باسم الهوية نتفق و نختلف و باسمها نصنع السلام و الحروب. لذا من الضروري معرفياً و اجتماعياً أن نحاول فهم ما هي الهوية. نرصد في هذه المقالة تنافس النظريات المختلفة حول ما هو التحليل الصحيح لمفهوم الهوية لنشهد أخيراً المواجهة الفكرية و الاجتماعية بين السوبر هوية و السوبر انعزالية.
جدل الجسد و الذاكرة
يوجد اتجاهان أساسيان في تحليل الهوية هما الاتجاه العقلي و الاتجاه الجسدي. قدّم الفيلسوف و المفكر جون لوك تحليلاً عقلياً سيكولوجياً لمفهوم الهوية. بالنسبة إلى لوك , الهوية الشخصية كامنة في استمرارية التجارب العقلية السيكولوجية عبر الزمن. هكذا استمرارية الوجود السيكولوجي و ما تحتوي من تواصل و ترابط بين المشاعر و الأفكار و الذكريات تضمن استمرارية وجود هوية هذا الفرد أو ذاك. أن تبقى حالات العقل في ماضي الفرد مترابطة و متواصلة مع حالات العقل في حاضر الفرد و مستقبله يعني أن يملك الفرد هوية شخصية تصاحبه في كل أزمنته. فبمجرد أن يتذكر هذا الشخص أو ذاك أن هذه هي تجاربه و أفكاره و مشاعره إلخ و يعي تجارب ماضيه على أنها له يصبح الشخص حائزاً على هوية شخصية كانت تحيا تلك التجارب الماضية و استمرت في الوجود في الحاضر على أساس ارتباطها بتجارب الماضي. من هنا , الهوية بالنسبة إلى لوك قائمة في الذاكرة و الذكريات. لكن يتعرض هذا التحليل للهوية إلى نقد قاتل مفاده التالي : من الممكن للفرد أن يفقد كل ذاكرته فتواصله السيكولوجي مع ماضيه , و رغم ذلك يبقى هو هو عين ذاته. في هذه الحالة يُوصَف هذا الفرد على أنه هو نفسه لكنه فاقد لذاكرته. ففقدان الذاكرة لا يتضمن فقدان الهوية. مثل ذلك أنه إذا قتل فرد ما شخصاً آخر و من ثم فقد ذاكرته فهذا لا يعني أنه فقد هويته و إلا لسقطت عنه تهمة القتل و لم يعد مسؤولاً عما فعل. على هذا الأساس , لا تكمن الهوية في الذاكرة و الذكريات و في استمرارية و ترابط الحالات العقلية و السيكولوجية ( John Perry : Personal Identity. 1975. University of California Press ).
أما الاتجاه الجسدي في تحليل الهوية فيعتبر أن الهوية ليست سوى استمرارية الجسد الحي عبر الزمن. يقدّم الفيلسوف و المفكر برنارد وليمز هذا المذهب المادي في الهوية و يدافع عنه. بالنسبة إلى وليمز , نحتاج إلى جسد الفرد من أجل تحديد هوية الفرد لأننا لا نستطيع أن نميّز بين الجسد و العقل أو النفس. فبما أن الجسد و ما يتضمن من حالات فسيولوجية و أفعال يقوم بها هو نافذتنا إلى النفس و العقل , إذن لا مفر من ضرورة تحديد الجسد و معرفته لكي نحدِّد الهوية و نعرفها. من هنا , يستنتج وليمز أن الهوية كامنة في الجسد و استمراريته. بالإضافة إلى ذلك , يقول وليمز إنه من الممكن أن يتذكر شخص ما ذكريات شخص آخر , لكن هذا لا يجعله مطابقاً للآخر أي حائزاً على هوية الآخر. و بذلك يستنتج وليمز أن الهوية قائمة في الجسد و ليست كامنة في استمرارية الذكريات. لكن هذا الاتجاه الجسدي المادي في تحليل الهوية يواجه مشكلتين أساسيتين هما : أولاً , إذا كانت الهوية هي الجسد و استمراريته , حينها لا يستطيع الفرد أن يحافظ على هويته لأن خلايا الجسد تتغير مع مرور الزمن. من هنا , يفشل الاتجاه الجسدي في التعبير عن استمرارية الهوية. ثانياً , إذا كانت الهوية هي الجسد , و بما أن معظم جينات أجساد البشر متطابقة , إذن لا يوجد فرق بين هويات البشر المختلفة. من هنا , يفشل الاتجاه الجسدي في التعبير عن اختلاف هويات الأفراد ( المرجع السابق ).
كل من الاتجاه العقلي و الاتجاه الجسدي يحلّل الهوية معتمداً على مفهوم الزمن. فبالنسبة إلى الاتجاه العقلي , الهوية هي استمرارية وجود الذاكرة نفسها عبر الزمن أي عبر مرور الفرد من ماضٍ إلى حاضر فمستقبل. أما بالنسبة إلى الاتجاه الجسدي فالهوية هي استمرارية وجود الجسد نفسه عبر أزمنة الفرد المنتقلة من ماضٍ إلى حاضر فمستقبل. هكذا يبدو أن أية نظرية في الهوية عليها أن تعتمد على مفهوم الزمن في طرح تحليلها لمفهوم الهوية. هذا لأنه من منطلق الفلسفة التقليدية المطلوب من أية نظرية في الهوية هو أن تقدّم تحليلاً ناجحاً في التعبير عن أن الفرد في الماضي يملك هويته نفسها حين يصبح في الحاضر و في المستقبل. يوضح الفيلسوف و المفكر نيد ماركوزين هذه القضية حين يقارن بين الأسئلة التي يطرحها الفلاسفة حول مفهوم الهوية. يقول إن السؤال الذي سيطر على الفلسفة التقليدية هو التالي : ما هي الظروف التي تحتم و تؤكد على أن هذا الشخص في زمن ما هو الشخص فلان في زمن آخر؟ بالنسبة إلى ماركوزين , مشكلة هذا السؤال تكمن في أنه يسلّم بوجود شخصين هما شخص في زمن ما و شخص في زمن آخر. و بذلك يعقّد هذا السؤال المشكلة بدلاً من أن يساهم في حلها. على هذا الأساس , يعتبر ماركوزين أن السؤال الأفضل هو : ما الذي يجعل مرحلة الشخصية الآن جزءاً من مرحلة الشخصية في الماضي؟ فيكون الجواب أن الهوية هي انضمام المرحلتين الزمنيتين في مرحلة واحدة بدلاً من المطالبة بتطابق شخصيتين كما في السؤال التقليدي. فبالنسبة إليه , الكلام عن شخص في زمن ما هو الكلام عن تجسد الهوية في ذاك الزمن , و بذلك يحافظ الفرد على هويته ذاتها لأن هويته هي مجموعة تجسداته في ماضيه و حاضره و مستقبله أي هويته هي مجموع مراحل شخصيته المتجلية في أزمنته كافة. كما أوضح المفكر نيل توغنازيني الاتجاه الصريح في تحليل الهوية من خلال الزمن. فالهوية بالنسبة إلى هذا الاتجاه ليست سوى الشيء ذي الأبعاد الأربعة ( أبعاد الطول و العرض و العمق و الزمن ) و المكوَّن من كل أجزائه الزمنية ( Editors: Campbell, O’Rourke and Silverstein : Time and Identity. 2010. The MIT Press ).
لقد وجدنا أن كل هذه المذاهب الفلسفية تحلّل الهوية من خلال الزمن. لكن ما هو الزمن؟ إذا كان الزمن هو الذي تحدث فيه الأحداث كاكتساب الأفراد لهوياتهم , حينها تكون كل النظريات السابقة قد حلّلت الهوية من خلال الهوية فوقعت في الدور المرفوض منطقياً. فبما أن الزمن هو الذي تحدث فيه الأحداث كأحداث اكتساب الأفراد لهوياتهم أو أحداث تغير هوياتهم , إذن الزمن محلّل من خلال الهوية. و بما أن النظريات السابقة قد حلّلت الهوية من خلال الزمن , و بما أن الزمن محلّل من خلال الهوية و مفاهيم أخرى , إذن النظريات السابقة قد حلّلت الهوية من خلال الهوية كمن يحلّل الماء بالماء. لذا تفشل النظريات السابقة كلها في تعريف الهوية و تحديدها. بل أي محاولة لتحليل الهوية تقع في هذا الدور المرفوض لأن أي تحليل للهوية يستلزم الاعتماد على الزمن في عملية تحديد ما هي الهوية علماً بأن سؤال الهوية هو ما الذي يجعل الفرد هو نفسه عبر الزمن و رغم اختلاف الأزمنة. من هنا , من المستحيل أن ننجح في تعريف الهوية و تحديدها , و بذلك الهوية غير محدَّدة ما هي. و بما أن الهوية غير محدَّدة سلفاً , إذن نحن أحرار في تحديدها كما نشاء , و بذلك تغدو الهوية نتيجة قراراتنا و أفكارنا و أفعالنا و تصبح محدَّدة فقط في المستقبل الذي نريد صياغته على ضوء ما نختار في حقل صناعة هوياتنا. هذا هو الموقف الفلسفي للسوبر هوية , و بذلك فلسفة السوبر هوية مقبولة إلى أقصى حد.
من جهة أخرى , يطوّر الفيلسوف و المفكر ديريك بارفت نظرية بوذا و هيوم في نفي وجود الهوية. بالنسبة إلى بارفت , الفرد دماغ و جسد ليس إلا , و بذلك لا توجد هوية تجمع الحالات العديدة و المختلفة للدماغ و الجسد. بل ثمة فقط مجموعة تجارب عقلية و جسدية هي مجموعة المشاعر و الأفكار و الذكريات و الأفعال , لكن هذه المجموعة من التجارب لا تشكّل كائناً مستقلاً و منفصلاً عنها يجمعها في كينونة واحدة هي الهوية. فكما أنه لا يوجد شيء يُدعَى النادي بل توجد فقط مجموعة أشخاص قرروا الاجتماع و النقاش و الحديث إلخ , كذلك لا وجود لهوية بل ثمة فقط مجموعة تجارب جسدية و عقلية. يدعونا بارفت إلى تصوّر السيناريو التالي : من الممكن أن يولد في عالم آخر قرين لي يطابقني جسدياً و عقلياً. في هذه الحالة , إذا كانت توجد هوية لي فحينها أنا شخصان هما هويتي في عالمي الواقعي و هويتي في العالم الممكن الآخر. لكن من المستحيل أن أكون شخصين. لذا لا وجود للهوية. يدعم بارفت هذا التوجه معتمداً على بعض الاختبارات في علم النفس. يقول إن في بعض الأمراض الدماغية ينقسم الدماغ إلى نصفين بحيث إذا سُئل المريض عن اللون الذي يراه أمامه تجيب كل يد من يديه بإجابة مختلفة. و بذلك إذا يوجد شيء يُدعَى الهوية فحينها هذا المريض يملك هويتين بدلاً من هوية واحدة , و هذا يعارض مفهوم امتلاك الفرد لهوية معينة. من هنا , يستنتج بارفت أن الهوية غير موجودة ( Derek Parfit : Reasons and Persons. 1986. Oxford University Press ). لكن هذا الاتجاه يواجه مشكلة أساسية ألا و هي : إذا لا توجد هوية لي , إذن لا يحق لي أن أتحدّث عن أن هذه المشاعر أو تلك المعتقدات مشاعر أو معتقدات لي أي تنتمي إلى أناي و تكوّن هويتي بدلاً من أن تكون مشاعر و معتقدات الآخر. و بذلك يصبح التخاطب و التفاهم بين البشر مستحيلاً. هكذا من الخطأ اعتبار أن لا وجود للهوية. كما أنه من الخطأ اعتبار أن الهوية هي استمرارية الجسد أو استمرارية العقل و الذاكرة. لكن إذا أردنا تحديد الهوية و تعريفها فيكون ذلك إما من خلال الجسد و إما من خلال العقل و قدراته لأن الإنسان جسد و عقل. من هنا , نستنتج بحق أنه من غير الممكن تحديد الهوية و تعريفها , و بذلك الهوية غير محدَّدة كما تقول نظرية السوبرهوية بالضبط.
جدل الهوية و الإنعزالية
لا بد من التمييز بين الهوية و السوبر هوية لكي نخرج من جدل تحليل الهوية. الهوية هي أسلوب محدَّد في تعريف الفرد بينما السوبر هوية لا تحدِّد الفرد في صفات معينة. مَن يدعي أنه يملك هوية يدعي أنه يملك صفات محدَّدة تعرّفه. و بذلك الهوية تسجن تابعيها و معتنقي منهجها في تعريف محدَّد للذات لأنها تحدِّد الصفات التي على الفرد أن يتصف بها كي يملك هوية شخصية معينة. لكن السوبر هوية تحررنا لأنها لا تحدِّد صفات معينة علينا أن نتصف بها كي نكون نحن ذواتنا. هكذا الخلاف شاسع بين الهوية و السوبر هوية , و الصراع دامٍ بين المدافعين عن الهوية و الهاربين منها. تعتبر السوبر هوية أن الهوية محدَّدة فقط في المستقبل على ضوء قراراتنا و أفعالنا. و بذلك , بالنسبة إلى السوبر هوية , الهوية غير محدَّدة في الحاضر و الماضي , و لذا يتحرر الفرد من أن يكون سجين صفات معينة ليكون هو نفسه. و بما أن الهوية محدَّدة فقط في المستقبل على ضوء ما نقرر و نفعل , إذن هوياتنا معتمدة في وجودها و تشكلها علينا نحن بالذات بدلاً من أن نكون نحن المعتمدين عليها في وجودنا و تكوّننا. و بذلك نحن الذين نبني هوياتنا بدلاً من أن تبنينا هي ما يضمن تحررنا من أكاذيب هوياتنا. من هنا , الفضيلة الأساسية للسوبرهوية كامنة في أنها تجعلنا خالقي هوياتنا بدلاً من أن نكون عبيداً لها. و هذه الفضيلة تتضمن فضيلة أخرى ألا و هي أن السوبر هوية تحررنا من أكاذيب الهوية المتمثلة في التعصب و الطائفية و رفض الآخر.
مثل ذلك أن من يحدّد هويته على أساس ولادته و نشوئه في هذه الجماعة الدينية أو المذهبية أو العرقية سوف يتعصب لجماعته و يرفض الآخرين المنتمين إلى جماعات دينية و عقائدية و عرقية أخرى. فبما أن الفرد هنا يعرّف نفسه من خلال جماعته و لا يرى هويته سوى في هوية جماعته , و بما أنه من المفترض أن تكون هويته هي الهوية الإنسانية و هوية الحضارة , إذن لا مجال أمام هذا الفرد سوى أن يرفض الجماعات الأخرى و يعتبرها أقل في إنسانيتها و تحضرها منه و من جماعته. هكذا الهوية تؤدي إلى التعصب و رفض الآخر , و عملية التعصب و الرفض هذه معتمدة على مسلّمة كاذبة مفادها أن البشر منقسمون إلى طبقات منها طبقة أكثر تحضراً و إنسانية و منها طبقة أقل تحضراً و إنسانية. على هذا الأساس, السوبر هوية التي ترفض تحديد الهوية تحررنا من التعصب الطائفي و المذهبي و العرقي و المناطقي و أكاذيبه من خلال عدم تحديدها للهوية. لذا تنتصر السوبر هوية على الهوية التي سيطرت على الشعوب كافة و أوقعتها في صراعات و حروب لا معنى لها. بكلامٍ آخر , السوبر هوية طريقنا إلى السلام العالمي لأنها لا تحدِّد هوياتنا ما يجعلنا كلنا مالكين لهوية واحدة هي الهوية اللامحدَّدة أي هوية الإنسان اللامحدَّد. فاللامحدَّد يحررنا من خلال لامحدديته. عندما يصبح كل البشر غير محدَّدين في هوياتهم , يغدون حينها غير مختلفين عن بعضهم البعض , و بذلك يقبلون بعضهم البعض فيتجنبون الصراعات و الحروب فيكتسبون الأخلاق الحقة و صفة الإنسانية الحقيقية. أما إذا استمررنا في التمسك بهوياتنا الكاذبة فسنبقى نعاني من التعصب و الرفض و الحروب لأن الاعتقاد بأن هذه هي هويتنا دون الهويات الأخرى يتضمن الاعتقاد بأن هويتنا أرقى من الهويات الأخرى ما يحتم رفض الآخر ؛ فعلى ضوء ظننا أن هويتنا أرقى تم اختيارنا لها على أنها هويتنا بالذات. الهوية قاتلة الشعوب ؛ الهوية سلاح الطغاة و الحروب. اليوم , تستعبد الهوية شعوب الأرض كافة , و لا خلاص من هذه العبودية سوى من خلال قتل الهوية و استبدالها بهوية مستقبلية غير محدَّدة سلفاً. فهوياتنا نتائج ماضينا و حاضرنا , و بذلك تجعلنا الهوية سجناء الحاضر و الماضي. لكن السوبر هوية تتحدد في المستقبل فقط و بذلك نتحرر من حاضرنا و ماضينا لنحيا في المستقبل الذي نختاره نحن ونصنعه.
بالإضافة إلى ذلك , من الضروري أن نميّز بين الانعزالية و السوبر انعزالية. الجماعة الانعزالية هي تلك التي تنعزل عن الجماعات الطائفية و المذهبية و العرقية الأخرى المختلفة عنها. لكن الجماعة السوبر انعزالية تعزل جماعتها عن هويتها. بكلامٍ آخر , السوبر انعزالية تتضمن انعزال الجماعة عن ذاتها بالإضافة إلى انعزالها عن الجماعات الأخرى. و هذا يحدث حين يسيطر طاغية ما على هذه الجماعة أو تلك و يستولي على سلطة تحديد من ينتمي إلى الجماعة و من لا ينتمي إليها. في هذه الحالة , الطاغية يحدِّد هوية الجماعة فيقصي من يريد من الجماعة و بذلك تصبح الجماعة غريبة عن ذاتها ؛ فلا هوية تحدِّد من هي بل ثمة فقط قرار مستبد يتخذه الطاغية و بموجبه تتشكّل الجماعة في هذه اللحظة على أنها مالكة لهذه الهوية و في لحظة أخرى تتشكّل الجماعة نفسها على أنها المالكة لهوية أخرى مختلفة عن الهوية الأولى. من هنا , تضيع هوية الجماعة فتنعزل عن ذاتها و عن هويتها. لقد انتقلت الجماعات و الشعوب من عصر الانعزال عن بعضها البعض إلى عصر الانعزال عن أنفسها و عن هوياتها. لذا نشهد التقلب المستمر في حركية المجتمعات و سياسات الدول فيتحوّل داعية السلام إلى داعية حرب و العكس صحيح , و يغدو المناضل عميلاً و العميل مناضلاً , و يصبح الكافر مؤمناً و المؤمن كافراً. سوبر انعزاليتنا جعلت منا سجناء فراغ ثقوبنا السوداء التي تبتلع كل الأشياء و تحوّلها إلى عدم ساكن.
ثمة أمثلة عدة على السوبر انعزالية منها سوبر انعزالية الطوائف و المذاهب في عالمنا العربي. لم تعد طوائفنا و مذاهبنا منعزلة عن بعضها البعض فقط بل أمست أيضاً منعزلة عن نفسها فاستحال بذلك تعريف هذه الطائفة أو هذا المذهب أو ذاك و معرفة مشروعه و أهدافه. هكذا انعزاليتنا انعزالية مضاعفة. فهوياتنا الافتراضية أصبحت تحت رحمة طغاتنا القدامى و الجدد. على هذا الأساس , من الأفضل أن نتخلص من هوياتنا الافتراضية و أن نستبدلها بهويات غير محدَّدة فنتحرر من طغاتنا و سوبر انعزاليتنا. فالهوية تؤدي لا محالة إلى الانعزالية ومن ثم إلى السوبر انعزالية. هذا لأنه إذا حددت الجماعة هويتها فهي تقوم بذلك من خلال اعتبار أن الهويات الأخرى أدنى في إنسانيتها و أخلاقها و تحضرها من هويتها و لذا تختار هويتها بالذات دون الهويات الأخرى ما يحتم انعزالها عن الجماعات الأخرى بحجة أن تلك الجماعات الأخرى فاقدة لإنسانيتها و لصفات الحضارة. لكن متى أردنا أن نحدِّد هوية جماعتنا لا بد من وجود فرد أو مجموعة أفراد قادرة على القيام بذلك و جعل تحديدها لهوية الجماعة تحديداً مقبولاً من قبل معظم أفراد الجماعة. و لا يتم ذلك سوى على أيدي هذا الطاغية أو تلك المجموعة من الطغاة لأن وحده الطاغية ينجح في فرض هوية محدَّدة على جماعته. من هنا , عملية تحديد هوية هذه الجماعة أو تلك تؤدي لا محالة إلى سيطرة الطاغية أو الطغاة و انعزال الجماعة عن نفسها فلا تعد الجماعة هي المحدِّدة لهويتها بل يغدو الطاغية هو المحدِّد الأساس لهوية الجماعة. هذا ما يفسِّر تمسك بعض الجماعات بطغاتها كما نحن نفعل عادة ً.
من جهة أخرى , إذا كانت الهوية غير محدَّدة فلن تنعزل الجماعات عن بعضها البعض و لن تنعزل الجماعة عن نفسها. حين تكون هويات الجماعات هويات غير محدَّدة , تنصهر حينئذٍ هويات الجماعات في هوية واحدة ألا و هي الهوية اللامحدَّدة , و بذلك لا تنعزل الجماعات عن بعضها البعض. و حين تكون هوية الجماعة هي الهوية غير المحدَّدة وبذلك لا تطالب الجماعة بتحديد هويتها لكونها تملك هوية ألا و هي الهوية غير المحدَّدة , لا يوجد حينها مبرر لنمو طاغية من أجل تحديد هوية الجماعة. و بذلك لن يقصي الطغاة الأفراد عن جماعاتهم ما يُزيل إمكانية انعزال الجماعة عن ذاتها. هكذا الهوية غير المحدَّدة التي تدعو إليها السوبر هوية ( كمذهب فكري ) هي طريق الخلاص من الانعزالية و السوبر انعزالية. و بينما يسجننا الاتجاه العقلي في هوية تشكّلت في الماضي من خلال اعتباره أن الهوية هي الذاكرة و الذكريات , تحررنا السوبر هوية من سجون ماضينا و تجاربه بفضل تأكيدها على أن الهوية لا تتكوّن سوى في المستقبل من جراء قراراتنا و أفعالنا اليوم. و بينما يسجننا الاتجاه الجسدي في أجسادنا و أفعالها الماضية و الحاضرة من خلال اعتباره أن الهوية هي الجسد و استمراريته , تحررنا السوبر هوية من سجون الجسد المتجسد في الحاضر و الماضي من خلال اعتبارها أن الهوية صناعتنا المستقبلية. أما نفي وجود الهوية فيقيّدنا بقيود عدم المقدرة على التفاهم و التخاطب فيما بيننا , بينما السوبر هوية تقرّب التواصل و التفاهم فيما بيننا لأنها تعتبر أننا كلنا نسعى إلى خلق هويات مستقبلية لنا و بذلك كلنا متشابهون في امتلاكنا لهويات غير محدّدة و في سعينا الدائم إلى تحديدها.
الآن , بما أن السوبر هوية تعتبر أن الهوية غير محدَّدة في حاضرنا و ماضينا و تغدو محدَّدة فقط في المستقبل على ضوء ما نصوغ من قرارات و معتقدات و أفعال , إذن تجعلنا السوبر هوية نحن خالقي هوياتنا على أساس ما نراه مناسباً و صادقاً و مفيداً و بذلك تقربنا السوبر هوية من هوياتنا بدلاً من أن تعزلنا عنها. و بما أن السوبر انعزالية تعزل الجماعة عن هويتها بينما السوبر هوية تقرّب الفرد من هويته و الجماعة من هويتها , إذن المواجهة واقعة لا محالة بين السوبر هوية و السوبر انعزالية. إنها مواجهة قاسية و دامية ؛ فمن جهة تدفعنا السوبر هوية إلى أن نصبح ذواتنا , و من جهة أخرى تسقطنا السوبر انعزالية في الانعزال عن ذواتنا و الاغتراب عنها. من هنا , انتصار السوبر هوية انتصار لذواتنا المستقبلية بينما انتصار السوبر انعزالية انتصار الطغاة و الغربة و الاغتراب. مَن لا ينتصر على هوياته المُسبَقة لا ينتصر على طغاته.