17 نوفمبر، 2024 11:31 ص
Search
Close this search box.

السلوك التغريبي: الوجه العملي لخطاب التغريب

السلوك التغريبي: الوجه العملي لخطاب التغريب

 الجانب السلوكي الاجتماعي الذي يفرزه خطاب التغريب، ويشكّل ظاهرة اجتماعية واضحة، أو ــ بكلمة أدق ـــ الظواهر السلوكية المجتمعية التغريبية؛ هو أحد أهم الأوجه العملية لخطاب التغريب. والسلوك – كما الرأي العلمي السائد – هو التعبير الخارجي عن ثقافة الإنسان، وأبرز المؤثرات فيه: المبادئ والأفكار والقيم الاجتماعية، وينقسم إلى:

1- سلوك فردي، وهو ردود الفعل الراسخة عند الفرد، أو ما يعرف بـ«عادات الفرد».
2- سلوك اجتماعي، وهو ردود الفعل المشتركة بين أفراد النوع في مجتمع واحد، أو ما يسمى بـ«العادات الاجتماعية».

   إن ردود الفعل التي يتحدث عنها علماء النفس في تعريفهم للسلوك الإنساني هي – من وجهة نظر إسلامية – ردود فعل إرادية مقصودة، لها غاياتها التشريعية والتكوينية التي حدّدها الله (تعالى)، وأساليبها التي يختارها الإنسان غالباً، وليست ردود فعل آلية لا إرادية أو عبثية، تمثّل نوعاً من الجبر؛ لأن الله خلق الإنسان لأهداف وغايات معيّنة ((أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وإنكم إلينا لا ترجعون))، وخيّره بين سلوك الخير وسلوك الشر ((إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً))؛ فالسلوك يمثّل إرادة الإنسان القادر على الفعل والترك، والإنسان هو المسؤول الأول عن أي سلوك يرتكبه، حتى لو ارتكبه تحت مختلف الذرائع والمسوغات، كادّعاء الانجرار (اللاوعي) وراء الفعل الاجتماعي العام، أو ما يعرف بالسلوك الصادر عن تأثيرات «العقل الجمعي» أو الاضطرار للتلون بلون المجتمع أو الجماعة ((إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً)).

  وعلى وفق القواعد التي أشرنا إلى الرأي الإسلامي فيها؛ فإن السلوك التغريبي، كأي سلوك آخر، ربما يصدر في مجتمعات المسلمين عن قصد أحياناً، وهو السلوك الهادف والمبرمج، أو بدون قصد أحياناً أخرى، وهو ما يمكن أن نسميه بالانجرار، وربما يصدر اضطراراً. ولكن في كل هذه الحالات، يمثّل السلوك التغريبي انسحاقاً وهزيمة للذات أمام الآخر، وهو الهدف النهائي للغزو الثقافي والتخريب الاجتماعي الصادر من الخارج، كما أنه لا يشكّل نوعاً من «الاحتكاك الثقافي» (Cultural contact) الموضوعي مع حضارة الغرب، ولا تفاعلاً حقيقياً معها ولامثاقفة، كما أشرنا سابقاً، بل انبهار بها ولهاث خلفها، حتى بلوغ أقصى حالات الهزيمة والأسر. أي أن السلوك التغريبي هو محظ تشبه ساذج بالغرب وتبعية نفسية وسلوكية وأخلاقية له، ولسيت استفادة من تكنولوجيا الغرب وعلومه وصناعاته ومناهجة الفكرية المقبولة إسلامياً، وهو أيضاً تأثر بالإفرازات السيئة لهذه التكنولوجيا والعلوم، كوسائل الإعلام وطرق المعيشة والملبس والمأكل، ثم انعكاس ذلك على الأخلاق والسلوك.

   والمفارقة؛ أن مستوى ممارسة بعض المناخات الاجتماعية المسلمة للسلوكيات التغريبية، عن قصد أو بدونه أو اضطراراً؛ بلغ حداً، بات عنده الفرد والجماعة اللذان لايمارسان هذه السلوكيات، وخاصة بعض السلوكيات المتفجرة في المجتمع، يمثّل شذوذاً اجتماعياً وتخلفاً ورجعية، كما أصبح من يحاول الاعتراض على هذه السلوكيات أو التنبيه على خطورتها وتعارضها مع الشرع والعادات والتقاليد الاجتماعية؛ متخلفاً ورجعياً، وكأن الأصل هو الشذوذ السلوكي التغريبي، والطارئ هو السلوكي الشركي والتقليدي الأصيل، وهو ما يمكن توصيفه بانقلاب الموازين، وهي ظاهرة أخطر من السلوك التغريبي الشاذ نفسه.

   لقد أخذ السلوك التغريبي يستفحل وينمو بشكل غير طبيعي ولافت للنظر في مجتمعات المسلمين، تزامناً مع الانطلاقة الجديدة للصحوة الإسلامية في نهاية السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي، حتى أصبح واضحاً أن الاتجاه التغريبي أو تيار انسحاق الذات وذوبانها في الغرب، هو الاتجاه المعاكس الذي يقابل الاتجاه الإسلامي الأصيل، أو تيار اكتشاف الذات والعودة إليها، وكأنّ الغرب الغازي يسعى بكل الوسائل، من خلال دعم الاتجاه التغريبي ونفخه، لبلوغ حالة الموازنة بين حجم الصحوة الإسلامية وثقلها من جهة، والتغريب من جهة أخرى؛ للحيلولة دون ميل كفة الصحوة الإسلامية فكرياً وثقافياً واجتماعياً، ما يؤدي إلى حدوث تغيير اجتماعي جذري في مجتمعات المسلمين. ولذلك؛ يمكن القول بأن الاتجاه التغريبي هو جزء من العمق الاستراتيجي والأمني لحماية المنظومة الغربية، والمحافظة على مصالحها السياسية والأمنية والاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية في البلدان الإسلامية، سواء تم ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

عوامل خلق السلوك التغريبي وأنماطه

  العوامل المؤثرة في السلوك التغريبي، والتي تعمل على إيجاد التحوّل في البنى الثقافية للمجتمع، تنقسم إلى مجموعتين، تكمّل إحداهما الأخرى:

1- العوامل الخارجية، وتتمثل في:

1- ممارسات الاستعمار، ومنتجاته المحلية، على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
2- التطور التكنولوجي في الغرب، وانتقال السلع الغربية المتطورة إلى مجتمعات المسلمين.

2- العوامل الداخلية، وتتمثّل في:

1- الوضع الداخلي في البلدان الإسلامية، الذي ترسمه ممارسات الأنظمة، والتخلّف الاقتصادي، وتكريس حالة المجتمع الاستهلاكي، والتخلف الاجتماعي، والجمود الثقافي، والانحراف في مناهج التعليم، وفي أساليب ممارسة الإعلام.
2- الهزيمة الداخلية للكثير من شرائح وطبقات المجتمعات المسلمة أمام الغرب، وقناعتها بتفوق الغرب وصحته فكرياً ونتاجياً ومعاشياً، وبالتالي صحة سلوكياته الاجتماعية وأنماطه في ممارسة الحياة.

   إذن، هناك وافد خارج قوي، تفاعلت معه أرضية داخلية خصبة، فكان الناتج سلوكاً آخر مختلفاً في المجتمعات المسلمة، التي أخذت تمارس أنماطاً حياتية منحرفة نفسياً واجتماعياً وأخلاقياً، من أبرزها «السلوك الطقسي» (Comportment Ritual)، وهو مصطلح استخدمه «كونراد لورنر»، ويريد به نمطاً من السلوك يستخدمه الضعيف المنهزم المستسلم أمام القوي الغازي، بغية استرضاء هذا القوي، وطمعاً في كبح جماحه، ومحاولة إيقاف المعركة عند حدها. ولكن اللافت للنظر أن بعضهم استخدم هذا السلوك، ولكنه لم ينجح في استلطاف الغازي القوي (الغرب)، إذ استمر الأخير بغزوه الثقافي، وصولاً إلى أقصى غاياته.

   وهناك سلوك آخر، يسميه علماء النفس الاجتماعي بــ «التماهي بالمتسلّط» (Imitation of the bossy)، أي تشبّه المعتدى عليه المنهزم بالمتسلّط المعتدي، وتمثّل عدوانيته وأسلوب حياته وقيمه المعيشية، في محاولة للهروب من الواقع، والتخلص من مأزق الحقارة والانهزام. وتبدأ العملية بازدراء المتماهي لقيمه وتقاليده وأسلوب حياته، وكل ما يمت بصلة إليها، وذلك جراء القصف الثقافي المركّز الذي يمارسه الغازي، فيدخل الإنسان إليها، فيدخل الإنسان المنسحق من خلاله حالة شبيهة بالغثيان واللاوعي. الأمر الذي يؤدي إلى كراهية المنهزم لانتمائه العقيدي والقومي والوطني، ومن ثم محاولة التشبّه بالمعتدي.

   وفي هذين النمطين – المشار إليهما – وغيرهما، يتشكّل لدى الضعيف المنهزم عقل يسميه بعض علماء النفس «العقل الأسير» (Coactive Mind). وانطلاقاً من هذا العقل، يقبل الضعيف – دون تردد – بكل الأنماط الثقافية التي يفرضها عليه الغازي المتسلّط، بمختلف الوسائل والأساليب، وتعبّر هذه المعادلة التي طرفاها الغازي القوي والمنهزم الضعيف، عن تفاعل ثقافي مفروض من طرف واحد.

ذرائع دعاة تغريب المجتمعات المسلمة

  دعاة السلوك التغريبي في المجتمعات المسلمة هم حملة خطاب التغريب، أو – بتعبير آخر ـــ أصحاب العقول الأسيرة، والمنظّرون للتغريب الثقافي الاجتماعي المحلي، ويطرح هؤلاء في خطابهم التغريبي عدة ادعاءات أو ذرائع، تعبيراً عن أهدافهم الظاهرية، من أبرزها:

1 – التحديث الثقافي:

   يزعم دعاة التغريب الثقافي بأن التحديث في مجتمعات المسلمين، لا يمكن أن يحصل إلا من خلال تبني مدرسة الحداثة الغربية على مستويات الفكر، والتعليم، والثقافة الاجتماعية وغيرها، إذ إن من شأن الحداثة على الطريقة الغربية إجراء تحوّل جذري في البنى الثقافية للمجتمع. ولكن بما أن هذا التحديث هو عبارة عن قالب جاهز وافد، صنع لمجتمع معيّن، وفي إطار أيديولوجية محددة، فإن إدخال مجتمع آخر له خصوصيات مختلفة تماماً، في ذلك القالب، بهدف صهره وإعادة صياغته مع ما بينه وبين المجتمع الغربي (الأنموذج) من فجوة حضارية، سيؤدي إلى ناتج مشوّه بشع وممسوخ، ليس فيه من الحداثة إلا قشورها ومظهرها. وهو ما يمكن أن نسميه بالتحديث في المظاهر والشكل فقط، من خلال الاستهلاك المكثّف واللاواعي لمنتجات الغرب الثقافية والاجتماعية.

2 – تطوير أساليب الحياة:

   تقف التكنولوجيا في مقدمة الوسائل التي من شأنها إحداث ذلك التطوير، كما يعتقد دعاة التغريب. فالحصول على تكنولوجيا الغرب ومنتجاته الصناعية المتطورة، واستخدامها في مجتمعات المسلمين على وفق سلوكيات تغريبية معيّنة، أصبحت هي الغاية، فمثلما التكنولوجيا في الغرب تحوّلت من وسيلة في خدمة الإنسان، ومن أجل إسعاده، إلى غاية في الحياة، فإنها أصبحت عند بعض المسلمين تستخدم أيضاً على حساب المعتقدات والأخلاق والأصالة والتقاليد. وكما يقول البروفسور «رينيه دوبو» (الحائز على جائزة نوبل عام 1986) وهو يصف الحياة في الغرب: «إنها عجلة فولاذية كبيرة، تدور بسرعة جنونية لإحداث التغيير في التكنولوجيا».

  ومن جانب آخر، فإن السلوك التغريبي لا يحاول نقل التكنولوجيا الغربية المتطورة إلى مجتمعات المسلمين، لأنه من جانب الغرب – محظورة عليهم؛ ولأنها تحتاج إلى جهود ذاتية علمية كبيرة، وهو ما يعجز عنه أصحاب السلوك التغريبي، الذين يفضّلون بقاء المجتمع مستهلكاً ومتغرباً في نمط عيشه ومظهره، ومتطوراً وحداثياً في خطابه وفي وسائل الحياة (الغربية) التي يستخدمها، وليس متطوراً على مستوى استثمار جهود الغرب العلمية وتطوره التكنولوجي في المجالات النافعة. ومن خلال ذلك برزت ظاهرة اقتصادية واسعة للغاية، باتت تشكّل علامة فارقة في صناعات المجتمعات المسلمة، وهي ظاهرة التكنولوجيا المستعارة أو الصناعات التجميعية، التي تشير إلى قبول مجتمعات المسلمين بغائية التكنولوجيا وغائية الحصول عليها، ولو كانت تكنولوجيا شكلية.

3 – عصرنة العلاقات الاجتماعية:

   يقصد خطاب التغريب بمفهوم عصرنة العلاقات الاجتماعية؛ صياغة علاقات جديدة تقف على أساس المصالح الشخصية، والذاتيات الضيقة، والعوامل المادية، وتشتمل على كل المستويات، بما فيها علاقات الابن بالأب أو الأم، والأخ بأخيه، والزوج بزوجته، والجار بجاره، والصغير بالكبير، والقريب بقريبه، والصديق بصديقه، والعامل برب العمل، والموظف بمديره، والبائع بالمشتري.. الخ؛ ليكون الهدف من ممارسة الدوامة اليومية الرتيبة للحياة، والتي تبدأ فجراً وتنتهي عند منتصف الليل. هو تحصيل الفرد لأكبر قدر من المكتسبات المادية، كالمكانة الاجتماعية، والموقع الرسمي، والمال. وهذا ما يمكن تسميته مجازاً بـ«الغربة في الوطن». فالفرد في هذه الحالة يعيش غريباً في بيته وأسرته، وغريباً في منطقة سكناه ومحلته، وفي علاقته مع جيرانه، وفي دائرة عمله، وأخيراً في مجتمعه.

4 – عقلنة العواطف:

   يدع خطاب التغريب إلى عقلنة كل شيء وفي المقدمة عقلنة التفكير والعواطف. ويريد دعاة التغريب بالعواطف هنا الجوانب الروحانية والمعنوية في شخصية الإنسان المسلم. فليس القصد من عقلنة العواطف خلق حالة من التوازن بين العقل والعاطفة، أو بين وازع العقل ووازع القلب، بل القصد تصخّر العواطف، وتحجير الجانب الروحي والمعنوي في الشخصية، وحينها تكون نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى خالقه وإلى الخلق، نظرة أحادية جامدة، خالية من أي بعد روحي أو معنوي ((ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة)).

أحدث المقالات