نشهد في هذه المقالة تطور مفهوم العلمانية و تحوّله إلى سوبر علمانية. و نرصد أيضاً نمو العقائدية و تحوّلها إلى سوبر عقائدية. هكذا لا مفر من مشاهدة المواجهة الحاسمة بين السوبر عقائدية و السوبرعلمانية.
من الضروري أن نميّز بين العلمانية و السوبر علمانية. بينما العلمانية تدعو إلى فصل الدين عن الدولة و الحياة العامة , تدعو السوبر علمانية إلى فصل الدولة و الحياة العامة عن العقائد كافة أكانت عقائد دينية أم فلسفية أم اجتماعية أم سياسية أم اقتصادية. بالنسبة إلى السوبر علمانية, فصل الدين عن الدولة لا يكفي لتحقيق إنسانية الإنسان. هذا لأن أية عقيدة و إن كانت ليست دينية قد تتحوّل إلى ديانة بالنسبة إلى المؤمنين فيها. في هذه الحالة , و إن نجحنا في فصل الدين عن الدولة سنفشل في فصل العقائد التي تتخذ صفة الديانة بالنسبة إلى أتباعها عن الدولة و الحياة العامة , و بذلك نقع في المشكلة ذاتها ألا و هي سيطرة عقيدة معينة دون سواها. على هذا الأساس , الطريق السليم نحو تحقيق أكبر درجة من الحرية للإنسان يكمن في السوبر علمانية أي في فصل العقائد كافة عن الحياة العامة و عن الدولة. ففي هذه الحالة فقط ننجح في تجنب سيطرة عقيدة ما على سياسة الدولة و بذلك نتجنب أيضاً محاربة الدولة للعقائد الأخرى. هكذا نضمن حرية أكبر لكل مواطن في اختيار معتقداته و التصرف على ضوئها.
أما إذا تسلحت الدولة بعقيدة ما فسوف تلغي العقائد الأخرى ما يؤدي إلى القضاء على الحرية. من هنا , الضمانة الوحيدة للحرية كامنة في تحرير الدولة من أية عقيدة. فبمجرد أن تؤمن جماعة ما بأن هذه الفلسفة أو هذه الأفكار الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية هي التي تشكّل الحقائق و المعارف و القيم سوف ترفض تلك الجماعة الأفكار و المعتقدات الأخرى المختلفة عنها و تعتبر أتباعها جهلاء و غير متحضرين. و بذلك تتحوّل فلسفة أو أيديولوجية تلك الجماعة إلى ديانة غير قابلة للمراجعة و الشك. على هذا الأساس أيضاً , الإيمان بعقيدة معينة أكانت دينية أم فلسفة أم اجتماعية يمنع التطور المعرفي الممكن و النمو الاجتماعي المحتمل ؛ فمن يتخذ هذه الأفكار أو تلك على أنها عقيدة لا تقبل الشك و المراجعة و الاستبدال سيعتبرها يقينية و بذلك لا يحتاج حينها إلى الاستمرار في البحث عن الحقائق و المعارف ما يحتم القضاء على العلم و البحث العلمي. باختصار , يتحرر الفرد من قمع العقائد حين لا تتخذ الدولة عقيدة لها أكانت عقيدة دينية أم فلسفية أم اجتماعية. و لا تتحقق إنسانية الإنسان سوى من خلال تحرره من كل عقيدة أكانت عقيدة دينية أم فلسفية أم سياسية. هذا لأن أية عقيدة سجن لصاحبها و قمع له و للآخر. لكن طبعاً في شرقنا العربي لا توجد دول لكي نتحرر من عقائدها بل لا توجد مجتمعات أصلاً ؛ ثمة فقط قبائل طائفية متناحرة على الدوام ما يلغي إنسانية أي إنسان لدينا. فما زلنا في عصر السوبر تخلف حيث التخلف هو القيمة الأعلى. هذا لا يمنعنا من مراسلة زمن افتراضي حيث تثور شعوب الشرق على هوياتها الكاذبة و دولها الافتراضية و طوائفها و مذاهبها المخادعة.
يتمثل السوبر تخلف في استخدام العلم و التكنولوجيا و العقائد من أجل التجهيل. كما يتجسد السوبر تخلف أيضاً في أن التجهيل أمسى وظيفة الدولة الافتراضية. فمعظم المؤسسات الاعلامية و التربوية التابعة للدول الافتراضية باتت تهدف إلى الدفاع عن عقيدة معينة و تهميش أو قتل العقائد الأخرى. هكذا نستعمل الدولة أيضاً من أجل نشر الجهل و التخلف. فالدولة السوبر متخلفة التي ترعى نمو المجتمع السوبر متخلف تحدِّد الحقائق و المعارف و القيم و تعتبر أن كل الحقائق و المعارف و القيم المختلفة عن حقائقها و معارفها و قيمها كاذبة و بذلك تقاتل العقائد الأخرى. على هذا الأساس , تتسلح السوبر علمانية بالسوبر حداثة لكي تحارب السوبر تخلف. فبالنسبة إلى السوبر حداثة , من غير المحدَّد ما هي الحقائق و المعارف و القيم , و بذلك لا تحدِّد السوبر حداثة ما هي الحقيقة و المعرفة و الأخلاق ما يضمن عدم رفضها للعقائد و الثقافات المتنوعة. هكذا تضمن السوبر حداثة قبول الآخر فإمكانية بناء مجتمع و دولة. لكن إذا كانت الدولة المنشودة لا عقيدة لها , إذن ما دور الدولة و كيف يجب عليها أن تتصرف؟ في حال تحققت السوبر علمانية , يكمن دور الدولة في ضمان حرية كل فرد في صياغة عقائده و التصرف على ضوئها شرط عدم خرق حقوق الآخرين. من هنا , وظيفة الدولة كامنة في ضمان الحريات كافة كحرية التفكير و التعبير و التصرف. هكذا تسمح الدولة و ترعى نشوء العقائد المختلفة و بذلك لا تتعصب لعقيدة معينة ما يجعلها دولة السوبر حرية. أما السوبر حداثة بذاتها فليست عقيدة لأنها لا تحدِّد ما هي الحقائق و ما هي المعرفة و القيم الأخلاقية. على هذا الأساس, السوبر حداثة عملية تحرر من العقائد بينما السوبر تخلف مجموعة آليات سجن الأفراد و الجماعات في عقائد محدَّدة ما يضمن لها نشر التعصب و الجهل و التخلف. من هنا , الدولة السوبر علمانية أو المجتمع السوبر علماني يتخذ السوبر حداثة سلاحاً فكرياً له يقاتل به كل أنواع التعصب و الجهل.
الآن , بما أن السوبرحداثة هي المذهب الذي يقول إن اللامحدَّد يحكم العالَم , و بما أن السوبرعلمانية تعتمد على السوبر حداثة في صياغة موقفها , إذن الدولة السوبرعلمانية هي الدولة التي من غير المحدَّد ما هي عقيدتها الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية. و بما أنه من غير المحدَّد ما هي عقيدة الدولة السوبرعلمانية , إذن تتمكن هذه الدولة من الانتقال من عقيدة اجتماعية و سياسية و اقتصادية إلى أخرى على ضوء احتياجات مجتمعها. فمثلاً , في وقت الأزمات الاقتصادية تتجه الدولة السوبرعلمانية المفترضة نحو إعادة توزيع الثروة في المجتمع. أما إذا كان الاقتصاد مزدهراً بحيث تستفيد منه كل طبقات المجتمع فحينها لا حاجة لكي تتدخل الدولة فتعيد توزيع الثروة. هكذا لامحددية عقيدة الدولة السوبر علمانية تحررها من سجون عقيدة معينة فتضمن لها حرية أن تغيّر سياساتها و مشاريعها على أساس احتياجات مجتمعها. أما الدولة ذات العقيدة المحدَّدة فتسجن ذاتها في عقيدتها ما يمنعها من إحداث أي تغيير اجتماعي و اقتصادي متى احتاجت إلى هذا التغيير. و بذلك عقيدتها المحدَّدة تجعلها غير قادرة على التأقلم و التكيف مع المتغيرات ما يؤدي إلى فشلها الحتمي. لكن الدولة السوبر علمانية و بفضل لامحددية عقيدتها تنجح في التكيف و التأقلم مع المتغيرات كافة و بذلك تضمن لنفسها النجاح المستمر. و كما يجب على الدولة أن تتحرر من أية عقيدة كذلك يجب على الإنسان أن يتحرر من عقائده ؛ فالإنسان ذو العقيدة المحدَّدة سجين عقيدته ما يمنعه من البحث عن معارف جديدة و ما يمنعه أيضاً من أن يتغير و يتأقلم مع المتغيرات و بذلك يضمن لنفسه الفشل المستمر.
لا تفصل السوبر علمانية بين الدولة و العقيدة فقط بل تفصل أيضاً بين الإنسان و عقائده. من وجهة نظر السوبرعلمانية , الإنسان ليس مجموعة عقائده و معتقداته بل الإنسان مشروع حرية. إذا كان الإنسان هو ما يعتقد , و بما أن معتقدات الناس تختلف و تتعارض , إذن البشر يختلفون عن بعضهم البعض و بذلك لا بد من معاملتهم بأساليب مختلفة أي على ضوء قوانين مختلفة. لكن إذا عاملت الدولة مواطنيها على أساس قوانين مختلفة , حينها تزول المساواة أمام القانون ما يعارض مبدأ أساسياً من مبادىء الإنسانية. من هنا , الإنسان ليس مجموعة عقائده. لذا لا بد من البحث عن تعريف آخر للإنسان لا يؤدي إلى معارضة أي مبدأ من مبادىء الإنسانية كمبدأ المساواة و مبدأ الحرية. على هذا الأساس , تعتبر السوبرعلمانية أن الإنسان مشروع حرية أي أنه مشروع أن يُحقق لذاته أكبر درجة ممكنة من الحرية. و بما أن الإنسان مشروع حرية , و بما أن الحرية تتحقق من خلال الحفاظ على المبادىء الإنسانية كمبدأ المساواة أمام القانون و المساواة في الفرص , إذن تعريف الإنسان على أنه مشروع حرية يضمن احترام المبادىء الإنسانية كمبدأ المساواة ما يشير إلى مصداقية هذا التعريف. فالإنسانية هدف لا بد من تحقيقه من خلال احترام مبادىء معينة كمبدأ الحرية و مبدأ المساواة و من خلال اكتشاف مبادىء أخرى لا نعرفها حالياً والتصرف على ضوئها. من جهة أخرى , بما أن الإنسان مشروع حرية , و بما أن كل فرد منا يريد اكتساب أكبر درجة من الحرية و يسعى إلى تحقيق ذلك , إذن كل فرد مشروع حرية و بذلك كل الأفراد متساوون في إنسانيتهم. هكذا السوبر علمانية توحّد كل البشر في إنسانية واحدة. بكلامٍ آخر , بما أن السوبرعلمانية تفصل بين الإنسان و العقائد فلا تعتبر أن الإنسان هو ما يعتقد , إذن تضمن بذلك معاملة كل إنسان على أنه إنسان بدلاً من معاملته على أساس عقيدته. هكذا تنجح السوبرعلمانية في تحقيق المساواة بين البشر و تتجنب التمييز بين الأفراد على ضوء معتقداتهم ما يضمن حرية أكبر لكل فرد.
بالإضافة إلى ذلك , لا بد من التمييز بين العقائدية و السوبر عقائدية. بينما العقائدية تعتبر أن هذه العقيدة أو تلك هي العقيدة الأفضل و الأصدق من بين كل العقائد و بذلك ترفض العقائد الأخرى , تصر السوبر عقائدية على أن كل العقائد الأخرى ليست سوى أجزاء من عقيدة أصلية هي العقيدة الأفضل و الأصدق. تقول السوبرعقائدية إن ثمة عقيدة واحدة هي الأفضل و الأصدق في المطلق و هي العقيدة الأصلية التي تفرعت عنها العقائد و المعتقدات الأخرى عبر التاريخ. من هنا , تستخدم السوبر عقائدية العقائد كافة أكانت دينية أم فلسفية أم علمية من أجل البرهنة على صدق عقيدة معينة. فمثلاً , تفسِّر السوبر عقائدية العقائد و النُظم الفكرية كافة بطرُق تحوّلها إلى براهين على مصداقية هذه العقيدة الفريدة أو تلك. مثل واقعي على ذلك هو عملية أسلمة العلوم أي تقديم تفاسير للعلوم المعاصرة بحيث تغدو هذه العلوم حججاً على صدق الإسلام و بحيث تصبح العلوم أيضاً مجرد تفاسير لما جاء في الإسلام قد تصيب هنا و قد لا تصيب هناك. على هذا الأساس , تبدو السوبر عقائدية على أنها تقبل العقائد و النُظم الفكرية و المعرفية الأخرى , لكنها في الحقيقة تستغلها من أجل دعم عقيدة معينة تعتبرها هي الأفضل و الأصدق , و بذلك تتضمن السوبر عقائدية رفض المذاهب الفكرية و المعرفية و الدينية الأخرى. لكن السوبر علمانية تؤكد على أنه لا توجد عقيدة أفضل و أصدق من العقائد الأخرى و لذا تضمن قبول كل العقائد و كل البشر.
من هذا المنطلق , بما أن السوبر عقائدية تختار عقيدة ما و تعتبرها الأفضل و الأصدق و ترفض بذلك العقائد الأخرى بينما السوبرعلمانية لا تفضِّل عقيدة على أخرى فتقبل كل العقائد , إذن لا مفر من المواجهة بين السوبر عقائدية و السوبر علمانية. تاريخنا الإنساني صراع دامٍ بين هذين الاتجاهين. فهل ستنتصر السوبر عقائدية أم السوبرعلمانية؟ هذا يعتمد على قرارنا نحن.