نرتحل في هذا المقال إلى عوالم علم الاجتماع لنرى مركزية الحداثة و مدى ارتباطها بالعنف و الإرهاب. فبينما يرشدنا عالم الاجتماع سينيسا مالوزيفك إلى العلاقة الوثيقة بين تطور الحداثة و انتشار أعمال العنف, يفكك عالم الاجتماع إيزنستادت العلاقة بين الحداثة و الأصولية. لكن رغم أن العالم يسير نحو بناء السوبر حداثة في مواجهة التعصب والإرهاب, تمكنا نحن من التحوّل من الطائفية إلى السوبر طائفية.
الحداثة والعنف
يقول مالوزيفك إن علاقة الإنسان بالعنف والحرب علاقة معقدة. من جهة, ثمة إدانة عالمية ضد أعمال العنف معبّر عنها من خلال كل القوانين و الشرائع في العالم. لكن من جهة أخرى, ثقافتنا و رواياتنا و إعلامنا وكتب التاريخ و ألعاب الأطفال إلخ ممتلئة بصور العنف و أدواته. رغم أن كل فرد عاقل يرفض العنف, لدينا إندهاش عام وهوس جامح بمشاهدة العنف و الحروب كما لدينا جوع هائل لقراءة روايات العنف والحرب.فمثلاً توجد أعداد كثيرة من الكتب و الأفلام عن هتلر والنازية, لكن ثمة أعداد أقل بكثير عن غاندي و الأم تريزا وتستقطب جماهير أقل. هكذا رغم أن السلام و الحُب الأخوي يشكّلان مبادئ وقيماً مثالية بالنسبة لنا, الحرب والعنف يجذبان اهتمام الجماهير. قد تشير هذه الحقيقة إلى أنه يوجد وحش نائم في أعماق الإنسان ينتظر الفرصة لكي يصحو و يؤذي الآخرين. وجهة النظر هذه سيطرت على معظم الفكر الاجتماعي و السياسي منذ أعمال ماكيافيلي و هوبز وصولا ً إلى التفسير الدارويني الجديد للطبيعة البشرية. فمثلا ً، بالنسبة إلى هوبز، البيئة الطبيعية للإنسان تتصف بالعنف المستمر وتتضمن الصراع على الربح و الأمن و السمعة؛ إنها بيئة حرب كل فرد ضد كل فرد آخر. أما الاتجاه المعاكس لهذا الموقف فيرجع إلى روسو وكانط و اتباعهما. يعتبر هذا الاتجاه المغاير أن الإنسان بطبيعته مسالم و عقلاني و عاطفي و متعاون مع الآخرين. و لا يغدو عنيفا ً سوى من خلال التأثر بالأمراض الاجتماعية كالملكية الخاصة أو انقسام الطبقات و الطمع المؤسساتي. هذان الاتجاهان يتنافسان حول تحديد الطبيعة البشرية؛ فبينما الاتجاه الأول يؤكد على أنانية الإنسان وعنفه المتأصل فيه, يصر الاتجاه الثاني على أن الإنسان يولد خيّرا ً و معطاء. وعلى هذا الأساس, من منظور الموقف الأول, المجتمع وسيلة ضمان النظام الذي يروّض الوحش في داخلنا. أما الموقف الثاني فيعتبر أن المجتمع هو المسؤول عن إفساد الطبيعة البشرية Sinisa Malesevic :The Sociology of war and Violence. 2010.) (Cambridge University Press.
بالنسبة إلى مالوزيفك، رغم أن الموقفين السابقين قد سيطرا على الفكر لمدة ثلاثة قرون و انقسم العلماء والفلاسفة إلى مؤيدين للموقف الأول أو الثاني، كل منهما لا يقدم نظرية اجتماعية دقيقة حول علاقة الإنسان بالعنف والحرب. فبدلا ً من أن يكون العنف موروثا ً بيولوجيا ً و سيكولوجيا ً من أجل الحفاظ على بقاء الفرد أو أن يكون أداة لاكتساب المنافع الفردية، العنف في الحقيقة اجتماعي في الأصل. فالمجتمع هو الذي يجعلنا إما خيّرين و محبين للآخر و إما حاقدين وقتلة. كما أن الأبحاث الاجتماعية المعاصرة قد أظهرت أن الأفراد ليسوا جيدين في القيام بأعمال العنف, و العديد من أعمال العنف تتصف بالقصور و الفوضى وقصر مدتها زمنيا ً. وبذلك الإنسان لا يتمتع بعمل العنف بل يحاول تجنبه. و الفرد المنعزل يميل إلى عدم القتال؛ فعندما نكون وحيدين و ضعفاء نتجنب العنف. حرب كل الأفراد ضد كل الأفراد حرب مستحيلة لأن أي فعل عنف ناجح يحتاج إلى تنظيم وبذلك يحتاج إلى تعاون مع الآخرين و إلى تقسيم المهمات. من هنا, الحرب حدث إجتماعي. على هذا الأساس, العنف ليس نتيجة عدائية موروثة لدينا كما ليس نتيجة الأمراض الاجتماعية بل العنف يعتمد على أفعال اجتماعية عالية التنظيم و متينة البنية( المرجع السابق).
نحن كبشر مهيؤون كي نصبح أنانيين أو محبين للآخرين. و تكويننا الاجتماعي مصدر بنائنا إما على أننا أنانيون و عنيفون و إما على أننا محبون و مسالمون. فكما نحتاج الآخرين لكي نقتل نحتاجهم لكي نضحي بأنفسنا من أجلهم. نقاتل و نقتل بشكل أفضل عندما نكون في حضرة الآخرين, و ذلك من أجل أن نؤثر فيهم أو نسعدهم أو ننتمي إليهم أو لنكتسب بعض المنافع أو لنتجنب العار إلخ. و هذه الروابط الاجتماعية, كما يقول مالوزيفك, المتمثلة باكتساب المنافع و تجنب العار و التعبير عن الانتماء إلخ هي نفسها تجعل منا شهداء كما تجعل منا قتلة. على ضوء هذه الاعتبارات , يعتبر الباحث أن العنف و الحرب ظاهرتان اجتماعيتان بامتياز، ولذلك نحتاج إلى تحليل اجتماعي علمي لهما و إلا نبقى خارج دائرة فهمهما. لكي نفهم الحرب والعنف لابد أن نفهم أولا ً العناصر الاجتماعية المنتجة لهما و التي يتصفان بها. فالإنسان ليس عنيفا ً بطبعه و ليس مسالما ً بطبعه, بل المجتمع يجعله إما عنيفا ً و إما مسالما ً. لذا العنف لا ينفصل عن الشخصية الاجتماعية؛ فللإنسان الاجتماعي ميل إلى العنف يساوي ميله للسلام, و المتحكم في ذلك مجتمعه. و بذلك العنف صفة الفرد الاجتماعي فقد تظهر للعلن أو قد يتم الاستغناء عنها على ضوء متطلبات المجتمع. على هذا الأساس لا نستطيع تصور الحداثة من دون عنف و إرهاب؛ فالعنف ميزة الحداثة والفرد الحداثوي. هذا لا يعني أننا نحب العنف, بل تحكمنا مبادئ أخلاقية رافضة للعنف ما أدى إلى أن نصبح غير ناجحين في القيام بأعمال العنف. لكن أعمال العنف و الحروب تسترعي انتباهنا و اهتمامنا لأنها قليلة الحدوث و غريبة ومن الصعب القيام بها؛ معظم حياتنا خالية من العنف. فرفض العنف اجتماعيا ً و قلة حدوث أعمال العنف و صعوبة حدوثها تسبّب اندهاشنا و انبهارنا بها, و بذلك ميلنا إلى مشاهدة أعمال العنف و القراءة عنها لا يدلنا على أن طبيعة الإنسان شريرة بل هو مؤشر على غرابتها وقلة حدوثها في الحياة اليومية وجهلنا بها ( المرجع السابق).
لكن لماذا انتشرت الحروب في التاريخ الإنساني و لماذا انتشرت بشكل هائل في عصر الحداثة رغم أن الإنسان فاشل في ممارسة العنف وليس عنيفا ً بطبعه ؟ يجيب عالم الاجتماع مالوزيفك على النحو التالي: التنظيم الاجتماعي والأيديولوجيا هما السببان الرئيسيان في صناعة ظروف نشوء الحروب و أعمال العنف و الإرهاب. فالتنظيمات الاجتماعية وعمليات الأدلجة الاجتماعية هي التي تحوّلنا إلى آلات قتالية متقاتلة. يقول إن كل عمل عنيف منظم و خصوصا ً الحرب يتضمن مكوّنين أساسيين هما قدرة بنيوية معقدة و منظمة و أيديولوجيا تبرران و تشرّعان قيام العنف أو الحرب. بما أن العنف ليس من طبع الفرد, إذن أي عنف أو إرهاب أو أية حرب تستلزم آليات تنظيمية متطورة وظيفتها السيطرة الاجتماعية كما تحتاج إلى أيديولوجيات متطورة خطابيا ً و متجذرة مؤسساتيا ً قادرة على تبرير الحرب و أعمال العنف. فلو لم نكن منظمين مثلا ً لن نتمكن من شن أية حروب. هكذا ينقلنا الباحث إلى نموذج علمي جديد في دراسة العنف و الحرب؛ فبدلا ً من دراستهما من خلال مفاهيم البيولوجيا والثقافة العقلانية لابد من النظر إليهما من منظور مفهومي التنظيم و الأيديولوجيا. باختصار, صناعة العنف و الإرهاب والحروب أساسها أدلجة الجماهير و بيروقراطية التسلط الكامنة في التنظيم المحكم. فأي تنظيم متماسك بيروقراطيا ً بطبيعته و يعتمد على مبادئ مجردة للسلوك و يتصف بتراتبية الوظائف و الأدوار و الانضباط الشبيه بالانضباط العسكري. هكذا أي تنظيم تسلطي بطبيعته كونه بيروقراطيا ً. من هنا, مع تطور التنظيم الاجتماعي و البيروقراطية في زمن الحداثة تطورت أساليب التسلط و القدرة على شن حروب منظمة طويلة الأمد فنشأت مثلا ً المنظمات الاجتماعية الحديثة ألا و هي الدول القادرة على تحويل مجتمعات بأسرها إلى جيوش مقاتلة لبعضها البعض ما أدى إلى تضاعف عدد القتلى في الحروب. فاحتكار العنف من قبل الدولة نتيجة تطوير التنظيم الاجتماعي والبيروقراطية الاجتماعية. لذا انتشار أعمال العنف و الحروب مصدره التطور الاجتماعي في التنظيم و بيروقراطيته و أدلجتهما. فتزاوجت المؤسسات المحتكرة للعنف ببيروقراطية التنظيم. هذا لأنه من غير الممكن استخدام العنف أو التهديد به من دون تنظيم اجتماعي متطور. فالحرب أنجبت التنظيمات تاريخيا ً و اعتمدت عليها. و البيروقراطية لا تنفصل عن الأيديولوجيا لأن أي تنظيم بيروقراطي يعتمد على أيديولوجيا ما لكي يبرر و يشرّع وجوده و استمراريته. فمن المستحيل أن ينجح أي تنظيم من دون اعتبار أفعاله عادلة وخيرة على ضوء أيديولوجيته. لذا العنف و الحرب نتيجتا التنظيم البيروقراطي و أيديولوجيته. والأيديولوجيا مجموعة معتقدات في المجتمع و السياسة و الكون. و الحداثة مجموعة أيديولوجيات, لكن الأيديولوجيا مصدر العنف و الحرب. بذلك الحداثة مصدر الحروب و أعمال العنف و الإرهاب و تؤسس لشرعنتها (المرجع السابق ).
الأصولية و الحداثة
من المنطلق ذاته , يفكك عالم الاجتماع إيزنستادت الحداثة و ظنوننا الكاذبة عنها. فعادة ً ما نظن أن الأصولية تنافس الحداثة وتصارعها. لكن إيزنستادت ينسف هذا الاعتقاد و يرينا كذبه. يؤكد إيزنستادت على أن الحركات الأصولية المعاصرة هي حركات حداثية. على هذا الأساس, من الخطأ اعتبارها إحياء لتقاليد الماضي أو للتراث الذي تم قمعه من قبل الحداثة كما من الخطأ النظر إليها على أنها ردات فعل على الحداثة. بل الأصولية حركة سياسية حداثوية ذات طابع خاص. تظهر أبحاث علم الاجتماع المعاصرة أن الأصولية و الحداثة تتشابهان إلى أقصى حد. فمثلا ً, أية حركة أصولية تتشكل على أنها حزب أو منظمة شبه حزبية ذات تنظيم دقيق, و تستخدم تكنولوجيات التواصل الحديثة في نشر دعوتها كما تعتمد على أساليب الترويج الدعائي الحديثة, وتنسج خطابات حديثة اللهجة و الفحوى. كما أن الأصوليات الدينية المختلفة تتصف بالصفة الأساسية الخاصة بالبرنامج السياسي للحداثة ألا وهي فكرة الثورات الكبرى. هكذا تتفق الأصولية مع الحركات العلمانية في الدعوة إلى الثورة الجذرية في المجتمعات كما تتفق على خطاب موجه للبشرية جمعاء تحث فيه على الثورة العالمية. على ضوء كل هذه الاعتبارات، يستنتج إيزنستادت أن الأصولية نتيجة الحداثة. و تتضح علاقة الأصولية بالحداثة من خلال النظر إلى الأيديولوجيات المشتركة بينهما و كيفية بنائها. فحقيقة أن الأصولية تنتج أيديولوجيات تفصيلية تهدف إلى تحديد سلوكيات الفرد الفاضل و المجتمع المثالي و العدالة العليا إلخ تطابق حقيقة أيديولوجيات الحداثة كالليبرالية و الاشتراكية في طموحها نحو تحويل المجتمعات و الدول إلى مجتمعات و دول مثالية. و حين تعبّر أيديولوجيات الأصولية عن اتجاه مضاد و معاد ٍ للحداثة و لعصر الأنوار فهذا لا يشير سوى إلى اتجاهها الما بعد حداثوي الوليد الشرعي للحداثة المعاصرة (S.N. Eisenstadt: Fundamentalism, Sectarianism,and Revolution. 2000. Cambridge University Press).
ترفض ما بعد الحداثة تأصيل المعارف و تقبل بتعدد الحقائق و المعاني و نسبيتها على نقيض من الحداثة التي تدعو إلى تأصيل المعارف و مطلقيتها. من هنا, أيديولوجيات الأصولية المؤمنة بمعارف مطلقة و يقينية تتطابق مع موقف الحداثة الأصلي. أما الأيديولوجيات الأصولية التي تقبل بنسبية المعرفة و عدم تأصلها فتطابق موقف ما بعد الحداثة الوريث الشرعي للحداثة. هكذا الأصولية نتيجة طبيعية للحداثة و ما بعدها. فمثلا ً, معظم الأصوليات كالحركات الحداثية بالذات ترتكز على الاختيار الأخلاقي الواعي في مواجهة العالم, أي اختيار الانتماء إليها و نشر دعوتها, وتعتبر أن هذا الاختيار سيؤثر على مجرى التاريخ. يقول إيزنستادت إن المثالية الممثلة في الاتجاهات السياسية و الاجتماعية والعلمانية مطابقة للمثالية التي تسود في أيديولوجيا الأصولية. فكل من الاتجاه العلماني و الاتجاه الأصولي يصوّر لنا عالما ً مثاليا ً لابد من بنائه لتحقيق الإنسان المثالي. كل منهما يدعو إلى خلق الجنة على الأرض من خلال إتباع مبادئ محدّدة تسمح بإنشاء المجتمع المثالي في إنسانيته و أخلاقه و لابد أن يتم ذلك من خلال الثورة المثالية ( المرجع السابق ).
من هنا يعتبر إيزنستادت أن انتشار الأصولية و ازدهارها في العالم حصيلة إجتياح الحداثة للعالم كله من خلال مثلا ً الاستعمار الغربي و توسعه الإمبريالي. يؤكد إيزنستادت على أنه توجد أسباب عديدة لنشوء الأصوليات منها ضعف السلطات العلمانية و الشعور بالتهديد الخارجي لبنية هذه الهوية الحضارية أو تلك. هكذا الأصولية صياغة هذه النخبة المثقفة أو تلك مدعومة بجماعات طائفية معينة. فاستيعاب الحداثة و تنوع اتجاهاتها السياسية و الاجتماعية جزء ضروري لإمكانية بناء أيديولوجيا أصولية تستعين بمنجزات الحداثة من أجل إنشاء أيديولوجياتها الحداثية الأصولية. كما أن انقسام المجتمعات إلى طوائف كان الأرض الخصبة لنمو الأصوليات المختلفة المعبّرة عن طوائفها و المحدّدة لهويات طوائفها. التفكير الأصولي غير منفصل عن الطائفية لأنه يعبّر عن هوية و أيديولوجية هذه الطائفة أو تلك. من هنا, الحداثة التي أنتجت الأصولية أنتجت الطائفية أيضاً و أصلتها ( المرجع السابق ). هكذا يفكك إيزنستادت الحداثة و الأصولية و الطائفية و يجعلها تحيا في حقل واحد. فالحداثة التي نعتبرها نقيضة الأصولية و الطائفية هي بالفعل الأم المنتجة لهما. بذلك يقيننا بأن الحداثة معادية للأصولية وللطائفية يقين كاذب ما يدعونا إلى إعادة التفكير بالحداثة وما بعدها. الحداثة التي أنتجت الأيديولوجيات الليبرالية و الديموقراطية و الاشتراكية إلخ أنجبت أيضا ً العنف و الإرهاب المرتبطين بالأصولية و الطائفية؛ فالأيديولوجيا توحّد هذا المجتمع أو تلك الجماعة ضد مجتمعات أو جماعات أخرى.
السوبر حداثة و السوبر طائفية
كل هذا يرينا أن الحداثة ظاهرة غير محدّدة تماما ً كما تقول فلسفة السوبر حداثة. فالحداثة ذاتها التي أنتجت الأيديولوجيات العلمانية أنتجت الأصوليات. و الحداثة نفسها التي دعت إلى السلام و أنشأت مثلا ً الأمم المتحدة لتلك الغاية صاغت أعمال العنف و الحرب. و الحداثة عينها التي أنجبت العولمة و حوّلت العالم إلى قرية صغيرة أفرزت الطائفية و صراعاتها. بذلك الحداثة غير محدّدة في صفاتها و ماهيتها.وهذا متوقع لأن الإنسان ذاته غير محدّد من هو. بالنسبة إلى السوبر حداثة, ظواهر الكون غير محدّدة و لذا من الممكن وصفها و تفسيرها على ضوء لامحدديتها. من هنا, معرفة الظواهر المختلفة تتم من خلال دراستها على أنها غير محدّدة.تقول السوبر حداثة إن الإنسان غير محدد في طبيعته و لذا يتمكن من التكيف والتأقلم مع الظروف المختلفة و المتغيرة ,و بذلك ينجح في البقاء و الاستمرار و التطور. هكذا تفسّر السوبر حداثة لماذا ينجح الإنسان في البقاء و التطور؛ فلو كان محدّدا ً ما تمكن حينها من التكيف مع محيطه المتغير. وعلى ضوء القدرة التفسيرية للسوبر حداثة تكتسب السوبر حداثة مقبوليتها. الآن, بما أن الإنسان غير محدّد, إذن من الطبيعي أن ينتج حداثة غير محدّدة. هكذا تفسّر السوبر حداثة أيضا ً لماذا الحداثة بذاتها غير محدّدة.
بالإضافة إلى ذلك, لقد رأينا أن الأيديولوجيا تساهم بقوة في نشوء العنف و الحرب. لذا الطريق السليم نحو تجنب الحرب و أعمال العنف يكمن في عدم اعتقادنا بأيديولوجيا محدّدة. على هذا الأساس, من الأفضل أن تكون معتقداتنا غير محدّدة. فعندما تكون غير محدّدة تغدو لا يقينية, وعندما تكون معتقداتنا غير يقينية إذن من الممكن تغييرها و استبدالها بأخرى ما يجعلنا غير متعصبين لها ما يضمن بدوره قبول الآخر. وقبول الآخر أساس السلم الاجتماعي وقيام المجتمع أصلا ً. هكذا تساعدنا السوبر حداثة في تخطي العنف و الحرب من خلال دعوتها إلى التخلي عن اليقينيات واستبدالها بمعتقدات غير محدّدة. بالنسبة إلى السوبر حداثة, الكون محكوم باللامحدّد, و بذلك لابد أن تكون معتقداتنا غير محدّدة لكي تعبّر عن الكون. من هنا, تجمع السوبر حداثة بين لا محددية الكون و إمكانية المعرفة و تدعو إلى جعل معتقداتنا مجرد أفكار ممكنة بدلا ً من أن تكون يقينية. باختصار, موقف السوبر حداثة هو التالي: لكي ننجو من تعصبنا و طائفيتنا و حروبنا المستمرة لا بد أن نغدو غير محددين في أفكارنا و سلوكياتنا ما يحتم قبولنا للآخر. فالسبب الأساس وراء تعصبنا و طائفيتنا هو كوننا محددين في أفكارنا وتصرفاتنا؛ فحين نكون محددين فيما نعتقد ونتصرف تكون معتقداتنا يقينيات بالنسبة لنا ما يؤدي إلى رفض الآخر. أما اللامحدد فيحررنا من ذواتنا ما يجعلنا غير متعصبين لمجموعة معتقدات أو لهذه الأيديولوجيا أو تلك، و بذلك نضمن قبول الآخر و تحقيق السلام الاجتماعي ضمن المجتمع الواحد أو بين المجتمعات المختلفة.
أخيرا ً، تكون معتقداتنا محدّدة متى كانت يقينية بالنسبة لنا. فالمعتقد اليقيني هو الذي من غير الممكن تغييره و استبداله بآخر ما يجعلنا متعصبين له. من هنا، اليقينيات مصدر التخلف و الطائفية و الحرب والعنف والإرهاب. فعندما تكون معتقداتنا يقينية بالنسبة إلينا، سوف نمارس الإرهاب ضد كل من لا يؤمن بيقينياتنا من جراء تعصبنا لها. على هذا الأساس، لا بد من محاربة اليقينيات و استبدالها بمعتقدات نعتبر أنها من الممكن أن تكون صادقة بدلا ً من اعتبارها صادقة في المطلق. لكننا خارج هذا التصور السوبر حداثوي، بل نحيا اليوم في عصر السوبر طائفية. بينما الطائفية هي التعصب لطائفة معينة ضد الطوائف الأخرى, السوبر طائفية هي اختزال الطوائف في زعمائها و بذلك هي تحويل للصراع من صراع على القيم والمعتقدات إلى صراع على مصالح زعماء الطوائف. هكذا السوبر طائفية هي القضاء على الطوائف ذاتها من خلال تفريغها من معتقداتها و عقائدها باختزالها في زعمائها. من هنا, لم يعد الصراع صراعا ً حول ما هي العقائد الأفضل أو الأصح بل أمسى الصراع صراعا ً من أجل انتصار هذا الزعيم الطائفي أو ذاك. فمثلا ً, معظم شعبنا لا يعرف ما الفرق بين المذاهب الإسلامية المختلفة, لكن كلنا نجيد المشاركة في صراعاتنا المذهبية. في زمن السوبر طائفية نتعصب ليقينيات لا نعلم ما هي. و هذه أعلى درجة من درجات السوبر تخلف. فبينما الشعب المتخلف هو الذي لا يقدّم ما هو مفيد للعالم والبشرية, الشعب السوبر متخلف هو الذي يطوّر التخلف من خلال استخدام العلم والتكنولوجيا من أجل التجهيل. فمثلا ً, كل مذهب أو طائفة لديها مدارسها و جامعاتها و وسائل إعلامها التي من خلالها تحارب المذاهب و الطوائف الأخرى و تدعو إلى ممارسة الإرهاب ضدها. هكذا نعتمد على العلم والتكنولوجيا من أجل نشر الجهل والإرهاب. مَن لا يتحرر من إرهاب ذاته لا يتحرر من إرهاب الآخرين.