير  بمعنى التجديد , وهو جوهر الحداثة السياسية المعبر عنه  بالديمقراطية  , اما المجتمعات التقليدية فهي تقاوم التغيير بشدة , ولا تؤمن بالمستقبل الا بوصفه استمرار للماضي , وهذا ينعكس على السلوك الانتخابي , بمعنى أخر ان المواطن ينتخب بأثر رجعي , وليس بأثر مستقبلي , لانه يؤمن ان الافضل والانقى والاصلح في الماضي , ويجب العودة أليه , وهذا ما يتجسد في الدعاية الانتخابية , فاذا ما قمنا بتحليل مضمون اغلب الملصقات والشعارات نجدها مشبعة بالمضامين الماضوية , والموروث الديني والتاريخي , والمستقبل اذا ورد فبعده أمتدادا وتعبيرا عن الماضي .
 – المشاركة المدنية والثقة المعممة : أن المشاركة المدنية وأحدى صورها المشاركة الانتخابية , تبنى على قيمة الثقة المعممة , لا الثقة الخاصة , لذا فان الثقة تكون ضعيفة بين الجماعات في الثقافة التقليدية , اما في المجتمع المدني , لاسيما في مراحله الاولى فأن الثقة تنشأ أعتمادا على عدة عوامل منها :
1- الطرف الثالث : وهو ما أكد عليه علماء السياسية المعاصرون و واضعي النظرية الاجتماعية , مثلا فوكوياما صاحب مقولة الدولة أولا , وقبله هوبز , وروستو بمعنى اخر , وغيرهم , وهنا نقصد السلطة الرسمية (  authority) , لكن المشكلة أن الطرف الثالث يجب ان يكون موضع ثقة, أي غير منحاز اجتماعيا , بمعنى ان يكون فوق الجماعات  والصراع الاجتماعي, ناظما للصراع لا طرفا فيه ,  وهذا يرتبط بالهيكل الاجتماعي العام , بمعنى ان تكون البنية المؤسسية للدولة مصدرا للامان الشخصي والاجتماعي , عدا ذلك من المستحيل أن تنال الدولة ولاء الجمهور , والبديل المنطقي هو الشبكات غير الرسمية , اللانتماء المتبادل .2- العقد : العقد بالمعنى القانوني هو اساس المنهج الوضعي الحديث لا سيما أجتماعيا , وعندما يكون العقد غير نهائي/ غير دائم , ولا محدد/متشعب كثيرا , وغير واضح الالتزامات ,  سيحدث ارتداد عن مثل هذه العقود , تنجم عن وتؤدي الى اللايقين , وعدم الثقة , و الهروب من المسؤولية , والاستغلال , والانعزال , بأختصار الفوضى والركود, وكما معروف أن العقد الاسمى للدولة وهو الدستور تنتج عنه شبكة من العقود الاصغر وهي القوانين والانظمة واللوائح والاعراف القانونية والادارية .. ألخ , في العراق فأن دستور 2005 هو دستور دائم من الناحية القانونية , الا أنه دستور مؤقت من الناحية السياسية, وكعقد اجتماعي كذلك , بحكم المواد المعلقة رقم ( 140/142) والتي كانت شرطا لتمرير الدستور لدى مكونين اساسيين من المجتمع العراقي , هذا من جهة , ومن جهة اخرى عدم اكتمال القوانين الدستورية لأكثر من خمسين مادة , فضلا عن الالتباسات والغموض والتعارضات في كثير من مواده الاخرى, مما يطعن في ميثاقية العهد وصدقيته ويدفع الى التخلي عنه سلوكيا , وهو ما يتجلى بأبرز صوره في الممارسة السياسية للفاعلين السياسيين ,كما في الالتزام بالقانون عموما لدى اغلب المواطنين.

3- السلفة الاجتماعية : نحتاج الى جمعية القروض الدوارة , لكن بمعنى أخر , اجتماعيا  بمعنى الا يكون هناك راكب مجاني ليدفع الاخر أو الاخرون الثمن , عندها يصبح الاحمق من يلتزم , هناك رعي مفرط في الارض المشاع , وبمعنى سياسي أن المبدأ الموجه للمجتمع الحديث ” كل واحد لنفسه , والدولة للجميع ” , ما تقدم يرتبط بمنطق العلاقات في دولة ريعية تنتج عنها سلطة زبائنية , فبدون أنماء متوازن ورفاهية اقتصادية ترتبط بالانتاج الاجتماعي , لايمكن للفقراء والمهمشين أن ينخرطوا في مشاركة تنزع للمدنية, وحتى على صعيد المجتمعات الغربية الديمقراطية لاحظت الدراسات أن فئة المستخدمون في البيوت يسجلون أدنى نسبة مشاركة ,  لانها  ستمثل أكلاف بدون عوائد , بمعنى نوع من السخرة أو الارغام القهري, منطق الاحمق , والتخلي عنها لمصلحة العلاقات الضيقة سيكون المعادلة الاجدى, وهو ما يواجه عملية تحديث سجل الناخبين الحالية التي سجلت مستويات متدنية , أضطرت معها الحكومة الى اصدار تعليمات الى موظفي الدولة بتحديث سجلاتهم الانتخابية , وهي تعليمات تستبطن الجزاء وأن يكن غير معلنا .

من مجمل ما تقدم , وفي ضوء قراءة للدورات الانتخابية السابقة , نخلص الى أن السلوك الانتخابي في العراق يتجه نحو ثلاثة أنواع اساسية هي :-
1- التصويت الإنصياعي: هنا يكون التصويت نتيجة الإكراه الخارجي الذي تمارسه الجماعة الإجتماعية على الفرد مما يجعله مرغما نحو أتباع سلوك إنتخابي معين.
2- التصويت المباع : وهو السلوك الناجم عن مقايضة صوت الناخب بمكافات عينية او نقدية , وهذه الفئة يمكن توصيفها بالزبائن المؤقتين .
3- مقاطعة الانتخابات: وهو ما ينجم عن عدة اسباب بعضها يرتبط بالشعور بعدم جدوى الانتخابات وعدم قدرة الانتخابات على احداث تغيير حقيقي , وفقدان مصداقية النخبة الحاكمة , أوموقف ناتج عن تراجع مكانة الجماعة في المخيال التاريخي , أو فئات متضررة من النظام الجديد … الخ , وهي بالمجمل مواقف سلبية .

ما هو الحل : الحل هو في أعادة فحص الملاحظات أو التعميمات السابقة , وذلك بالمنهج الكمي , لنتبين محددات ومستويات تلك الافتراضات, وأي أفتراضات معاكسة أخرى , و أن بقدر محدود , وفقا لمعايير العمر والشريحة الاجتماعية والنوع الاجتماعي والتحصيل الدراسي والمنطقة .. الخ , وهذا لا يحدث بطريقة تسطيح الاستبانات التي تنتشر في العراق اليوم , يجب اولا حصر حدود الظاهرة , ثم تحديد المتغيرات الاساسية واستبعاد الثانوية , ثم نفتح المفهوم , ونحوله الى متغيرات قابلة للقياس الكمي , ونضع اسئلة مصفاة , الخ من التقنيات , هذا من جهة , ومن جهة أخرى يجب أن نأخذ بالسياق الاجتماعي وهذه احدى اهم الاخطاء المنهجية في البحوث الاجتماعية والسياسية في العراق والمنطقة , عندما نجرد المفاهيم من سياقاتها و نبدأ بالقياس عليها . وفقا لما تقدم وبعد استخلاص النتائج يمكن وضع خطة منهجية للعمل .