لم يكن مفهوم الدولة, مبنيا على أسس عقلانية أو فكرية, يراعى فيها إيجاد فكرة الخير العام فيما مضى؛ بل أن الدولة كانت تمثل في ذاتها, تداخلا مع مفهوم السلطة المسيطرة على كل شيء, والمحتكرة لكل الأدوات والوسائل؛ والسلطة بدورها أيضا كانت تتمثل في ذلك العصر بشخص الملك أو الإمبراطور, أو النخبة الحاكمة.
إن السلطة السياسية هي حجر الأساس بالنسبة للدولة, وما يوجد فيها من مؤسسات وأنظمة سياسية؛ إذ بغير السلطة السياسية لا توجد الدولة, ولا تكون هناك أنظمة سياسية ولا حياة سياسية؛ ومن ثم فإن الحياة السياسية كلها, تتمركز حول ذلك المركب من العناصر المادية والمعنوية والذي يسمى بالسلطة.
ولكن السلطة بإطارها الممنهج بهذا الشكل, إذا تم خروجها عن حيز هذه الأطر, وتحولها الى أداة متعلقة بذوات يملكون مشروعا أحادي الطرح؛ فإن ذلك يؤدي إلى ضعف الدولة, بضعف الأسس المنهجية والفكرية التي يجب أن تقوم عليها, وسيتحول عندها معنى السلطة الى جانبه السلبي؛ فالسلطة بمفهومها الحقيقي والواقعي تعبر عن قوة في خدمة فكرة مقدسة, تتعلق بأصل وجودها, وهو المواطن؛ والمواطن بدوره يتمثل كقوة مفروضة على السلطة, من خلال تمثيلاته المؤسساتية والقانونية والدستورية؛ والقوة التي تملكها السلطة في الدولة, هي التي يولدها الوعي الإجتماعي, والتي من المفترض أن تتجه تحو قيادة المجموع, للبحث عن الصالح العام المشترك, بحيث تكون قادرة على أن تفرض على أعضاء الجماعة ما تأمر به. ومن المفترض هنا أن تكون السلطة, هي ذات الفكرة المقدسة التي تسيرها, والتي تكون نابعة من قدسية المواطن وتمثيلاته المؤسساتية في الدولة, وليست خارجة عنها .
إذا فقيام الدولة لا يعني هنا, أن تتمثل السلطة السياسية بالقوة المادية وحدها؛ فمن المفترض أن لا تكون السلطة مجرد تسلط مادي قاهر, بل أن حقيقة السلطة انما تكمن في إيمان القائمين عليها, بفكرة خدمة الصالح العام, وإيمان المحكومين واعتقادهم, بأنهم المؤسس الحقيقي لهذه السلطة, والمولد الحقيقي لأسبابها الوجودية, أكثر من كونها تكمن في إرادة الحاكمين .
إن السياسة في الوقت الحاضر, لم تعد بعد شأنا خاصا أو مقدسا أو عملا غامضا, محاطا بالألغاز والأحاجي ومسورا بالطقوس؛ أو نشاطا مقتصرا على فئة أو قلة من الممارسين للعمل السياسي؛ بل غدت السياسة كظاهرة, شأنا اجتماعيا عاما, تقوم على مفهوم المواطنة, وحق المواطن في أن يكون حاكما ومحكوما, وفي حقه بأن يمارس أنواع الضغوط المشروعة كافة, للتأثير على أصحاب السلطة والحكام وصناع القرار, حتى تؤخذ حقوقه الخاصة والعامة- أو مصالح الجماعة التي ينتمي اليها- بعين الإعتبار؛ الأمر الذي يعني أنه كفرد أو كجماعة, له موقع ودور في السلطة (الحكم), وإن كان خارج الأطر الرسمية المباشرة للدولة.
إذا فمعيار سير مركب الدولة أو (الحكم), إنما يتعلق بمعيار التفاعل الإيجابي بين المواطن, وبين استيعابه لفكرة كونه الحاكم الحقيقي, هذا من جانب, ومن جانب آخر, يتعلق الموضوع بضرورة أن يفهم القائمين على السلطة, أن المواطن وتمثيلاته المؤسساتية, هي الحاكمة أو الضابطة الحقيقية لمسيرة الدولة, وأنظمتها ومؤسساتها وما تؤمن به من رؤى وأفكار, وليس من هو قابض على أدوات السلطة هو من له الحق بالتحكم بكل الأمور, بحيث يكون : هو الدولة والدولة هو.