23 ديسمبر، 2024 8:43 ص

السوبر حداثة : فلسفة المنهج العلمي

السوبر حداثة : فلسفة المنهج العلمي

 يختلف الفلاسفة حول ماهية المنهج العلمي تماما ً كما يختلفون حول أية مسألة فلسفية أخرى . فمنهم من يعتقد بوجود منهج علمي ، و منهم من يعتقد بعدم وجود منهج علمي . و منهم من يؤمن بأن المنهج العلمي يستدعي الاختبار ، و منهم من يؤمن بأن المنهج العلمي لا يستلزم اختبار النظريات . نرتحل في هذه المقالة إلى عوالم فلسفة المنهج العلمي كي نشهد صراع المذاهب الفلسفية و إمكانية طرح فلسفة جديدة ألا و هي السوبر حداثة التي تقول إن من غير المُحدَّد ما هو المنهج العلمي.

     سيطرت الوضعية المنطقية على فلسفة العلوم خلال النصف الأول من القرن العشرين ، و شارك في بنائها العديد من الفلاسفة منهم كارناب و شليك . بالنسبة إلى الوضعية المنطقية ، لا بد من صياغة كل المعارف بلغة العلم لأن العلوم وحدها تتشكل من عبارات ذات معان ٍ . تقول الوضعية المنطقية إن أية عبارة لها معنى فقط  في حال وجود منهج يمكنا من تحديد ما إذا كانت تلك العبارة صادقة أم كاذبة . من هذا المنطلق ، تعتبر الوضعية المنطقية أن العلم هو الذي من الممكن تصديقه من خلال الاختبار و مشاهدة عالمنا و أن المنهج العلمي يعتمد على تصديق النظريات على ضوء ما نشاهد في الواقع ، و كل ما يستحيل البرهنة على صدقه من خلال مشاهداتنا ليس بعلم و بذلك هو مرفوض . على هذا الأساس أيضا ً ، كل المعارف نتائج استنتاجات حقة نستنتجها من الحقائق المرئية أي التي نتمكن من رؤيتها . و بذلك الميتافيزياء خالية من أي معنى . هكذا ترفض الوضعية المنطقية فلسفات الميتافيزياء كفلسفة هيغل ولا تقبل سوى بالعلم كحقل معرفي و كمصدر وحيد للمعرفة . لكن رغم هيمنة الوضعية المنطقية على الفلسفة في النصف الأول من القرن العشرين ، معظم الفلاسفة اليوم لا يقبلون بها . تتعدد الأسباب وراء ذلك منها أن الوضعية المنطقية تفشل في التعبير عن علمية العديد من العبارات العلمية كعبارة ” كل ما في الكون محكوم بقوانين الطبيعة “. هذه العبارة علمية بامتياز ، لكن من المستحيل تصديقها اختباريا ً لأننا إذا حاولنا فعل ذلك لا بد أن نراقب كل شيء في الكون و نشاهده ، و هذا مستحيل (  Oswald Hanfling : Logical Positivism . 1981 . Blackwell  ) .

     أما الفيلسوف كارل بوبر فيعتبر أن النظريات العلمية مجردة في طبيعتها  و من الممكن اختبارها فقط  من خلال نتائجها و أن النظريات العلمية كما المعارف الإنسانية بشكل عام هي فرضيات مصدرها الخيال الإنساني الخلاق و هدفها  حل المشاكل الفكرية . يؤكد بوبر على أن الاختبار العلمي و ما يتضمن من نتائج لا يتمكن من البرهنة على صدق النظرية العلمية لأن الاختبارات العلمية و نتائجها قد تكون نتيجة صدق  نظرية أخرى مختلفة عن النظرية التي نحاول البرهنة على صدقها ، و بذلك الوضعية المنطقية مرفوضة . بل يصر بوبر على أن النظريات العلمية من الممكن فقط  تكذيبها ؛ فإذا أدت أية نظرية إلى نتيجة كاذبة فهذا يكفي لدحض النظرية و اعتبارها  كاذبة . على هذا الأساس ، يقول بوبر إن النظرية العلمية هي النظرية التي من الممكن تكذيبها على ضوء ما يوجد  في الواقع ، و إن لم نستطع إذن هي لا تعبِّر عن عالمنا الواقعي و بذلك هي نظرية غير علمية . فالنظرية العلمية هي التي تؤدي إلى نتائج من الممكن اختبارها أو مشاهدتها في الواقع ، و بذلك إذا أدت إلى نتيجة كاذبة فهذا يكفل كذب النظرية . على هذا الأساس ، النظرية العلمية هي التي من الممكن تكذيبها . من هنا ، المنهج العلمي بالنسبة إلى بوبر يتشكل من بناء الفرضيات و من ثم المحاولات المستمرة في السعي نحو تكذيبها إن أمكن . هكذا المنهج العلمي يكمن في القضاء على النظريات الخاطئة أما النظريات التي لا تتم البرهنة على كذبها فتبقى و يتم القبول بها  من  دون  اعتبارها  صادقة  Karl Popper: The Logic of  Scientific  Discovery. 2002. Routledge)  ) .

     لكن تعاني  نظرية بوبر من مشكلة جوهرية هي التالية : كما من الصعب البرهنة على صدق النظريات العلمية من الصعب أيضا ً البرهنة على كذبها . أوضح الفيلسوف كواين ذلك قائلا ً إنه يستحيل الحكم على فرضية واحدة بحد ذاتها لأن كل فرضية مرتبطة بفرضيات أخرى و مسلّمات معينة ، و بذلك أي دليل أو اختبار قد يدل على كذب فرضية أو مسلّمة أخرى بدلا ً من أن يشير إلى كذب الفرضية التي ننوي تقييمها . من هنا يستحيل تكذيب النظريات ما يجعل موقف بوبر صعبا ً للغاية (   Quine : From a Logical Point of View . 1953 . Harper and Rowe ) . كما أنه توجد نظريات علمية عديدة من غير الممكن تكذيبها حاليا ً أي اختبارها رغم أن العلماء يقبلون بها بقوة . مثل ذلك النظرية التي تقول إنه توجد ثقوب سوداء في الفضاء . من المستحيل اختبار أو محاولة تكذيب هذه النظرية لأنه لا يمكن مشاهدة الثقوب السوداء كونها سوداء أصلا ً و تبتلع أي شيء يقترب منها و تفنيه . هكذا ثمة علوم لا اختبار لها رغم أنها مقبولة علميا ً ما يجعل من الخطأ  اعتبار أن النظرية العلمية هي التي من الممكن تكذيبها و أن المنهج  العلمي كامن في السعي نحو تكذيب النظريات .

     لقد رأينا صعوبة إن لم تكن استحالة تصديق و تكذيب النظريات العلمية ما قد يدعم موقف الفيلسوف بول فيرابند القائل بأنه لا يوجد منهج علمي . بالنسبة إلى فيرابند ، لا توجد مبادئ أو قوانين منهجية مستخدمة من قبل العلماء بشكل دائم . فلا منهج علمي يملي على العلماء ما يجب فعله و التفكير فيه بل كل شيء يمر أي مقبول . وحجته الأساسية على صدق نظريته الفلسفية هي التالية : إذا وجد أي  منهج علمي فسوف يحدِّد عمل العلماء و يسجنهم في مبادئه ما يؤدي إلى منع نشوء أي تطور علمي جديد . كما يعزز موقفه من خلال أمثلة عدة في تاريخ العلوم . فمثلا ً , عندما نشأت نظرية كوبرنيكس القائلة بأن الأرض و الكواكب الأخرى تدور حول الشمس كانت معارضة لكل مبدأ علمي قائم في زمنها . و إذا تم تطبيق تلك المبادئ العلمية المسيطرة حينها لمنعت الثورة العلمية الجديدة المتمثلة في نظرية كوبرنيكس من الظهور (  .(Paul Feyerabend : Against Method . 3 edition  . 1993 . Verso  

     كما ينتقد فيرابند مبدأ التجانس الذي يقول إن النظريات الجديدة لا بد أن تكون منسجمة مع النظريات القديمة . فهذا المبدأ المنهجي يفضِّل النظريات العلمية القديمة على النظريات العلمية الجديدة من دون أي سبب عقلاني . كما يرفض فيرابند أي مبدأ للحكم على النظريات العلمية الجديدة من خلال مقارنتها بالحقائق المعروفة . هذا لأن النظريات العلمية القديمة تفسِّر الحقائق بما يناسبها و يدعم مواقفها ، و بذلك إذا اعتمدنا على الحقائق المعروفة فسوف تشير بالضرورة إلى صدق النظريات القديمة بدلا ً من صدق النظريات العلمية الجديدة . بكلام آخر ، النظرية العلمية تحدِّد طبيعة الحقائق و الظواهر و تراها على ضوء مسلّماتها المُسبَقة ، و بذلك من الخطأ مقارنة النظريات بالحقائق و المشاهدات كون هذه الحقائق  و المشاهدات تسلِّم مُسبََقا ً بصدق نظريات و مسلّمات معينة . على أساس كل هذا يستنتج فيرابند بأنه لا  يوجد منهج علمي ( المرجع السابق ) . لكن تعرضت نظريته إلى نقد قاتل ألا وهو التالي : نظرية فيرابند لا تميّز بين العلم و الأساطير بل تجعل العلوم متساوية مع الأسطورة . فكما أن  الأسطورة لا تعتمد على منهج و مبادئ لصياغتها و تقييمها كذلك أمسى العلم بلا منهج و بلا مبادئ لدى فيرابند . فالمطلوب هو التمييز بين العلم و اللاعلم ، و هذا ما يرفضه فيرابند بقوة ما يجعل موقفه ضعيفا ً .

     أما الفيزيائي لي سمولن فيؤكد على أن الفيزياء المعاصرة وقعت في مشكلة كبرى . فمثلا ً يعمل العديد من علماء الفيزياء ضمن نظرية الأوتار و على ضوئها . لكن نظرية الأوتار هذه لا تتنبأ بأي شيء جديد و بذلك يستحيل اختبارها ، ورغم ذلك هي النظرية المقبولة من قبل العديد من الفيزيائيين ما أدى إلى تخبط الفيزياء المعاصرة لقبولها نظرية من غير الممكن تصديقها أو تكذيبها من خلال التجارب العلمية . بالنسبة إلى نظرية الأوتار ، يتكوّن الكون من أوتار و أنغامها ، و مع اختلاف تذبذب الأوتار تختلف قوى الطبيعة و موادها . و العلماء منقسمون حول قبولها أو رفضها . فمن جهة ، تقدِّم نظرية الأوتار صورة بسيطة و جميلة عن الكون حيث تتوحّد القوى الطبيعية و جسيماتها كونها ليست سوى أوتار و أنغامها ، و من جهة أخرى لا نتمكن من اختبارها  (  Lee Smolin : The Trouble With Physics . 2006 . Houghton Mifflin Harcourt  ) .

     بالنسبة إلى سمولن ، المنهج العلمي يتضمن بالضرورة إخضاع النظريات للاختبار فالتكذيب أو التصديق . من هنا يرفض سمولن  نظرية  الأوتار  لأنها غير  قابلة   للاختبار  (المرجع السابق ). لكن كما أوضح سمولن نفسه يوجد العديد من العلماء الذين يقبلون نظرية الأوتار و يعملون على أساسها . و بذلك لا بد من أنهم يعتقدون بصدق نظرية أخرى في المنهج العلمي مختلفة عن نظرية سمولن . أي لا بد أنهم مقتنعون بأن المنهج العلمي لا يتضمن بالضرورة إخضاع النظريات للاختبار و تكذيبها أو تصديقها ، ولذا هؤلاء العلماء يقبلون نظرية الأوتار و يعملون على ضوئها . هكذا العلماء منقسمون حول ما هو المنهج العلمي . من هنا ، من الممكن أن  نستنتج بحق أنه من غير المُحدَّد ما هو المنهج العلمي  كما تؤكد السوبر حداثة؛ فمن غير المُحدَّد ما إذا كان المنهج العلمي يستلزم بالضرورة الاختبار أم لا . و بما أنه من غير المُحدَّد ما هو المنهج العلمي كما تقول السوبر حداثة ، إذن من المتوقع وجود نظريات علمية مختلفة باختلاف المنهج المُعتمَد ، ولذا توجد نظرية كنظرية الأوتار رغم عدم ارتباطها بالاختبار و توجد نظريات علمية أخرى من الممكن اختبارها. هكذا تتمكن السوبر حداثة من تفسير اختلاف النظريات العلمية .

     بينما تعتبر الحداثة أنه يوجد منهج محدَّد للعلم ، تقول ما بعد الحداثة إنه لا يوجد منهج للعلم . لكن تختلف السوبر حداثة عن الحداثة و ما بعد الحداثة لأنها تؤكد على أنه من غير المُحدَّد ما هو المنهج العلمي . الآن ، بما أنه من غير المُحدَّد ما هو المنهج العلمي كما تصر السوبر حداثة ، إذن من الطبيعي أن يختلف العلماء حول ما هو المنهج العلمي فيعتبر بعضهم أن المنهج العلمي يتضمن بالضرورة اختبار النظريات و يعتبر آخرون أن المنهج العلمي لا يتضمن بالضرورة اختبار النظريات و يؤمن بعضهم بوجود منهج علمي محدَّد و يؤمن آخرون بعدم وجود منهج  علمي أصلا ً . هكذا تنجح السوبر حداثة في تفسير اختلاف العلماء حول المنهج العلمي ، و بذلك تكتسب السوبر حداثة قدرتها التفسيرية فمقبوليتها . لو كان المنهج العلمي محدَّداً لاتفق العلماء حول ما هو المنهج العلمي بدلاً من أن يبقى الجدل مستمراً حول ماهية المنهج العلمي. و لو كان المنهج العلمي مُحدَّداً لتم سجن العلماء في اتباع منهج علمي معين. هكذا لا محددية المنهج العلمي تحرر العلماء من سجون منهج علمي واحد مُحدَّد سلفاً. من هنا , الحرية ماهية العلم.