18 ديسمبر، 2024 6:40 م

السلطة وجائزة الابداع

السلطة وجائزة الابداع

هل يمكن لسلطة سياسية تنتهك الحريات الانسانية أن تمنح جائزة لمبدع لطالما كان موقفه منها يقلقها،وصوته المميز عن اقرانه مبعث ازعاج دائم لها ولمؤسساتها ؟

من هي تلك السلطة التي شذت عن هذه القاعدة الراسخة التي تكاد ان تكون مقدسة في منظومة العمل والتقييم في كثيرمن البلدان،شرقا وجنوبا(خاصة في عالمنا العربي)فكرّمت مبدعا كبيراً إعتاد أنْ يغرّد خارج سربها ؟.هذا إذا لم تتجاهله وتركنه بعيدا في زاوية النسيان لتجعله يلعن اليوم الذي ولدته فيه أمّهُ . وعلى الارجح في هذا السياق ــ الشرق اوسطي بامتياز ــ ستلجأ الى مطاردته اينما حطت به رحلة الهروب، سعيا لاعتقاله، وفيما لو نجحت سيقضي بقية عمره خلف القضبان لايرى الشمس،وغالبا ماتتخلص منه بطريقة ما ،وكأنه لم يكن موجودا على قيد الحياة.

والسلطة بهذا الخصوص تملك من الدهاء ما يجعلها تتجنب التورط بشكل مباشر وصريح في اعلان الحرب ضد هذا المبدع،ولهذا عادة ماتلجأ الى اسلوب الإيحاء والتلميح،فتخاطب مريديها ووكلائها السريين العاملين في الوسط الثقافي لينوبوا عنها في حربها،تشويها وتسقيطا واساءة واعتداءً،وليس غريبا ابدا ان يلعب مثل هذا الدور افرادا يحسبون على خانة الادباء والكتاب والمثقفين والفنانين،فالوسط الثقافي والفني مثل غيره من الاوساط الاخرى،يضم اصنافا شتى من البشر،منهم اقرب مايكونوا الى الملائكة في حضورهم الانساني ومنهم الاقرب الى الشياطين ولاغرابة ان يكون من بينهم مرتزقة .

تاريخنا وبلافخر – البعيد منه والقريب – فيه الكثير من الأدلة ما تؤكد على رسوخ هذا السياق في منظومة عمل الكثير من الأنظمة والحكومات التي تعاقبت على كرسي السلطة وإنْ بدرجات متفاوتة وعلى اختلاف عناوينها وايدلوجياتها.

وحتى لو حاولت بعضها أن تمارس الخديعة،كأنْ تمنح جائزة الدولة لمبدع مخلص لفنه لاغير، فإنها لن تفلح في لعبتها ،لالشيء إلاّ لأنَّ المبدع الحقيقي ذاته لا يرتضي ان يضع نفسه في مثل هذا الموقف،فيخون ضميره وجمهوره الذي يحترمه في مقابل جائزة تعبر عن تواطئه مع سلطة سُجِّل على ممارسات اجهزتها نقاطا سوداء، وهذا ما كان قد اقدم عليه الروائي المصري صنع الله إبراهيم عندما رفض استلام جائزة الدولة عام 2003 ايام حكم الرئيس حسني مبارك،وكانت قيمتها النقدية تساوي 000 / 16 دولار ، وفي حينها قال صنع الله :”لم يعد لدينا مسرح أو سينما أو بحث علمي أو تعليم، لدينا فقط مهرجانات ومؤتمرات وصندوق أكاذيب، لم تعد لدينا صناعة أو زراعة أو صحة أو عدل، تفشى الفساد والنهب، ومن يعترض يتعرض للامتهان وللضرب والتعذيب. وفي ظل هذا الواقع لا يستطيع الكاتب أن يغمض عينيه أو يصمت، لا يستطيع أن يتخلى عن مسؤوليته”.

وذات الموقف اتخذه ايضا الروائي الاسباني غويتسولو عندما رفض استلام جائزة معمر القذافي للآداب عام 2009 وقيمتها النقدية 000 / 150 يورو. وقد علل موقفه هذا الى ان “المبلغ المالي المخصص للجائزة أتى من الجماهيرية الليبية التي استولى فيها القذافي على الحكم بانقلاب عسكري، كما اعتبرنفسه ليس شخصا ينساق مع القضايا دون قيود أو شروط،ولا يتردد في انتقاد الأنظمة السلطوية،سواء كانت دينية أو جمهوريات وراثية،التي تحكم شعوبها وتبقيهم في الفقر والجهل”.

الانظمة التي تطالها الشبهات خاصة في اطار حريات التعبير وحقوق الانسان تسعى دائما الى ان تستر عورتها باطلاق فعاليات ومهرجانات فنية كبيرة تغدق عليها ميزانيات ضخمة حتى لو كانت ميزانيتها تعاني ضائقة مالية وشعوبها ترزح تحت ظل بطالة وامية وشظف العيش،ولعل مسألة

منح الجوائز للمبدعين تأتي في اولويات خططها التي تهدف من ورائها الى تحسين صورتها امام المجتمع الدولي لتبدو امامه راعية للثقافة والفنون نظرا لما تشكله هذه الانشطة والفعاليات من اهمية لدى الشعوب والبلدان المتحضرة،وربما تنجح الى حد ما في خديعتها هذه لكنها لن تستطيع ان تمارس هذا الدور الى آخر الشوط طالما الامر برمته قائم على الكذب،وحبل الكذب قصير مهما طال الزمن .

لاقيمة لإية جائزة تمنح لمبدع اذاكانت تقف ورائها جهة سياسية،لانها ستجردها من اطارها الثقافي لتضعها في سياق مشروعها السياسي (ايدولوجي،ديني،مذهبي)،وبالتالي ستصدر حكما بحق المبدع ونتاجه لتضعهما معا في خانة ضيقة اشبه بزنزانة انفرادية مدى الحياة بدل ان يحلقا في فضاء واسع لاتحده حدود ولاجدران .

كثيرة هي الجوائز التي اطلقتها انظمة وحكومات اختفت مع سقوطها ،وبعض من نال تلك الجوائز حاول ان يتبرأ منها ومن النظام الذي منحه اياها ايام جبروته ومجده ولكن بعد فوات الآوان(مثلما فعل البعض ممن استلموا جائزة القذافي على سبيل المثال) وكان على هؤلاء ان يدركوا في حينه بأن الجائزة ليست قيمتها بذاتها مهما كانت قيمتها المادية عالية،بل بالجهة التي تقف ورائها.

ومازالت جائزة نوبل ــ رغم انها ارفع جائزة عالمية ولاعلاقة لها بدولة او نظام سياسي ــ يدور حولها الكثير من اللغط بسبب الدور الذي سبق ان لعبه مؤسسها الصناعي السويدي الفريد نوبل 1895،في اختراع الديناميت ، فكيف بنا امام جوائز تمنحها انظمة متورطة حتى العظم في سياسات القتل والتهجير الطائفي والعرقي لشعوبها .