يرتبط بناء الدولة المدنية العراقية 1921_2003 بجهود رجال السياسة والدولة من القيادات السنية التي شكلت الغالبية المطلقة من مفاصل القيادة والأدارة بل هي من أرست قواعد بناء الدولة المدنية العلمانية سواءا في تشكيلة النظام الملكي الديمقراطي ام التحول للنظام الجمهوري وماشهد من انتقالات بنيوية .
اكثر من ثمانين عاما والنخب السياسية من أهل السنة منخرطة بمشروع الدولة الوطنية ، من كان منهم في دست الحكم ام في صفوف القوى السياسية المعارضة ومثلما كان لهم دور طليعي في الأحزاب اليسارية ذات التوجهات الديمقراطية والأشتراكية كانت لهم مشاركات ريادية في الأحزاب القومية وهو ماجعل الذاكرة السياسية العراقية لاتؤشر لأندفاع النخب السنية بأتجاه أحزاب طائفية او مذهبية منغلقة ، وبحكم التساوق المذهبي مع السلطة السائدة فأن هذه النخب كانت تأخذ ادوارها في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية ، وهي تتسم بطابع الوسطية والأعتدال في الجزء الأكبر من التاريخ السياسي للعراق الحديث ، ومن يقف منها موقفا ضد السلطة فأن موقفه يتسم بالمعارضة السياسية ولايتخذ اية مثابة دينية او طائفية ، وهكذا تم تجيير بناء الدولة المدنية العلمانية للنخب السنية التي استحوذت على السلطة السياسية في العراق خلال القرن العشرين وكانت الرصيد الضامن للدولة المدنية الوطنية ، رغم الأعتراضات والأخطاء التي ترقى لمصاف الجرائم ابان استلاب صدام للسلطة في العشرين سنة التي سبقت سقوط نظامه تحت زحف ماكنة الأحتلال العسكري الأمريكي .
التغيير الذي حدث بعد 9 نيسان 2003 ، احدث معه انقلابا دراماتيكيا في موقف النخب السياسية السنية فقد انسحبت من الدور التاريخي الذي اضطلعت به في تبني مفهوم وشعار الدولة المدنية والنضال الوطني ووقعت في فخ الطائفية ، بمعنى تناغمت مع طبيعة التوجهات التي أسس لها الدستور العراقي في احياء الثقافات والمكونات الطائفية والعرقية والقومية ، واذ جاءت الأحزاب الأسلامية ذات الطابع الطائفي الشيعي تأخذ موقعها في التراتبية العرقطائفية التي وضعتها توجيهات الأحتلال الأمريكي ، فأن النخب والجماعات السنية في عمومها انكفأت على تمثيل طائفي ، اي تمثيل الطائفة السنية ، متخلية عن دورها التاريخي في تكريس دور النضال الوطني ، واذ تأتي هذه الأنعطافة برعاية وتشجيع من الدور الأمريكي تحت ذريعة نيل الحقوق او تمثيلها ،فأنما هي خطوة اجرائية ناسفة لمشروع الوحدة الوطنية التي انساقت لها غالبية الأحزاب الطائفية والأثينية والقومية ، واذا كانت بعض الظروف الزمانية والمكانية وتاريخ الأضطهاد قد اعطى تبريرا للشيعة بتأسيس احزاب طائفية متساوقة مع الحاضن الذي ولدت فيه مكانيا والظرف الأستثنائي الذي ولدها ، ولعل التبرير يمتد للاحزاب القومية الكوردية التي عاشت صراعا وجوديا مريرا وحروب ابادة مستمرة ، فأن المشروع الوطني المدني كان بانتظار النخب السياسية السنية وهو كفيل بان يعطي لها دعما وطنيا ومشاركة عريضة يسهم بها كل الوان الطيف العراقي بأختلاف الأنتماء الطائفي او القومي ، لكن هذه النخب تم استدراجها لمصيدة الطائفية وبهذا ظهر الجزء الغاطس من المشروع الأمريكي لتفتيت العراق .
ان غياب المرجعيات السياسية والأحزاب السياسية التقليدية وكذلك المرجعية الدينية ساهم باندفاع بعض الجماعات والنخب السياسية السنية للانسياق وراء مطب الطائفية ، مثلما انساقت بعض المناخات لأحتضان القاعدة ، او التورط بأعمال لاتمثل جوهر وحقيقة الأنتماء الوطني لأهل السنة في العراق .
التظاهرات التي انطلقت منذ شهرين واكثر في الأنبار وصلاح الدين والموصل وديالى وبغداد للتعبيرعن مظالم متراكمة منذ عشر سنين ، فانها تعبر ضمنا عن رفض الدور السياسي للنخب السياسية السنية المتورطة بل وتتقاطع مع سياق العملية السياسية برمتها حين ترفض الدستور وتعلن شعار اسقاط الحكومة، لكنها رغم زخمها الجماهيري الكبير والتأييد الشعبي والنخبوي الذي تحظى به ، ألا انها تنطوي على صوت طائفي بينما كان الأجدر بها ان تحمل مطاليب وطنية مشتركة سيما وان اهل العراق جميعا بموقع الشعور بالظلم والأهمال وسرقة الحقوق ، واذا كان الظلم يتركز في المدن التي يتظاهر ويعتصم اهلها ، فأن المهام الوطنية تدعوهم الى توسيع أفق المطالبة والتعبير عن الهم الوطني وعدم التظاهر بمطاليب وحقوق اهل السنة فقط .
الزخم الجماهيري المليوني الذي يتظاهر ويعتصم في المدن العراقية مدعو اليوم لتكريس الوعي السياسي والعودة للدور الوطني في اعلان الشعار الوطني والتعبير عن هموم الوطن بعمومه من الجنوب الى الشمال ومن الشرق العراقي الى غربه ، تلك فرصة تاريخية لنشوء توجهات مدنية وقيادات مدنية واكاديمية تحترف العمل السياسي بتقنية عالية وعدم الأقتصار على رجال الدين والعشائر وحسب ، وهكذا تعود النخب السنية الى الدور الوطني المدني والخروج من الأفق الطائفي الذي ادخلوا به في واحدة من الأخطاء الأستراتيجية التي مر بها وطننا في السنوات العشر الأخيرة .
[email protected]