23 ديسمبر، 2024 1:56 م

السلم الاجتماعي في العراق.. من المسؤول عن تحقيقه؟

السلم الاجتماعي في العراق.. من المسؤول عن تحقيقه؟

السلم الاجتماعي يحققه النظام السياسي القائم على المواطنة، وليست مواثيق تنطلق من مناورات سياسية هدفها إبعاد المسؤولية عن الحكومة القائمة وتوزيعها على القوى المشاركة.

من يقرأ وثيقة السلم الاجتماعي التي صدرت عن الرئاسات العراقية الثلاث يجدها دستورا لجمهورية أفلاطون لما احتوته من مبادئ راقية يوضع من يطعن بها في صفوف المعوقين لمسيرة العراق الجديد، مع ما احتوته من مضامين عمومية كأنها كتبت في عالم بعيد عما يجري في هذا البلد من انهيار أمني وغياب للقانون، وانتهاك يومي للحقوق الأساسية، وطغيان مريب للفساد بكل عناصره في النهب المالي والرشوة. ومع أن من بادر إلى إصدارها واشتغل على ترويجها هم زعامات حزب الدعوة الحاكم بجناحيه، كان المواطن يتوقع أن تكون هناك وقفة جادة من المتحمسين لإصدار مثل هذه الوثيقة. وقفة مكاشفة حقيقية وجادة أمام الشعب العراقي تؤشر الأخطاء الفادحة والفشل في السياسات التنفيذية للحكومة دون اللجوء إلى توزيع الخطايا على جميع شركاء العملية السياسية. وكثر يتساءلون ما جدوى إعادة إصدار وثائق سياسية جديدة من ذات الجماعة الحاكمة في هذا التوقيت بالذات، بعدما وضعت على الرف وثيقة «اتفاقية أربيل» التي جاء وفقها المالكي للسلطة مرة ثانية عام 2010 وكذلك وثيقة مكة للسلم الاجتماعي.
إن تشخيص الواقع العراقي يؤشر على أن العملية السياسية لم تتمكن من وضع البلاد على مرافئ السلم الاجتماعي، فقد تشاركت المليشيات الحزبية المسلحة مع قوات الاحتلال الأميركي منذ 2003 في تنفيذ سياسات أمنية بطشت بالمواطنين وزجت بالآلاف منهم في السجون وفضيحة سجن أبو غريب شاهد على ذلك، وحولت العراق إلى ثكنة عسكرية يقودها الاحتلال الأجنبي مع أنصاره من الأحزاب التي وثبت إلى السلطة بتدبير من الاحتلال ذاته، وأديرت البلاد فيما بعد بدستور مليء بالألغام أصبح ظهيرا لعمليات تفكيك المجتمع العراقي وزرع الفتن الطائفية بين مكوناته حين اعتمدت شراكة السلطة المزعومة على المحاصصة الطائفية، وبقوانين كرست نزعات الثأر السياسي والطائفي، أبرزها قرارات حل الجيش العراقي والمؤسسات الأمنية وقانون اجتثاث البعث الذي ألقى بعشرات الألوف من العراقيين في الشارع. كانت الفرصة أمام الأحزاب التي استولت على السلطة لإشاعة المصالحة العامة في البلاد وليس تكريس الانقسام. وقد بادرت قوى وشخصيات وطنية لم تشارك في مجلس بريمر للحكم منذ وقت مبكر للمعاونة في بناء صرح وطني يتسع للجميع دون مزاحمة على مقدرات قيادة الجمهور والانتقال بالبلد إلى واقع ديمقراطي، وإشاعة السلم الأهلي ونبذ الطائفية، وعرضت هذه الأفكار والمشاريع لحوار وطني شامل لكن تم تجاهلها وإهمال أصحابها وتوجيه علامات التشكيك غير المنصف بنواياهم، وذلك للتمهيد لاستئثار كلي وفق حكم «الاسلام السياسي الشيعي» وهيمنة الحزب الواحد من داخل البيت الشيعي على الحكم. مما فتح الأبواب أمام سياسة حافة الهاوية التي نفذها السيد المالكي بعد تصاعد أزمة الثقة مع شركائه من المكونين السني والكردي، بعد أن منحته اتفاقية أربيل مفتاح سلطة العراق للمرة الثانية عام 2010. وانتقلت الجهود الشكلية لقيام مصالحة وطنية بين الحكام وبين معارضي العملية السياسية، إلى محاولات لترميم الفجوات بين أطرافها، وهي ما تحاول نظرياً ورقة ميثاق السلم الأهلي القيام به بإعلانها في 19 سبتمبر الحالي والتي توصف بأنها محاولة لإبعاد المسؤولية الوطنية عن المكاشفة السياسية لحالة التدهور الذي وصل إليه العراق.
الوثيقة تفتقد البرنامج التنفيذي الذي يجيب عن تساؤلات الشعب العراقي، فهل تستطيع هذه الوثيقة ومن خلالها الحكومة أن تحقق ما يلي ووفق برنامج يسبق مناخ الحملة الانتخابية البرلمانية:
أولا- إيقاف مسلسل القتل الفردي والجماعي عبر المفخخات والمسدسات الكاتمة والاعتقالات الجماعية للأبرياء، والتهجير الطائفي المبرمج مثلما حصل أخيرا لعشيرة آل سعدون العريقة في البصرة والناصرية، وغيرها في مناطق معروفة في بغداد.
ثانيا- كشف ومحاسبة شبكات الفساد المالي والجهات الداعمة لها.
ثالثا- الإيفاء بحق المواطنين بتوفير الكهرباء والماء والخدمات الصحية.
رابعا- إنهاء فعلي للبطالة والقضاء على المخدرات وشبكات الاتجار بها.
خامسا- إنهاء سياسة فرض القيود العامة على الحريات العامة، والابتعاد عن سياسة القمع المسلح للمظاهرات والاعتصامات المشروعة والتجاوب مع مطالب المواطنين.
سادسا- التخلي عن سياسة الاستئثار بالمناصب وحصرهما بحزب واحد وبرئيس الوزراء، وتحقيق التوازن في المسؤوليات الذي أقره الدستور والاتفاقات بين الأطراف السياسية. إن السلم الاجتماعي يحققه النظام السياسي القائم على المواطنة، وليست مواثيق تنطلق من مناورات سياسية هدفها إبعاد المسؤولية عن الحكومة وتوزيعها على القوى المشاركة.