18 ديسمبر، 2024 5:52 م

السنوار اسطورة في ملحمة غزة

السنوار اسطورة في ملحمة غزة

ان يلهم انسان في مقتبل شبابه كثير من اقرانه حوله ويكون مثلا وقدوة يتمنى الاخرون التشبه بها ذلك يعني ان للشخص سمات جاذبية قوية وله طاقة تنشرها كلماته وافعاله وحضوره أينما حل .، لقد وعى السنوار مبكرا معنى وجوده وأصبح هم الامة والوطن قضية حياته وهو ما يزال يانعا وصبيا حتى قبل دخوله الى الجامعة وهو ما أدهش زملائه حينها، تأثر بموقف ونشاط الشيخ ياسين، الرجل المقعد الذي رغم اعاقته الجسدية لا يكل ولا يمل من العمل والدفاع عن ارضه ومقدساته وشعبه ضد المحتل الصهيوني، منصتا الى رجال دين قريبين من محيطه العائلي، حينها تفكر بإحدى آيات سورة الحشر “هو الذي أخرج الذين كفروا من اهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم ان يخرجوا وظنوا انهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب” التي يسمعها في المسجد ورأى فيها بعد ذلك وهو في السجن خطة لإخراج المستعمر من “حيث لا يحتسب” في مقابل خطة الجنرال كوخافي الذي أجاب عن سؤال حول خطته المسماة بالزخم لسحق العدو وتدميره ان غزة عنده مثل شربة ماء، فكرة اخراج العدو بحسب الآية القرآنية التي رافقته ،أصبحت الفكرة التي شغلته وطورت طريقة نشاطه وعمله سواء في السجن او خارجه، متابعا تطورات عمل وفكر فصائل المقاومة الفلسطينية بمختلف تياراتها السياسية ليلتقط عقله خلاصات ما يحيط به وما يجري ليتمثلها ويذهب به التفكير الى هدف أبعد يكمل فيه طريق من سبقه بهدف تحرير فلسطين وتحرير شعبه من قبضة الاحتلال الصهيوني. لم يكن السنوار ذكاءا حادا وحسب بل كان انسانا قريبا من شعبه وفي خدمته، فقد برز مبكرا في قدرته التنظيمية والإدارية، كان جاهزا ومتطوعا لإعادة بناء بيوت الفلسطينيين التي هدمها الاحتلال، وقام بالالتفاف على الصهاينة لإعادة بناء مبنى الازهر القديم رغم عدم وجود تصريح من سلطة الاحتلال وذلك بدعوة الشباب أيام العطل ليكملوا بنائه. يقول السيد مأمون أبو عامر احد أصدقاء شبابه انه ذو همة عالية ومخلص ولديه طاقة جبارة ويجيد كل شيء، ينفذ ما تطلبه منه، انه ماكنة عمل لا تعرف الراحة، أنه كصخرة سقطت من جبل ، كان مشغولا على الدوام سواء بالمساعدة او بتوعية وتنظيم الشباب الغزاوي قبل الانتفاضة الأولى. وقام مرة بجمع الشباب للذهاب للقدس لمد يد العون لأخوته للمرابطة والمبيت في المسجد الأقصى وهو نشاط يحدث وقتها في غزة لأول مرة. كما قاد تظاهرة اثناء حصار الشهيد أبو عمار دعما له. وفي احدى خطاباته قال: نم قرير العين يا أبا عمار وكل الشهداء بعد ان أصبح لدى شعبك مقاومة من أبناء القسام لديها مئات الصواريخ تدك بها تل ابيب. بدأ مرحلة عمل جديد بعد ان ترك الدراسة الجامعية اذ كان يرى في العملاء مشكلة يجب حلها قبل كل عمل فألتحق بجهاز مجد التابع لحركة حماس وعلى يد هذا الجهاز تم تصفية كثير من العملاء، ثم ما لبث ان اعتقل بداية الانتفاضة الأولى إثر ذلك بسبب اعتراف عليه انه يقتل العملاء وسجن لمدة ثلاثة وعشرين عاما.
لعل حياة السنوار في السجن هي الفترة الأهم والأكثر كثافة في حياته لأنه ورفاقه كانوا سجناء لدى المحتل وفي مواجهة ومعرفة له ولأساليبه ولعقليته التي يحتاج المقاوم لسبرها والتعرف عليها عن قرب ليتمكن من محاربتها وهو ما قام به السنوار طوال سنوات سجنه الثلاث والعشرين. في السجن، قرر السنوار ان يتعلم العبرية وان يدرس وان يتحاور ويتعرف عن قرب على سجانيه ويتحاور معهم، بل كان من قيادة السجناء مع إدارة السجن يدير تنظيم العلاقة بين الفصائل وإدارة السجن ويسعى للحصول على بعض الحقوق التي يطالب بها رفاقه. لقد حاول الهرب عدة مرات لكن محاولاته باءت بالفشل. ولأنه شخصية لا تستسلم وفهم الكثير عن سيكولوجية العدو وعن طبيعة سجانيه فقد اغرى حراس إسرائيليين بالمال ليسلموا له جندي ليأسره ويفاوض عليه للخروج من السجن.
وفي صفقة شاليط عام 2010 كان السنوار جزء من المفاوضين خاصة ان أخيه كان يشرف عليه، يقول الدكتور بيتون انه قابل السنوار عام 2004 وفي الكلام عن الصفقة لم يعجب السنوار العدد 450 اسير مؤبد الذي تريد دولة الاحتلال الافراج عنهم، فقد أراد ان يكون العدد أكبر من ذلك، ويتذكر الطبيب الاسرائيلي أيضا ان السنوار قال له عندما تضعفون سنهجم عليكم ونقتلكم! تبدو هذه الجملة من فم السنوار للطبيب وكأنها جس نبض وفي نفس الوقت تحد وتهكم يعرف صاحبه تصويبه بدقة.
ورغم انه قضى سنوات طويلة في السجن بعيدا عن الواقع الجديد في غزة لكنه بدأ بالعمل حال خروجه من السجن وفي رأسه فكرة يريد تنفيذها. ان ترسخ فكرة التحرك العسكري ضد الاحتلال نمت وتجذرت في السجن ومع مرافقة السجانين بكل فئاتهم من عسكريين ومحققين وأطباء ومن التعامل معهم، لم يكن السنوار يحتاج لأكثر من هذه السنوات لمعرفة قتلة شعبنا الفلسطيني وهو ما دعاه للمباشرة حالا بالعمل بعد خروجه من السجن وهو ما فعله. لقد تيقن ان العمل المتقن المتواصل والجاد والتخطيط والذكاء هو السبيل لنجاح المعركة مع المحتل لذلك خرج مؤمنا أكثر من أي وقت مضى بقضية تحرير فلسطين وفق ما اكتسبه وأضيف لإيمانه في السجن بجوار العدو. ان تجربة السجن جعلته يفكر بطريقة مختلفة تتسم بكثير من الإيجابية والمرونة اذ أصبح مستعد لدفع اثمان من اجل الحقوق والمصلحة الوطنية الفلسطينية لذلك اجتمع مع الفصائل الفلسطينية للوصول الى المصالحة وانهاء الانقسام السياسي، كما تجنب التصادم مع مصر ونظامها السياسي وأعاد العلاقات مع إيران وسورية بعد اغلاق مكتب حماس فيها عام 2015. لقد خاض السنوار والمقاومة في غزة حربي 2014 و2020 مع الاحتلال وجيشه مستفيدا من دروس هاتين التجربتين، ولم يكن يخفي نواياه فيهما، بينما عمد الى استخدام التضليل في مسيرات العودة المدنية التي بدأت عام 2018 كي يرسل الى المحتل رسالة عن “ضعف غزة” التي قال أحد جنرالات الاحتلال ان القضاء عليها هو شربة ماء. يؤكد السيد مأمون أبو عامر أيضا ان مسيرات العودة عمٌقت القناعة لدى العدو بان هدف أبو إبراهيم هو الحصول على المال لغزة، خاصة انه قدٌم نفسه دبلوماسيا بانه كاره للحرب ويريد تطوير الاقتصاد وتحسين الوضع الإنساني للفلسطينيين في غزة.
من مشهد الساعات التاريخية الأولى لطوفان الأقصى التي أذلت الكيان الاستعماري وسادته الى فيديو معركته الأخيرة وهو جالس بشموخ مثخن بالجراح ، موشحا بالكيفية الفلسطينية بعد مواجهة مع جيش الاحتلال الخائف خلف جدران البيت المقصوف والمهدم وألقائه القنبلة على الجنود والعصا على المسٌيرة بعد نفاذ ذخيرته قبل ان يتم قصف المبنى بمدافع الدبابات ، قاد السنوار معركة شعبه بكل أنفاسه كما قال احد الجنود الأمريكيين في فديو انتشر حول العالم لتتبعه عشرات الفيديوهات المماثلة التي رأت في السنوار اسطورة عالمية عاشها العالم وتابعها بالمباشر منذ اكثر من عام ، فيديوهات بعض أصحابها رجالا ونساء يتكلم ودموعه تهطل وآخر ينهي كلامه بآخذ السلام العسكري للقائد الذي حارب العدو وتنقل مع رجاله من مكان الى آخر حتى الرمق الأخير ولم يختبئ كما يروج الصهاينة وصبيانهم في الغرب ولم يحتمي او يستعمل الاسرى دروع بشرية كما ادعوا، غالبية هؤلاء الأشخاص من أمريكا وأوربا حيث الدعاية الصهيونية الكاذبة والوسخة والعنصرية تملأ الشاشات طوال الليل والنهار للدفاع عن الكيان العنصري وجيش الإبادة وحكومة مجرم الحرب نتنياهو.
أسطورة السنوار صنعها الناس من مختلف الدول حول العالم وبثت في ارجائه )من حيث لا يحتسب الصهاينة بنشرهم آخر فيديو له( ، بهذه الكلمات الصادقة المشاعر، بل المليئة بالفخر وبالقوة وبالإيمان بقضية الشعب الفلسطيني وبالحقائق حول حرب الإبادة الصهيونية ضده التي تحاول القوى الكبرى ومعها دول عربية متواطئة ومشاركة طمسها بكل الوسائل والتشريعات العنصرية البائسة، سرت كالطوفان على منصات التواصل الاجتماعي، وصف السنوار : قاتل حتى النفس الاخير، انه يشبه نجوم هوليود، الكيفية حول عنقه وذراعه مبتورة يحمل عصا يرمي العصا على المسيرة التي ستقتله ومع ذلك بدا هادئا بشكل لا يصدق ، رمى العصا وكأنها رمح، لا يوجد سياسي في اوربا وامريكا يجرؤ على الموت هكذا ،حارب ونجا من هجوم دبابة وطائرة درون حيث فقد ذراعه ومع ذلك قاتلهم حتى النفس الاخير، سواء تحبه ام تكرهه ، هذا الشخص أدى واحدة من أروع المناورات العسكرية في التاريخ الحديث.
في هذه الملحمة التي ستكون مفصلا تاريخيا مهما في نضال الشعب الفلسطيني ومستقبل الاحتلال، كرر السنوار وقبله إسماعيل هنية كما اسلافهم القادة في أكثر من مناسبة بان دمائهم ودماء أبنائهم ليست اعز ولا أغلى من دماء باقي أبناء الشعب الفلسطيني وانهم واولادهم فداء للوطن في معركة تحريره ليرسخوا تلاحمهم مع شعبهم. واعتبر السنوار، ومنذ بدايات وعيه ان كل لحظة من حياته هي لخدمة شعبه ولقضية تحرير فلسطين والاقصى من الاحتلال العنصري.
سيكتب التاريخ ان العالم لم يشهد ملحمة صمود مثل ملحمة الشعب الفلسطيني الصابر المتشبث بأرضه وإعادة بناء بيوته في غزة، الشعب الذي ما يزال صامدا، مقاوم يرفض الاستسلام رغم المجازر والابادة والدمار والالام وتحمل كل ما لا يطاق من آلة القتل الصهيونية الامريكية التي لا تكل ولا تهدأ بل تعربد في كل مكان وكل شبر ، تحصد طائراتها بأهداف محددة واستهداف منظم منذ أكثر من عام الأطفال والنساء والرجال، الأطباء والمسعفين، الصحفيين والاساتذة ، تحت انظار عالم متواطئ ومشارك في الجريمة الكبرى، يراها مع الكيان حقا لمصادرة ونهب وسرقة المزيد من الأراضي الفلسطينية والعربية، آلة قتل منتشيه بعد مرور عام، دون تحقيق أي هدف من اهداف الحرب واقتراف مزيد من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي حكمت بها المحاكم الدولية، ومزهوة بعمليات اغتيال معلوماتها زودها بها حلفائها لتنقذها وليجعل منها انتصارات يتباهى بها رئيس وزراء ووزراء مجرمون وفاشيون يتبارون في ابتداع أنواع الجرائم ضد أكثر من مليوني فلسطيني اعزل لتنفيذ مآربهم في الاستمرار بالتطهير العرقي وتهجير الشعب الفلسطيني واقتلاعه من أرضه. تبقى غزة صامدة أبية تخاطب منها زوجة الشهيد إسماعيل هنية المحتل الغاصب والعالم بهذه الكلمات المؤثرة: قدمت زوجي وأربعة من اولادي شهداء في سبيل الله والمسجد الأقصى، عندنا قماش نكفن فيه أولادنا لكن ما عندنا قماش نرفع فيه الراية البيضاء.