17 نوفمبر، 2024 10:20 م
Search
Close this search box.

السلفيون والربيع العربي

السلفيون والربيع العربي

الدراسة التي نحن بصددها، محاولة لردم الفجوة المعرفية حول السلفيين وما ترتب من استحقاقات فكرية وسياسية على دخولهم المشهد السياسي، من نتائج وتداعيات… ناقشتها عبر زاويتين رئيسيتين:
الاولى- دراسة هذه المجموعة والحركات وتأثير الثورات الديمقراطية العربية عليهاايديولوجياً وسياسياً.
والثانية- تأثيرها المتوقع على المشهد السياسي في العديد من اقطارنا العربية خلال الفترة القادمة، وتحديداً رصد تأثير عدوى التجربة السلفية المصرية عبر تأسيس احزاب سياسية بعد ان بقيت اغلب هذه الحركات لعقود مستنكفة وترفض المشاركة السياسية من حيث المبدأ.
الفرضية الرئيسية التي تقوم عليها هذه الدراسة، تكمن في ان الثورات العربية احدثت تأثيراً على هذه الحركات، ادت الى تحولات في دورها السياسي، الامر الذي ينعكس على خطابها وحضورها في المشهد السياسي في المرحلة القادمة.
لتحقيق هذه المهمة المعرفية، تلج هذه الدراسة الى تحليل التجربة السلفية المصرية ومناقشة مدى وجود تحولات في الموقف السلفي من الديمقراطية والتعددية، واستنطاق الاجندة السياسية والاجتماعية السلفية. ثم ناقشت تأثير حقبة الثورات الديمقراطية العربية على الحركات السلفية عموماً في الوطن العربي وردود الفعل الاولية والاستجابات الملموسة لها.
بعد ذلك، تناولت الدراسة الجانب النظري والى السؤال الاكثر اهمية الذي يطرحه هذا الحضور في الوقت العربي اليوم، هو سؤال الاشتباك بين الدين والديمقراطية، وصور وصيغ هذه العلاقة الممكنة نظرياً.
ثم سقطت الدراسة التصورات السلفية للديمقراطية على العلاقة المعيارية النظرية لتقيس المسافة الفاصلة بين النقطتين، وبالتالي طرحت الدراسة سؤالا استشرافياً حول ابعاد الدور السياسي للسلفيين وآفاقه الممكنة والمحتملة في المستقبل.
بداية، يستوجب على أي كاتب او باحث عندما يتحدث عن السلفية ان يحدد التعريف المقصود بصورة واضحة. فالسلفية مصطلح فضفاض يختلف تعريفه بين الدارسين والباحثين، ولها دلالات متعددة ففي اللغة ابتداءً، يعود مصطلح السلفية الى جذر السلف، وفي المعاجم العربية مادة (سلف)، السالف: المتقدم، والسلفية، الجماعة المتقدمون، ويقصد بها عند اطلاقها العصور الاولى من الاسلام، بفرض انها تمثل الوجه الناصع والصحيح من فهم احكام الدين وتشريعاته وتطبيقاته…
وفي ادبيات الفكر السياسي، ينظر الباحثون الى السلفية، بوصفها حركة اصلاحية تسعى الى الخروج من حالة الركود العلمي والانهيار السياسي والسيطرة الاستعمارية من خلال الدعوة الى احياء التراث الاسلامي، والعمل على استعادة صورة الاسلام النقية وتطهيره من الممارسات التي علقت به تاريخيا من البدع والعوائد والشرك وترسيخ القيم الاخلاقية الاسلامية الاصيلة.
في المقابل، يعرفها آخرون بانها نزعة احتجاجية على التطورات التي طرأت على مستويين من المستويات الاساسية للدين الفكري والتعبدي، اذ تبلورت النزعة الاحتجاجية السلفية تاريخياً من دون ان تطلق على نفسها مصطلح السلفية، فلا نجد في تاريخ الفرق والمذاهب هذه التسمية في مقابل اسماء فرق متعددة كالشيعة والخوارج والمعتزلة والمرجئة.
…. هذا الاشتباك والاختلاف حول مفهوم السلفية وتعريفها نظريا وواقعياً هو ما دفع في السنوات الاخيرة باحثين الى اضافة وصف ثانٍ للتمييز بين الحركات والدعوات السلفية، كأن يقال السلفية العلمية، التقليدية المحافظة، المدرسية او المنظمة، الحركية، الاصلاحية او الجهادية… فضلاً على ان السلفية تكتسب مسميات واوصافاً مختلفة بحسب الدولة التي تنتشر فيها.
الحالة السلفية بوجه عام لا تفتقد التنظيم العالمي او الاقليمي فقط او حتى الاشكال الحركية الموحدة المحلية في الاقطار العربية، بل انها تتسم باختلافات داخلية واسعة وكبيرة على شرعية من هو السلفي.
والسلفية كذلك، ليست متجانسة في الايديولوجيات والافكار بل هي توجهات وتيارات متعددة متنوعة متباينة، وفي كثير من الاحيان متضاربة في اتجاهاتها السياسية … وان كانت تشترك في كثير من الجوانب العقائدية والمعرفية، واذا كانت السلفية ذات طابع هلامي على خلاف المدرسة الاخوانية، اذ لا ينضوي اغلبها في احزاب او جماعات ومؤسسات مؤطرة، الا انه يمكننا عموما التمييز بين اتجاهات ايديولوجية سلفية رئيسية في الموقف من العمل السياسي عموماً.
الاتجاه الاول- هو الخط المحافظ او العلمي والدعوي، وقد اختار الدعوة والتعليم ورفض مبدأ المشاركة السياسية، مركزاً جهوده على ما يعتبره تصحيحاً للجوانب العقائدية والعلمية، والرد على العقائد والافكار التي تعتبرها منحرفة بصورة رئيسية على الفرق الاسلامية الاخرى- الشيعة، المعتزلة، الخوارج- وداخل المجتمع السني، على العقائد والفرق والصوفية والاشاعرة… وهي اغلبها خلافات دينية ذات طابع عقائدي.
الاتجاه الثاني- يقف على الخط الاول سياسياً، وهو الاكثر تشدداً ضد الاحزاب الاسلامية نفسها، وتقوم مقاربته السياسية على مبدأ- طاعة اولياء الامور- ورفض المعارضة السياسية لهم بوصفها خروجاً بالكلمة او بالسيف، ويتخذ دوما موقف الانحياز للحكومات ضد الحركات الاسلامية الاخرى، وضد المعارضة السياسية، ويكاد يكون متخصصاً في الرد على الاسلاميين الآخرين وتحديدا السلفيين الذين اختاروا طريق العمل او الخطاب السياسي المعارض.
الاتجاه الثالث- على الجهة المقابلة تماماً، يقف تيار آخر، السلفية الجهادية، وتقوم مقاربته السياسية على تكفير الحكومات العربية المعاصرة ما قبل الربيع الديمقراطي، وتبني التغيير الراديكالي والمسلح في اوقات معينة، ويمثل خطاب هذا التيار الحاضنة الايديولوجية لشبكة القاعدة، ويتماهى تماماً مع خطها السياسي والحركي.
الانجاه الرابع- فيقف في الوسط، وهو تيار سلفي يجمع ما بين العقائد والافكار الدينية السلفية من جهة والعمل الحركي المنظم او حتى السياسي من جهة اخرى، ويؤمن بالاصلاح السياسي وسلمية التغيير حتى وان اختلفت المجموعات التي تمثله في تعريف الواقع او الموقف من الحكام، الا انها تتفق على العمل السياسي ومشروعية المعارضة ورفض الخيار المسلح في ادارة الصراع الداخلي.
في مقابل هذه الاختلافات الواسعة في تعريف الموقف السياسي واستراتيجيات التغيير والاصلاح، تكاد تتفق السلفيات المعاصرة عموماً على خطوط عامة في العقيدة الاسلامية، وعلى مراجع فقهية تاريخية معينة مع اختلاف قراءة تراثهم وادبياتهم، ابتداءً من بروز اهل الحديث في العصور الوسطى مروراً بأبن تيمية وصولاً الى محمد بن عبد الوهاب في العصور الحديثة.
اغلب هذه الاتجاهات الفكرية انعكست في المشهد السلفي المصري عبر خارطة متشعبة من الجماعات والمجموعات والدعاة الذين يشتركون في العقائد الدينية السلفية والمواقف الفكرية عموما تجاه العلمانية والديمقراطية والليبرالية لكنهم يختلفون في قضايا اخرى، مثل الموقف من الحكام المعاصرين.
وعلى الرغم من ان الجذور السلفية المعاصرة في مصر تعود الى بدايات القرن العشرين، الا ان الحضور السلفي تنافى وانتشر بصورة ملحوظة في العقدين الاخرين عبر الفضائيات والكتيبات والنشاطات الدعوية والعلمية والخيرية، واعتمد السلفيون بدرجة كبيرة على المساجد في نشر افكارهم عبر الخطب والمواعظ والدروس العلمية، وهو ما مكنهم من الاستفادة من تضييق السلطات على الاخوان ومطاردتهم.
ان الثورات الديمقراطية مثلت لحظة فارقة في الوعي السياسي السلفي الذي كانت فرضياته الاساسية ما قبل الثورات تقوم اما على طاعة ولي الامر وعدم الخروج عليه او رفض العمل السياسي بوصفه عاجزاً عن التغيير واحداث الفروق والالتزام بالعمل التربوي والدعوي والتعليمي او الفرضية المقابلة، لذلك ان العمل السلمي لن يؤتي ثماره والحل يكمن في العمل السري والمسلح فحسب.
ففي منعطف ثورة 25/ يناير، تباينت مواقف الاتجاهات السلفية المصرية، فوقف السلفيون الحركيون منذ البداية مع الثورة وشاركوا فيها وقدموا فتاوى في شرعيتها، بينما وقفت المجموعة الجامية (المؤيدة للحكومة) ضدها. اما التيار الاكبر من السلفيين فغلب على موقفه في البداية التشكيك في الثورة وامكانية نجاحها، ثم اتخذت البيانات التالية صيغاً تقف على بعد خطوات وراء مطالب الثورة. بينما تباينت مواقف الدعاة المستقلين في التعامل مع اعتصام ميدان التحرير، الا انه في الايام الاخيرة من الثورة انحاز اليها.
انفجر البركان السلفي في اليوم الثاني للثورة التي ضربت الميراث الفكري السياسي السلفي في الصميم عندما تمكن الشعب بالاساليب السلمية من الاطاحة بالرئيس حسني مبارك، واثبت جدوى وفاعلية النضال السياسي وجعل من الديمقراطية مطلباً اساسياً له، ما وضع السلفيين امام لحظة تاريخية فارقة، فأما الاصرار على مواقفهم السابقة بعدم الدخول في اللعبة السياسية ورفض القبول بالديمقراطية، ما سيضعهم على هامش التأثير في الاحداث التاريخية التي تمر بها المنطقة، وهو ما اختارته المجموعة الجاميّة واما مراجعة مواقفهم والانتقال الى صيغة جديدة من القبول بالديمقراطية وتكييف ذلك مع ايديولوجيتهم السابقة، وهو ما اختاره التيار العريض من السلفيين، وحظي بتأييد اغلب الدعاة والشيوخ المستقلين.
لقد دفعت حقبة الثورات الديمقراطية العربية بالتيار السلفي عموماً مرحلة جديدة، عندما قررت جماعات وحركات سلفية خوض غمار العمل السياسي والتجربة الحزبية بعد ان بقي الطيف الرئيسي والعام من هذا التيار مصراً خلال العقود الماضية على اولوية العمل التربوي والدعوي والاجتماعي ورفض الولوج الى اللعبة السياسية بذرائع واسباب متعددة ومختلفة.
فقد هزت الثورات الديمقراطية، الايديولوجيا السلفية من خلال الشعارات والهتافات والاهداف التي وضعتها الشعوب العربية لنفسها باختيار الديمقراطية نظاماً للحكم والنضال من اجلها، وصولاً الى الاعتقال والقتل والتعذيب، وموطن المفاجأة في ذلك، ان الديمقراطية بالنسبة للتيار السلفي العريض، ليست من الاسلام في شيء، فهي بضاعة غربية، بدع موفوضة، ولا يجوز تبنيها، فاذا بهذه البضاعة هي مطلب الجماهير العربية وعنوانها الابرز، ما وضع السلفيين على مفترق طرق رئيس، اما الاستمرار على المنهج السابق من رفض الديمقراطية، ما يعني عملياً الصدام مع الشارع او مراجعة الموقف من الديمقراطية والقبول بها، ما يعني عملياً التخلي عن جزء صلب وأساس من الايديولوجيا السياسية السابقة، او محاولة التوفيق بين الايديولوجيا السلفية والمتغيرات الجديدة.
ان دخول السلفيين الى المشهد السياسي وتشكيل الاحزاب السياسية، جاء ابتداءً عبر البوابة المصرية، ثم بدأ يلقي بظلاله على السلفيين في انحاء متفرقة من الاقطار العربية الاخرى… الا ان المرحلة الجديدة لم تكن بلا تكاليف سياسية وفكرية سواء على السلفيين او على اللاعبين السياسيين الآخرين، فالسلفيون الذين دخلوا اللعبة الديمقراطية كانوا مطالبين ابتداءً بالالتزام بقبولهم بشروط اللعبة ومخرجاتها ومحدداتها، ما يعني مراجعة ايديولوجية وفكرية للميراث السابق وتنقيحه لتحقيق الحد الادنى من المطلوب، وهي قضية لا تزال موضع نقاش داخل السلفيين، ولدى خصومهم ايضاً.
في المقابل، اصبح  السلفيون لا عباً سياسياً جديداً تقاسم مع الاخوان المسلمين الاصوات المحافظة دينياً في المجتمع، ودخل في مواجهات ومنافسات مع القوى السياسية الاخرى، لكنه على الرغم من تحالفه مع الاخوان في ما يتعلق بسؤال الهوية السياسية وتنافسه معهم في الانتخابات، الا انه يقدم خطاباً سياسياً مغايراً في سماته العامة عن الخطاب الاخواني، فهم –أي السلفيون – يبدون اقوى التزاما بمبدأ تطبيق الشريعة الاسلامية وأكثر وضوحاً في هوية الدولة والموقف من مصطلح الدولة المدنية وأشد خصومة مع التيارات العلمانية الاخرى.
في ختام الدراسة هذه، لا بد من تناول جملة من السيناريوهات الرئيسية التي قد تساعد على استنطاق العوامل المؤثرة والفاعلة في ترسيم مستقبل التيرات السلفية.
اننا لسنا  امام متغير واحد في ترسيم سيناريوهات الدور السياسي السلفي وابعاده المختلفة في المرحلة القادمة، فعلى صعيد التحولات الذاتية لدى السلفيين، نحن امام سيناريوهات متعددة، تبدأ من تطور ايديولوجي مطرد وكبير او جمود على المواقف الحالية، او سيناريو الانشطار الداخلي تحت وطأة الخلاف في التعامل مع البيئة السياسية الجديدة.
وعلى صعيد المعادلة السياسية الاوسع، صيغة العلاقة بين الدين والديمقراطية والدولة، فنحن امام سيناريوهات مختلفة، الديمقراطية التي تحتوي التيارات الدينية او التيارات الدينية التي تحاول احتواء الديمقراطية او العودة الى سيناريو الصراع وفزاعة الاسلاميين.
هذه العوامل مرتبطة بالضرورة ايضاً بعوامل سياسية محيطة، وبيئية موضوعية، مثل دور المؤسسة العسكرية، وحالة المجتمع المدني، وحجم الحركات الاسلامية بوصفها عاملاً متغيراً وليس ثابتاً.
لكن السيناريو الأسوأ، يمكن بارتفاع وتيرة الصراع العلماني – الاسلامي، ومحاولة كل طرف الاستقواء بمؤسسات اخرى ضد الطرف الثاني، وهو ما يمكن استثماره من قبل المؤسسة العسكرية بعد ان تشتغل ايضا مخاوف المجتمع من انهيارات اقتصادية وامنية، فتعود لغرض معادلة او نظام سياسي تضع له المحددات التي تتناسب معها.
ان السيناريوهات المتوقعة لمشاركةالسلفيين السياسية او حدود دورهم السياسي وابعاده المختلفة تتباين ما بين الأكثر ايجابية والاكثر سوءاً، تبدأ من تكريس نظام ديمقراطي تكون القوى والاحزاب السلفية لاعبا فيه، وتطور خطابها السياسي والايديولوجي للقبول بقيم اللعبة الديمقراطية ومخرجاتها، مرورا بسيناريو تعجز فيه الاحزاب السلفية عن احداث تطوير حقيقي جوهري على خطابها السياسي، لكنها تبقى جزءاً من اللعبة الديمقراطية وتمثل جناح يمين اليمين ضمن الخطاب الديني والاسلامي على غرار الاحزاب الدينية الاسرائيلية وصولا الى سيناريو انشطار التيارات السلفية ما بين النزعة البراغماتية والمحافظة.
وأخيراً، فان السيناريو الاكثر خطورة وسلبية يتمثل بتجذر الصراع العلماني- الاسلامي، واتخاذه ابعاداً اجتماعية وسياسية مختلفة، ما يؤثر على سير العملية الديمقراطية، ويؤدي الى تدخل المؤسسة العسكرية وربما توقف المسار الديمقراطي او حظر الاحزاب السلفية وانكفائها مرة اخرى نحو العمل الاجتماعي والدعوي.

• الكتاب
السلفيون والربيع العربي، سؤال الدين والديمقراطية في السياسة العربية، تأليف- محمد ابو رمان، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2013، 302 صفحة.
[email protected]

أحدث المقالات