ما انفكت بعض الجامعات العراقية بيئةً موبوءة تستشري في أحضانها كافة أنواع الأمراض المعرفية والسلوكيات الأكاديمية الشاذة. وربما كان السلوك الانتهازي أخطرها وأشدها وطأةً على مستقبل البحث العلمي والأكاديمي في العراق. ولا يعني ذلك بالتأكيد التقليل من خطورة هذا النوع من السلوكيات في ميادين النشاط الاجتماعي والاقتصادي ولكن لا يمكن وضع أي أساس عادل للمقارنة بين حجم الخراب الذي يجلبه هذا السلوك في ميدان البحث الأكاديمي وحجم الخراب الذي يجلبه نفس هذا السلوك في الميادين الأخرى. الأمر مختلف تماماً. أكثر كارثية لا بل وأكثر ضرراً إلى درجة يتعذر معها الإصلاح. ولكن لماذا؟ ببساطه لأن الفوضى الناجمة عن تبني السلوك الانتهازي في أنجاز مفردات البحث الأكاديمي لا يقف ضررها عند حد ما, بل ويتعذر كثيراً أصلاح تلك الأضرار إلى الحد الذي تصبح فيها هذه الانتهازية المعرفية قيمة بحد ذاتها, ثم تأخذ مساراً تفاقمياً يعبث بجميع المصالح المرتبطة بنزاهة البحث الأكاديمي ومصداقية المشاكل المعرفية التي يحاول الباحثون التعاطي معها. وهل توجد مصلحة اجتماعية أو اقتصادية لا بل وحتى دينية لا تنشأ أساساً عن المسارات المعرفية التي يقتحمها البحث الأكاديمي النزيه؟! بالطبع لا, لا توجد. أن مصلحة الوجود البشري برمته و على كافة مستوياته وقفٌ على جدية الباحث الأكاديمي وابتعاده عن السلوكيات التي تتنافى مع الميكانزمات الأخلاقية التي تحكم النتائج والمكتسبات المعرفية التي يُفترض بهذا الباحث أن يخلص إليها.
وربما يكون هابرماس أحد الفلاسفة القلائل الذين تصدوا لتلك العلاقة الشائكة والمتشعبة بين (نوع المعرفة) من جهة و (نوع المصلحة) المترتبة على تلك المعرفة من جهةٍ أخرى. أن المغزى من تناول مشروع هابرماس في هذه المقالة يكمن في عقلانية التصنيف الذي يضعه هذا الفيلسوف لأنواع المصالح المعرفية وذلك سيحيلنا بطبيعة الحال إلى معرفة أي نوع من هذه المصالح سيغيب ويُبَدَد كنتيجة حتمية لممارسة السلوك الانتهازي ضمن السياق البحثي الأكاديمي حصراً. ذلك سيساعدنا كثيراً في معرفة مقدار وطبيعة الخسارة الجسيمة التي ستتكبدها تلك المجتمعات التي توفر بيئة حاضنة للشريحة الانتهازية من الأكاديميين
والباحثين الآمنين في ظل الخدمات الاجتماعية التي يتنعمون ببحبوحتها على نحوٍ لا ينسجم تماماً مع حجم التوقعات المرجوة من نتاجاتهم العلمية.
أثار هابرماس في كتابه «المعرفة والمصلحة» الذي صدر في فرانكفورت عام 1999،عدة قضايا مثيرة للجدل وفي مقدمتها أزمة نقد المعرفة، وطرحها كنظريةٍ بديلةٍ للوضعية والبراغماتية والتاريخية من اوغست كونت إلى ماخ، وموضوع التأمل الذاتي للعلوم الطبيعية كما في نظرية الفهم التأويلي عند وليم دلتي، وكذلك تناول مفهوم النقد من حيث هو وحدة تنصهر فيها المعرفة والمصلحة في كيانٍ واحد. غير أن ما يهمنا في هذه المقالة هو تصنيف هابرماس لثلاثة أنواع من المصالح التي تتكشف عنها فلسفة العلم النقدية والتي يتصدى لوضع خطوطها العريضة في كتابه المذكور وهي كالتالي:
1. المصلحة المعرفية (التقنية).
2. المصلحة العملية.
3. المصلحة التحررية.
تختصر هذه المصالح الثلاث الجدوى الكلية للمعرفة على اختلاف أنواعها وتشعب فروعها: فالمصلحة التقنية لا تتحقق إلا عبر البحث التجريبي والتحليلي للعلوم الطبيعية, أما المصلحة العملية فتندرج تحت مظلة العلوم الإنسانية والتاريخية ببعدها التأويلي وهي ما يكفل وجود ما يدعوه هابرماس (العقل الاتصالي). وتأتي المصلحة التحررية لتتوج البحث الأكاديمي بصفته الفلسفية القائمة على العلوم النقدية.
وتنجدل هذه المصالح الثلاث في نظرية معرفيه واحدة ترتكز في مجملها على مقولة ترى أن العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية تتطور لمصلحة الإنسان وتحرره. وإذا ما توافرت البيئة النقدية المناسبة والقائمة على نزاهة البحث المعرفي بصفته الأكاديمية تتصدى هذه العلوم عندئذ بكل جدارة لتؤدي وظائفها المنوطة بها. وخلاصة القول إن المصالح التقنية والعملية ينبغي لها إن تتضافر مع المصلحة التحررية التي تهدف إلى بناء حياة إنسانية عادلة.
كيف سيكون مصير هذه المصالح الثلاث في ظل جيش من الباحثين الانتهازيين؟ الخسارة جسيمة ولا يمكن تصور حجم أضرارها حيث تقتات الكثير من المجتمعات الطفيلية كمجتمعاتنا على نتائج البحث المعرفي النزيه والمُنفَذ خارج حدود هذه المجتمعات, لا بل خارج حدود جامعاتها تحديداً حيث تُدير خطوط البحث الأكاديمي المزيف فيها حفنة من الانتهازيين يمتلكون قدرة فريدة من نوعها على التكيف بمرونة بالغة مع غياب الرقابة الداخلية والخارجية لمعطيات البحث الأكاديمي المزمع.
حينما ينعتق الباحث من سلطة الرقابتين الداخلية والخارجية فأنه يعلن عن بلوغه أقصى درجات الانتهازية والتنصل عما تستلزمه هذه السلطة من صرامة والتزام دءوب بمعطيات البحث المُنجز. كيف بوسعنا أن نتوقع بحثاً علمياً أصيلاً من باحث انهارت لديه منظومة الرقابة الداخلية؟ فالضمير يشكل جوهر هذا النوع من الرقابة الأخلاقية التي تؤسس أبجديات التمييز التقييمي بين السلوك العلمي الصادق وذلك السلوك المتنطع والكاذب. فباحث بلا ضمير هو كحمامة الزاجل دون بوصلتها البايولوجية, تتخبط, تحلق في مسارات تدرك جيداً أنها خاطئة, لا بل ومُظلِلة. يعد غياب الضمير بصفته مركزاً لضبط وتوجيه سلوكيات البحث العلمي البوابة الأولى والأوسع التي تمر عبرها أسراب هائلة من التبريرات والتسويات التي لا تلوي عنق الحقيقة وحسب بل وتتركها نهباً لمزاجيات الباحث ونزواته العبثية. ويعلو ضجيج وصخب (أنا) الباحث الانتهازي وينخفض وينحدر تناغم السلوك البحثي مع معطيات الحقيقة العلمية الراهنة, ناهيك عن مدى أصالة وواقعية تلك البيانات الطارئة.
ولكن لو أن الأمر قد توقف عند هذا الحد لكان بوسع مجتمعاتنا تحجيم هذه الظاهرة الخطيرة وكبح جماحها وتدارك تبعاتها الكارثية على منظومة القيم العلمية أولاً والاجتماعية ثانياً. لكن هذا الوباء يتفشى بسهولة بالغة حينما يكون مردوفاً بغياب أخر أكثر ضراوة وأوسع نطاقا ذلك هو غياب وانحسار مراكز الضبط الخارجي. إذ مهما كانت سلطة الرقابة الداخلية منتكسة لدى الفرد عموما والباحث تحديدا لا بد لها من ممارسة نوع من الضغط التأنيبي أذا ما تبين أن تقييم الآخرين لسلوك ذلك الفرد بصفته باحثاً أكاديمياً ليس جيدا بل وقد يصل إلى درجة التوبيخ الشديد مع الحرمان من المكتسبات المادية والمعنوية التي يتنعم بها هذا الباحث الانتهازي. لكن المأزق الحقيقي الذي يوفر بيئة صديقة وآمنة لا بل وحاضنة دافئة للسلوك الانتهازي يتمثل في انهيار المنظومة المركزية لسلطة الضبط الخارجي ليصبح المجتمع على أثر ذلك عبارة عن مجموعة من الأفراد المتواطئين فيما بينهم على خلق بيئة تزدهر فيها شتى أنواع السلوكيات الانتهازية وأولها لا بل وأثقلها وطأة الانتهازية الأكاديمية.
وتشخص (اللجان العلمية) في أقسام الكليات المختلفة مثالاً صارخاً ومؤلماً ينعى واحدة من أهم اللجان التي ترسي دعائم البُنى التحتية الساندة لمركز بالغ الأهمية يُفترض به أن يعمل ليل نهار على ضبط وتوجيه ومراقبة سلوك الباحثين ونزاهة مقالاتهم العلمية. اذ يُفتَرَض بهذه اللجنة أن تأخذ على عاتقها مهمة وضع الخطة العلمية المجدية التي يتوجب على الباحثين تحريك وضبط عدساتهم ومعداتهم المعرفية وفقاً لإحداثياتها. إذ لا بد لأعضائها من امتلاك ناصية الرؤية المعاصرة والمواكبة لأخر المستجدات العلمية المتعلقة بالتخصص المعني أياً كان. ويترتب على ذلك أنتاج خارطة تشتبك عبرها خطوط بحثية محدده لا بد
للباحثين من السير على هداها حتى يتسنى لهم التعاطي مع مساحات بحثية مظلمة وبحاجة ماسة إلى ألقاء الضوء عليها. أنه منظورٌ جميل لطبيعة الفلسفة الكامنة وراء جوهرية هذا النوع من اللجان الرقابية التي تُطِل برأسها كحكيمٍ يونانيٍ عجوز يتفحص جدوى ما يفعله تلامذته الصغار.
كم هو شاسعٌ هذا البون بين الأسس الفلسفية التي تأسست وفقاً لها هذه اللجان العلمية وبين الواقع المخزي والبيروقراطي لهذه اللجان في معظم جامعاتنا العراقية! فأعضاء هذه اللجان يندرجون في عضويتها وفقاً لنزوات رؤساء الأقسام غير آبهين البتة بالخلفية الأكاديمية للعضو المعني وضاربين عرض الحائط أهم اشتراطات هذه العضوية المتمثلة بقدرة العضو على استقراء المسارات البحثية المعاصرة في تخصصه الأكاديمي مما ينعكس إيجابا على ضبط بوصلة الباحثين نحو استكشاف تلك القضايا الأكاديمية المسكوت عنها أو التي تثير جدلاً علميا صاخبا لم يهدأ أواره بعد.
كل ذلك عبث في عبث. هراء يكشر عن أنياب أعضاء اللجان العلمية في جامعاتنا التي تناسلت كالقطط, وتضخم عدد خريجيها كتضخم جثة هامدة لم تُدفن بعد منذ زمنٍ بعيد لأن المحيطين بها لا زالوا, ويا لحماقتهم, يتوهمون أنها جسدٌ حي. ونظرةٌ بسيطة على أكداس الأوراق المسوَّدة في خزائن المحفوظات, و رُكام الأطاريح المغبرة التي تنوء بحملها رفوف المكتبات الجامعية تخبرك عن حجم الضلال والضياع الذين أسهمت فيهما هذه اللجان المستهترة. أنها معادلةٌ بسيطة. القيم تُوَرّث. الباحث الانتهازي لا يقود إلا باحثاً انتهازياً أخر, طفيلياً أخر, يعتاش على فُتات الموائد الغابرة ويعيد مضغها مراراً وتكراراً ثم يمرر ما في فيه من طعامٍ فاسد إلى غيره من الباحثيين الانتهازيين وهم يترقبون بجبن ما يتساقط من ذلك الفم الكريه.
أن هذا الغياب المزدوج والقاتل لمراكز المراقبة الداخلية والخارجية فضلاً عن مغريات السهولة والدِعة التين توفرهما الانتهازية الأكاديمية وفقاً لمبدأ (الي تعرفه أحسن من الي ما تعرفه) يرسم أهم الملامح البارزة للمجتمع الأكاديمي العراقي الخالي من التحديات المعرفية. إذ أن التحدي المعرفي هو المحك الحقيقي للمصداقية العلمية والبحثية للأكاديميين. وغياب هذا التحدي يخلق بيئةً آمنة, مستنقعاً آسناً وهادئاً لا تعكر سطحه الهادئ قطع الحصى الصغيرة التي يُحجم الجميع عن إلقاءها قسراً لأنهم لا يمتلكون مهارة القذف البارع لتلك القطع الصغيرة من الحصى. وربما هذا ما يفسر العدد الهائل من الجامعات في العراق (36 جامعة حكومية و 43 جامعة أهلية ما عدا كردستان), الأمر يسير, بل غايةٌ في اليسر, فالكوادر الانتهازية من أكاديميي الصدفة يزداد عددها يوماً بعد أخر, ونكوص الرقابة
الداخلية والخارجية في تفاقم مستمر, ويزداد عدد الطلاب, ولكي يحصل هؤلاء على شهاداتهم الجامعية يتوجب عليهم الاجترار اليسير لما هو أصلاً مُجتر فيعكفون على الإنشاء في ميادين بحثية لا تصلح لنيل الدبلوم لا البكالوريوس, ناهيك عن الماجستير, والدكتوراه. وتتسع المقبرة الأكاديمية لتلك النصوص المثيرة للشفقة وتختفي أصالة البحث العلمي النزيه والمليء بالتحديات في حشد من النتاج الرديء, في انهمار الشهادات الجامعية التي ما عادت تستحق ثمن الورق الذي تُطبع عليه, في فوضى الكم الانتهازي والألقاب الأكاديمية الجوفاء.