استقلالية القضاء و احترام القانون، من أَهمّ مقومات النظم الديمقراطيَّة في العالم. فلمّْ نقرأ او نسمع يوماً ما خبراً، بأَن اليابان او بريطانيا او فرنسا او غيرها من الأَنظمة الديمقراطيَّة الرصينة في العالم، قامت حكوماتها باصدار عفو عام عن المجرمين، في تلك البلدان. لكن في العراق الجديد، الذي عَرَّف دستوره هويَّة نظام الحكم، بأَنَّه نظام ديمقراطي تعدُّدي، شهدَ تجربة خاطئة ارتكبها السيّد نوري المالكي، عندما أَقرَّت حكومته في ولايتها الأولى(2010-2014)، قانون العفو العام عن المجرمين، كخطوة لتحقيق صدق نيَّة السيَّد المالكي، في تطبيق ورقة الاتفاقات السياسيَّة، مع الأَطراف الأخرى المشاركة في العمليَّة السياسيَّة. و بموجب ذلك القانون، تمَّ الافراج عن عتاة المجرمين الارهابيين. و بعد فترة قصيرة من الزمن، أَعلن السيّد المالكي، بأن الكثير من المجرمين الارهابيين، الذين تمَّ القاء القبض عليهم لاحقاً، كانوا من الذين شملهم قانون العفو العام الصادر في عام 2008.
إِذن التجربة اثبتت عمليّاً و باعتراف رئيس الوزراء العراقي السابق، بأَنَّ الارهابيين الذين افرج عنهم بموجب قانون العفو العام في عام 2008، عادوا ليمارسون جرائم الارهاب ضدّ المواطنين العراقيين الابرياء. و الآن أَقدَمَ السيّد حيدر العبادي، على تكرار تجربة خاطئة، تمَّ ممارستها عمليّاً من قبل الحكومة التي سبقته.
إِنَّ اصدار العفو العام، لا يكون إِلاّ في الانظمة الدكتاتوريّة، حيث يستحوذ رئيس السلطة، على كلّ الصلاحيات، فلا يضبطه قانون، و لا يقيّده دستور. فهل نظامنا الديمقراطيّ أَخذ يقترب من حدود النظام الدكتاتوري؟.
وهناك نقاط في غاية الأَهميَّة، يجب أَنّْ نعرف ضررها على الصالح العام، عند اقرار قانون العفو العام، الذي رفعه مجلس الوزراء الى مجلس النّواب، في يوم 16 حزيران 2015، للمصادقة عليه. و من المؤكدّ، أَنَّ مجلس النواب سيقوم بتعديل فقرات هذا القانون، لتكون اكثر خدمة و منفعة للمجرمين الارهابيين. و النقاط هي:
1. عندما انتخب الشعب العراقي ممثليه، عن طريق صناديق الاقتراع، فانَّه خولهم ليقوموا بواجب تحقيق مصالحه. فهل اقرار قانون العفو العام، يخدم مصالح الشعب العراقي، أَمّ أَنَّه يتقاطع معها؟.
2. مَنّْ مِنْ أَبناء الشعب العراقي، خوّل الحكومة العراقيَّة لتفرِّط بحقه؟.
3. مَنّْ فقد عزيزاً له في عملية ارهابية، هل ذهب الى السيد العبادي، أو أَيَّة جهة حكومية أُخرى، و قدَّم طلباً خطيّاً، تنازل فيه عن حقّ القصاص العادل، من المجرم الذي فجعه بعزيزه؟.
4. من الناحية الفقهية، لا يجوز لأَيّ جهة التصرف بحقوق جهة أخرى، ما لمّ يَأْذن صاحب الشأن حصراً بذلك. و بناء عليه فان اصدار قانون العفو العام، فيه مخالفة لتعاليم الدّْين الاسلامي. و الدستور العراقي لا يجيز تقاطع القوانين، مع الشريعة الاسلاميّة. فقد جاء في الباب الأول، المادة(2) أَولاً، من الدستور العراقي ما يلي:
أ. (لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام.)(انتهى).
ج. (لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق و الحريات الاساسية الواردة في هذا الدستور.)(انتهى).
فهل اقرار قانون العفو العام، لا يُعدُّ عبثاً و تفريطاً، في حقوق المواطنين؟.
5. هل يعلم الموقّعون على قانون العفو العام، أَنَّهم سيُعرِّضون أَبناءَنا العاملين في الأَجهزة الأَمنيَّة و التحقيقية والقضائية، الى مخاطر كثيرة، نتيجة لقيامهم بواجباتهم، ابتداءً من عمليات القاء القبض على المجرمين، و حتى وصولهم الى المحاكم؟.
6. و هل يعلمون مدى حالة الاحباط و الانكسار النفسي، التي سيشعر بها، كلُّ من تعامل مع ملفات الارهابيين و المجرمين؟.
7. في كل دول العالم ذات النظم الديمقراطيّة، تسعى الحكومات فيها لتشريع القوانين التي تحمي المواطن، و تصون حقوقه من أَيّ اختراق، لكن في العراق الجديد تسعى الحكومة لحماية الارهابيين، و المزورين و المختلسين و الفاسدين، فأيّ منطق يفسر هذا التوجه لحكومتنا العراقيّة، و الشعب العراقي يعيش حالة حرب وجهاً لوجه، مع المتآمرين و المتمردين على النظام و القانون؟.
8. و هل يعلم الموقعون على قانون العفو العام، أَنَّهم بتوقيعم على هذا القانون، سيقتلون ما تبقى من عنصر الاخلاص و المواطنة الصالحة، داخل كيان كلِّ انسان عراقي غيور، حيث سيشعر الانسان العراقي الصالح، بأَنّْ لا قيمة للقانون، و لا وجود للحقِّ، و لا أَثر للعدل في هذا المجتمع البائس؟.
أَقول:
إِذا كان إِقرارُ قانون العفو العامِّ، نتاجاً لعملية سياسية خاوية من القيم الحقَّة، و فاشلة في معالجة متطلبات الشَّعب، فليَنهض الشارع العراقي ليدافع عن حقوقه، بدلاً من تفويض أُموره لأَشخاص، ليسوا جديرين بتحمل الامانة و المسؤولية. و الله تعالى من وراء القصد.